«ما رح أغير موقفي من القدس وشعبي كله معي»، هذا ما قاله الملك الأردني عبد الله الثاني، يوم 20 مارس (آذار) 2019، حين اختار أن يلقي رسائله السياسية علنًا بشكل مباشر بعد عودته من واشنطن؛ كي تفهمها الدول التي ألمح – هو ومسئولوه – مرارًا أنها تمارس ضغوطات على بلاده في عدة ملفات في إطار خطة التسوية في الشرق الأوسط المعروفة إعلاميًا بـ«صفقة القرن».

لقد أعلن الملك الأردني لأول مرة أمام مواطنيه أن سلاحه هو «توحُّد الأردنيين» في رفض هذه الصفقة، وقد اختار بدقة الجمهور الذي يقول أمامه خطابه السابق، في مدينة الزرقاء الواقعة شرقي عمان، ذات الأغلبية الفلسطينية الأصل، والمعروفة تاريخيًا بمدينة معسكرات الجيش «العربي المصطفوي». فأمام أهل الزرقاء أكد الملك علنًا على لاءته الثلاث: «لا لأي محاولة للمس بالوصاية الهاشمية على القدس الشرقية ومستقبلها، لا للوطن البديل، ولا للتوطين».

لماذا يرفض الأردن صفقة القرن؟

أدرك الملك الأردني عبد الله الثاني أن فحوى رسائل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر مساعده والممثل الخاص في المفاوضات الدولية جايسون غرينبلات، أو صهره ومستشار البيت الأبيض جاريد كوشنر، لا تترك مجالًا للشك بأن هدف صفقة القرن هو تصفية القضية الفلسطينية عبر السعي لنيل شرعية ودعم عربيين لهذه التصفية، وعبر ممارسة التهديد والضغط على الأردن والقيادة الفلسطينية لقبولها.

لذا عكف الأردن منذ بداية الحديث عن الصفقة على مقاومة الضغوطات الأمريكية الهادفة لقبوله بـ«صفقة القرن» مقابل تخفيف الظروف الاقتصادية السيئة التي يعيشها، فالأردن مقيّد بالمساعدات الأمريكية، ومنها مذكرة التفاهم التي تعهدت بموجبها واشنطن بتقديم 1.275 مليار دولار سنويًا من المساعدات الخارجية لعمان حتى عام 2022.

الملك الأردني مع ترامب

ويعي الأردن أن الصفقة التي تعني في النهاية تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي على حساب الأردن، تفرض أن تبقى فلسطين محتلة أو تحت الهيمنة الإسرائيلية الكاملة، وهو أمر يشكل خطرًا أمنيًا على المدى البعيد على الأردن. فالتسريبات الخاصة بالصفقة تتحدث عن توطين مليون فلسطيني في الأردن، والعمل على  تأسيس اتحاد كونفيدرالي يضم الأردن والسلطة الفلسطينية، وإدارة مدنية فلسطينية لإدارة الضفة الغربية، مع ضم المستوطنات في الضفة بشكل نهائي لإسرائيل.

حسب ما جاء في كتاب «مؤسسة كوشنر: الجشع والطموح والفساد، القصة الاستثنائية لجاريد كوشنر وإيفانكا ترامب»، للكاتبة البريطانية فيكي وارد، فإن «هذه الخطة شملت أيضًا تبادلًا للأراضي، يقوم بموجبه الأردن بمنح أرض تضاف إلى الأراضي الفلسطينية، وفي المقابل، يحصل الأردن على أرض من السعودية، التي سوف تستعيد جزيرتين في البحر الأحمر كانت قد منحتهما لمصر لإدارتهما عام 1950».

كما تنص الصفقة بأن تكون القدس موحَّدة عاصمةً لإسرائيل، وهو ما يمس الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، والتي تعد النقطة الأبرز التي يعترض عليها الأردن. فمنذ عام 1924 كانت الأردن هي الوصي الوحيد على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس، وحافظت على هذا الدور حتى بعد احتلال إسرائيل للضفة الشرقية من نهر الأردن عام 1967.

