«صحافة السجون».. تقليد عمره 200 عام في أمريكا
يعود تقليد «صحافة السجون» في أمريكا إلى أعقاب الحرب الأهلية، ويحفل أرشيف السجون بالعديد من الصحف التي مثلت متنفسًا للسجناء، يصنعون من خلالها ثقوبًا في جدار السجن تمنحهم بعضًا من نسيم الحرية، وعلى الرغم من كثرة هذه الصحف، فإنه لم يكن هناك يومًا صحيفة بمثل جرأة «التنين الأسود الأناركي»، التي أسسها مجموعة من السجناء الأناركيين في منتصف سبعينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، وهاجموا فيها نظام السجن وطالبوا بإلغائه، فما الذي تعرفه عن الصحيفة التي قتلت صاحبها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي؟
كانت «صحافة السجون» في بدايات القرن التاسع عشر تنتمي للنشاطات المجتمعية داخل السجون الأمريكية؛ إذ صدرت أولى صحف السجن مع نشوء حركة إصلاحية أمريكية تهدف إلى إعادة التأهيل للسجناء، وهو ما نتج منه السماح بإصدار المنشورات الصحفية.
ففي 25 مارس (آذار) من عام 1800، صدرت «Forlorn Hope» لتصبح أول صحيفة ينشرها سجناء، ولم تنجُ أعداد تلك الصحيفة لتوضع في الأرشيف المرئي لصحفِ السجن، لكن منذ ذلك الحين وعلى مدار 200 عام، نُشر نحو 450 صحيفة أخرى داخل السجون الأمريكية.
وكافح محررو «صحافة السجون» طوال هذا الوقت للتعبير عن ذاتهم وإيصال أصواتهم إلى الآخرين، سواء كانوا يعيشون بين أسوار السجن أو خارجه، وأراد بعض الصحافيين بناء أرضية مشتركة يمكنها أن تحقق التوازن ما بين نزلاء السجن والمجتمع في الخارج، لكن أصوات السجناء لم تكن تلقى أي اهتمام من العالم الخارجي، ولم يتعد انتشار أغلب هذه الصحف نطاق أسوار السجن، وفي هذا السياق يمكن إلقاء نظرة على واحدة من أقدم الصحف في أرشيف «صحافة السجون» وهي صحيفة «J-A-B-S» الصادرة في ديسمبر (كانون الأول) من عام 1915، وقد خططت الصحيفة لتكون غير فئوية أو سياسية من أجل جذب مختلف طبقات الجمهور.
وورد في أعداد «J-A-B-S» الكثير من التعليقات على ما يحدث داخل أسوار السجن، بدايةً من الاقتباسات عن الحياة على الجدران، ونشرة سريعة لأخبار السجن والبرامج التعليمية، ووصولًا إلى نعي السجناء لموت رفيق لهم، مثلما ورد في العدد الثامن لنعي السجين كلارك الذي مات دون أن يترك رسالة وداع لأسرته وأطفاله.
(نعي السجين كلارك في العدد الثامن من J-A-B-S)
وعملت بعض الصحف الأخرى على تشجيع العمل الإبداعي وتنمية روح التعاون بين السجناء، كما ورد بالنصِ في الصفحة الأولى من العدد الافتتاحي لصحيفة «الساعة الزجاجية» التي صدرت عام 1940، واحتوت الصفحة الأولى منها على ما سموه «الهدف من وجودهم»، وهو تشجيع الإبداع وروح التعاون في بيئة السجن، واحتوى العدد على بعض القصص والقصائد والرسوم المصورة والنكات.
(مقدمة العدد الافتتاحي من الساعة الزجاجية)
غالبًا ما كانت «صحافة السجون» تتجنب الموضوعات السياسية خوفًا من غضب الرقابة، وأحيانًا ما كانت تلجأ لاستخدام السخرية والقصص المصورة للمواراة، كما اتجهت أغلب الصحف إلى نشر موضوعات مشابهة مثل عرض برامج أنشطة السجن وإلقاء الضوء على موضوعات عامة، مثل الإفراج غير المشروط، أو التعليم.
وكانت تلك الصحف تصدر من مطابع السجون؛ إذ احتوت السجون الأمريكية على مطابع ضخمة، كما اعتمد المحررون على تعليم النزلاء الطباعة واستخدام الآلة الكاتبة لمساعدتهم في إصدار الصحف، وفي غضون ذلك خضعت «صحافة السجون» طوال تاريخها إلى هيمنة الرقابة، كما خضعت للمضايقات؛ فإذا كانت الصحيفة تتناول موضوعات لا يرضى عنها مسؤولو السجن، فإن شحنات الورق والحبر كان يجري تأخيرها عمدًا، ومن ثم لا يتمكن الصحافيون من إصدار العدد الجديد من صحيفتهم، كما عمد بعض السجناء لتخويف صحفيي السجن لعدم كتابة تقارير عن قضايا معينة.