وتتوحد مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية مع رأي الشارع الأردني الداعم لاستمرار الوصاية الهاشمية على تلك المقدسات، والتصدي للصفقة التي تهدف إلى تغيير وضع تلك الوصاية؛ عبر منح دور شرفي لدول أخرى مثل السعودية والمغرب بدلًا عن الأردن، وهو هدف متوافق مع سعي دول خليجية بعينها  للانتقاص من الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس، ويدلل على ذلك ما ظهر جليًّا في مؤتمر الرباط الذي عقد في مارس 2019، حين شُطب البند المتعلق بالوصاية الهاشمية من البيان الختامي للمؤتمر.

دولي

منذ 4 سنوات
8 أسئلة تشرح لك ما هي «صفقة القرن»؟

«الغضبة الملكية» في مواجهة صفقة القرن

في آخر فصول ما هو معلن حول «صفقة القرن»، صرح مستشار البيت الأبيض جاريد كوشنر يوم الثاني من مايو (أيار) الجاري، في ندوة لـ«معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» أن الصفقة: «قد تخلو من حل الدولتين، وستكون القدس عاصمة إسرائيل الأبدية»، كما حدد الإعلان عن الصفقة في شهر يونيو (حزيران) المقبل، أي بعد شهر رمضان المبارك.

الأردن الذي شعر بالخطر لقرب تنفيذ هذه الصفقة، أقدم على اتخاذ تحركات جادة للتصدي للصفقة، عن طريق إعادة هيكلة بعض المؤسسات، فقد اتخذ الملك قرارًا مفاجئًا خلال الأيام القليلة الماضية، يقضى بإقالة رئيس المخابرات العامة اللواء عدنان الجندي وإحالة ثلاثة جنرالات إلى التقاعد في نهاية أبريل (نيسان) الماضي. كما طالت هذه التغييرات مناصب عليا في الديوان الملكي الأردني، وكذلك دائرة المخابرات العامة التي تعتبر الجهاز الأمني الأكثر قوة داخليًا، وأقرت رسالة ملكية لأول مرة بشكل علني بوقوع «أخطاء وتجاوزات» في جهاز المخابرات العامة.

وفيما ربط مراقبون تعيين مدير المخابرات الجديد بمرحلة سياسية آنية تعود لتخوف الحكومة الأردنية من عودة الحراك الاحتجاجي في شهر رمضان، يرى آخرون أن تلك القرارات تعود إلى خوف القصر الملكي من وجود مؤامرة تمس بالنظام، إذ جاءت قرارات الإقالة بعد أيام من كشف مصادر إعلامية وجود مخطط خطير لزعزعة استقرار الأردن، باستمالة الرأي العام وتأجيج الشارع.

كما أن الأردن بهذه القرارات يريد أن يكون أكثر استعدادًا لمواجهة استحقاقات المرحلة المقبلة، خاصة أن الملك الأردني لم يكف عن التأكيد أن الأردن لن يقبل بأن يمارس عليه أي ضغط بسبب مواقفه من القضية الفلسطينية والقدس، تلك القضايا التي تثيرها صفقة القرن.

بيد أنه لا يمكننا تجاهل الموقف السعودي من القرارات الأردنية الأخيرة؛ فحين قرر الملك الأردني قبل أيام تعيين اللواء أحمد حسني مديرًا للمخابرات، لم يعجب هذا الشأن الداخلي الأردني السعوديين، الذين انكب ذبابهم الإلكتروني إثر القرار بسيل من الشتائم على الأردن وملكها، على اعتبار أن تعيين حسني، وهو من أصول شركسية، يأتي في إطار التقارب الأردني مع تركيا، ونكاية في الرياض وحلفائها، ووصفوا الرجل بأنه «ذو هوى تركي».

فيما اعتبر الأردنيون أن دوافع الهجمة لا تخرج عن تداعيات موقف الملك الأردني من صفقة القرن، إذ تحدثت عدة مصادر عن عبء كبير تسببت به كل من السعودية والإمارات على الأردن لعدم قبولها لصفقة القرن. فقد ظهر في الفترة الأخيرة عدم اكتراث الرياض بتقديم دعم مالي لعمان، وتواصلت الشكاوي من أن السعودية تحاصر عمان من خلال الضغط على المانحين الغربيين، وتعمل على تحدي البساط الهاشمي من رعاية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس.