لكن حتى ولو لم تكن تلك الصحف أناركية أو مُسيسة بالكامل، فقد حاولت بعض منشورات «صحافة السجون» تحدي الرقابة، لكنهم في المقابل واجهوا المشكلات معها؛ إذ كانت تحظر النشر في موضوعات معينة لا يُسمح لـ«صحافة السجون» بالحديث عنها، وعلى سبيل المثال، منعت سلطات السجن جريدة «سان كوينتين» من نشر مقال بعينه، فتركت الصحيفة مكان المقال صفحة فارغة نوعًا من التمرد على هذا القرار التعسفي.
التنين «الأناركي الأسود» يتكلم: لنوجه الغضب كله نحو السجن
كان العدد العاشر من صحيفة «التنين الأسود» الذي صدر في ربيع 1982، كئيبًا؛ إذ كانوا قد عثروا حديثًا على جثة كارل هارب – أحد مؤسسي الصحيفة- مقتولًا في زنزانته بسجنِ المدينة يوم 5 سبتمبر (أيلول) 1981، وهي الواقعة التي سجلتها التقارير الرسمية «انتحارًا» في سجلات السجن.
تأسست صحيفة «التنين الأناركي الأسود» في سجن مدينة «والا والا» بولاية واشنطن عام 1977، وهي إحدى مطبوعات «صحافة السجون» النشِطة في الولايات المتحدة الأمريكية، ففي السبعينيات والثمانينيات كانت «صحافة السجون» تعاني من فترة انحدارٍ بعدما اشتدت الرقابة على الصحف بوصفها تمثل تهديدًا لسلطات السجن.
وكانت «صحافة السجون» وسيلة لرفع مستوى الوعي لدى السجناء ببعض القضايا المنهجية في نظام السجن، كما أنها ساعدت على رفع أصوات بعض المعتقلين السياسيين لتصبح مسموعة وموثقة، ومن ثم كانت تعد «سلطة» مكتسبة لصحفيي السجن، وعلى الرغم من أن القوانين كانت تمنح نزلاء السجن حرية التعبير، حقًا أوليًّا وأساسيًّا، فإن مسؤولي السجن تمكنوا دائمًا من الالتفاف على مواد القانون عن طريق عرقلة عمليات الطباعة للصحيفة، ومن ثم لا تصدر أعدادها من الأساس.
ومع ذلك صدر العدد الثالث من «التنين الأسود الأناركي» في ديسمبر 1978 الذي يناقش فكرة إلغاء السجن نفسه، وقد جادلت المجموعة الأناركية في سجن «والا والا» بأن جميع السجون «تستخدم لكسر الأفراد»، كما أنها تعمل على قولبتهم، ليرضوا بوضعٍ لا يقبله أي عاقل عن طيب خاطر.
وفي هذا العدد، نُشر مقال كارل هارب الافتتاحي بعنوان «التنين يتكلم»، وما زالت كلماته حاضرة إلى الآن في أرشيف «صحافة السجون»، وقد كان ثوريًّا وجريئًا جرأة لم تعهدها «صحافة السجون» قبل أن يُنشئ الأناركيون صحيفة، يقول هارب في المقال: «كل السجون واحدة على البلاد، سواء كانت في فرنسا أم أيرلندا أم كندا، جميعها تستخدم لكسر الأفراد بطريقة غير آدمية».
ورأى الصحافي -المقتول في زنزانته- أن السجن وسيلة الدولة للضغط على من يقاومها أو يتمرد عليها، وشبه الحياة داخل السجن بـ«الاغتصاب» نظرًا إلى ما تحفل به من ضرب وخضوع وإهانة، وختم مقاله بتساؤلٍ: «هل رأيت تنينًا يخضع باستمرار للاغتصاب».
(جزء من مقال كارل هارب – التنين يتكلم)
ولم يمض وقت طويل، حتى أجرت إدارة السجون بعض التعديلات القانونية التي تتعلق بالصحافة عام 1979، وقد أشارت التعديلات إلى أن مسؤولي السجن بإمكانهم منع نشر أو توزيع أية صحيفة يحررها النزلاء؛ إذا كانت تهدد المصالح العامة؛ وهو ما وضع الكثير من القيود على حرية الصحافة والتعبير للسجناء، لكن المحاكم في الوقت ذاته كانت غالبًا ما تنحاز للنزلاء في قضايا التعبير عن الرأي، وهو ما مكن كارل هارب من استكمال نشر صحيفته رغم ظروف الحصار.