وسبق أن وجهت النائبة السابقة في البرلمان الأردني، هند الفايز، أصابع الاتهام لعدد من الدول الخليجية دون أن تسميها بالضغط على الأردن، فقالت: «عندما أتحدث عن الضغوط التي تمارَس على الأردن فأنا أتحدث بوضوح عن عدد من الدول الخليجية، تلك الدول تستخدم أموال المساعدات وسيلة ضغط»، وذكرت الفايز أن الكويت هي الوحيدة التي رفضت التطبيع.

ماذا في جعبة الأردن لدرء خطر صفقة القرن؟

في الثلاثين من أبريل المنصرم، ظهر الملك الأردني بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة بالزي العسكري، وهو يستقبل جنوده عند مدخل طائرة حربية، ثم ما أن ارتفعت هذه الطائرة للحد المطلوب حتى أشرف الملك بنفسه على فتح بوابة القفز.

الملك الأردني مع الجيش

لم يكتف الملك بذلك، بل شارك في مجريات التمرين العسكري التعبوي (القوة الضاربة)، الذي نفذته كتيبة المدرعات(2) الملكية بمشاركة أسلحة الإسناد ورماية من الطائرات العمودية المقاتلة، وشمل التمرين تطبيقات ميدانية، ورمايات بالذخيرة الحية من مختلف أنواع الأسلحة، وعلى الرغم من أن تلك المشاركة ليست الأولى من نوعها، إلا أنها تأتي الآن للتأكيد على أن الملك يدرك أن واحدة من أهم مستويات مواجهة الضغوطات لقبول «صفقة القرن» تتمثل في تعزيز دور القوات المسلحة الأردنية، وإعادة الاعتبار للعقيدة القتالية الأردنية.

ولذلك خرج خلال الأيام القليلة الماضية إعلان القوات المسلحة الأردنية أنها في أعلى درجات الجاهزية والاحتراف واليقظة، حين قال رئيس هيئة الأركان المشتركة الأردنية، الفريق محمود عبد الحليم فريحات، حول صفقة القرن: «طالما تحدث القائد الأعلى بهذه اللغة الواضحة التي ترفض جميع التهديدات والإملاءات التي لا تتفق ولا تناسب رؤية ووجود وكيان وحضارة دولتنا، التي حباها الله بهذه القيادة الحكيمة التي تخاطب العالم بلغة المنطق والحكمة والمسؤولية».

مضيفًا: «أن القوات المسلحة دائمًا في أعلى درجات الجاهزية والاحتراف واليقظة والتأهب للتعامل مع جميع الظروف المحيطة والتحديات ومجمل ما يجري داخليًا وخارجيًا».

كذلك، يمتلك الأردن القدرة على محاصرة النفوذ الإسرائيلي، والتضييق على منافذه ومسارات حركته بعد نجاحه في اختراق بعض الجدران الرسمية الأردنية وبنى تحالفات مضللة لحرف البوصلة عنه باعتباره عدو للأردن، وهي نقطة قوة تساندها قدرة المملكة على التقارب مع قوى المقاومة الفلسطينية، أو على الأقل العمل على إعادة فتح مكاتب لحركات المقاومة الفلسطينية.

ويمكن القول إن في جعبة الأردن أوراق ضغط أخرى، تتمثل في التمسك بحق اللاجئين بالعودة  ومخيمات اللاجئين، وقدرته على حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة، فهو يمتلك أداة قوية لمنع تهريب الأسلحة والمخدرات من دولة إلى أخرى.

لذا تقرأ المؤشرات السابقة في إطار لا يقتصر فقد على إصرار الأردن بالثبات على موقفه الرافض للصفقة، وإنما على تحركه الفعلي لمقاومة كل الضغوط التي تمارس عليه مع اقتراب موعد إعلان الصفقة، وذلك مع ترجيح عدم تفاقم الضغوطات الأمريكية والخليجية على الأردن خوفًا من تكرار تجربة المقاطعة مع قطر، خاصة أن الملك الأردني بدا حريصًا مؤخرًا على بناء تحالفات جديدة، مثل التقارب مع المغرب وتركيا وقطر.

المصادر

تحميل المزيد