وعادةً لا ينتشر محتوى صحف السجن خارج أسوار السجن، إلا أن جماعة «التنين الأسود» كان لديهم حلفاء من الأناركيين في الخارج، ساعدوهم على نشر منشوراتهم، وعلى الرغم من ذلك، لم تلق مقالات الصحيفة أهمية كبيرة خارج نطاق السجن حتى بين الذين يشاركونهم موقفًا مناهضًا من السجن، ورغم ذلك يبدو أنه كان لكلمات كارل هارب الثورية ضد نظام السجن أثر أبعد؛ هو ما اضطر الحراس في النهاية للتخلص منه بحسب شهادات نزلاء السجن من الأناركيين.
واستمرت أعداد صحيفة التنين الأسود تناضل لإلغاء نظام السجن، وعندما توفى «كارل هارب» في خريف 1981، أصدرت الصحيفة العدد العاشر تخليدًا لذكراه، ووضعوا صورته على الغلاف وبجانبها كتبوا كلمتين، «الغضب والحب»، وفي الصفحات الأولى للعدد قدموا التحية للتنين الأناركي الأسود كارل هارب، الذي كان مناضلًا ضد الاستبداد، شاكرين مساهماته ومطالبين بعدم نسيانه.
(غلاف العدد العاشر من التنين الأسود)
وكتب صحافيو الجريدة داخل العدد أنهم لا يصدقون الرواية الرسمية عن أن كارل هارب قتل نفسه، لكنهم توقعوا أن يموت فجأة على يد المستبدين الذين طالما قمعوه داخل أسوار السجن، كما انهالت الدعوات داخل الصحيفة لمواصلة النضال الذي بدأه هارب.
بعد موت هارب، نشرت مجموعة «السلطة الخامسة» -وهي جماعة أناركية تأسست عام 1965- مقالًا في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1981، يشير إلى أن هارب قُتل ولم ينتحر كما أشارت التقارير الرسمية لسجن ولاية واشنطن، وكانت جثة هارب قد وجدت معلقة من الملابس بخطافٍ مربوط بكابل تليفزيون، ومقطوعة المعصمين، وقد سجلت الحادثة في التقارير الرسمية «انتحارًا»، بعدما أفاد حراس السجن في شهادتهم بأنهم وجدوا رسالة أخيرة من الأناركي القتيل كتب فيها: «أنا فعلت ذلك بنفسي».
واحتوى المقال على نص شهادة لسجينٍ آخر في «والا والا» عن انتحار هارب، قال فيها عن نظام التعذيب داخل السجن الأمريكية: «لو لم يكونوا هم من قتلوا كارل هارب وقطعوا معصميه وعلقوا جثته، لكانت سنوات الحرمان والتعذيب النفسي والجسدي داخل السجن قادته إلى المصير ذاته»؛ ويعني أنه لو أن التقارير الرسمية صادقة ولم يقتلوه، لكان انتحاره من هول ما لاقى داخل السجن.
واتهمت مجموعة «السلطة الخامسة» السلطات بتزييف خطاب انتحار كارل هارب، كما ألقوا الضوء على مذكرة التحقيقات التي أفادت بأن القتيل قطع معصميه بوسائل غير معروفة، وهو ما يعني أن أداة الجريمة قد أزيلت من زنزانته -بحسبهم- قبل اكتشاف جثته من قبل الحارس في السادسة والنصف مساءً.
وفي التحقيقات أفاد بعض السجناء بأن كارل قُتل على يد حراس السجن بسبب نشاطه السياسي، ففي عام 1979، احتجز هارب اثنين من الحراس رهائن مدة 12 ساعة للتنديد بالأوضاع داخل سجن «والا والا»، وفي أعقاب ذلك، اندلعت انتفاضة داخل السجن، وقد انتقم الحراس من كارل عن طريق اغتصابه بعصا، بحسب «السلطة الخامسة»، وهو ما يعني أن نشاط كارل هارب السياسية كان يتعدى كتابة المقالات.
وبعد تلك الحادثة، أصبح هارب هدفًا سهلًا لحراس السجن، فالكل يعرف هيئته، وقد نشروا شائعات عنه بين السجناء لإظهاره بمظهر الواشي حتى يتجنبه الجميع، أو أملًا في أن يقتله السجناء، بحسب «السلطة الخامسة»؛ كما أنه كان يتلقى تهديدات بالقتل.
إذا كان أناركيًا يستخدم «صحافة السجون» في وقتٍ صعب لمواجهة نظام السجن ذاته، لذا فإن الأبحاث التاريخية تلقي الضوء عليه بوصفه أحد أشهر الشخصيات المؤثرة في «صحافة السجون»، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع شخصه ونضاله، فقد كان شاهدًا وكاشفًا لما يتعرض له السجناء خلف القضبان في فترة السبعينيات والثمانينيات المضطربة، أما عما حدث لصحيفة التنين الأسود، فلم نجد لها منشورات بالأرشيف بعد العدد العاشر لعام 1982.