على إحدى صفحات جريدة «الناصرة» الفلسطينية عام 2006 وضع جامع مقتنيات إسرائيلي يعيش في القدس يُدعى بوعز بوكي إعلانًا كتب فيه: «من يعرف كريمة عبود؟»، ونُشر الإعلان في جرائد عربية محلية أخرى، وفيه يسأل عن مجموعة صور تحمل توقيعًا مذيلًا باسم المصورة كريمة عبود، ويطلب المساعدة في التعرف على تاريخ وأصول هذه المصورة الفلسطينية، كان نص الإعلان: «من لديه أية معلومات عن مصورة فوتوغراف كانت تعمل في الناصرة وعن عائلتها فليخابرني عنها على الرقم المذيل بالإعلان».
ومن ثمّ اتجه بعض من يعرفون كريمة عبود إلى جامع المقتنيات القديمة؛ لتُنسج الحكاية التي طواها النسيان، ويظهر إلى النور اسم المصورة الفلسطينية التي ظلت مجهولة لعقود، ويُكشف النقاب عن الكنز الذي تركته: مجموعة ضخمة من الصور، يمكن القول إنها أكبر مجموعة صورها مصور واحد لتلك الفترة. لقد التقطت كريمة مئات الصور.
البحث عن كريمة عبود
انشغل الباحث الفلسطيني أحمد مروات بالأمر، وتوجه إلى المُعلن، والتقاه في مدينة الناصرة، كان بوعز بوكي يحمل أربعة ألبومات من أعمال المصورة مذيلة بختمها واسمها بالعربية والإنجليزية، وكما يحكي الباحث في في مقال له بجريدة القدس العربي، فقد كان شخصًا غامضًا، لم يُفصح عن سبب وقوع هذه المجموعة بين يديه، وكان كل ما ذكره أنه يحب اقتناء الصور ويعمل على جمعها منذ سنوات كثيرة، وأنه نجح في جمع صور تاريخية لمستشرقين ومصورين فلسطينيين، وأنه حرص على التوصل إلى ما صورته كريمة عبود لما تحمله صورها من طابع خاص بحكم كونها امراة.
وبدوره واصل أحمد مروات البحث عن كريمة عبود، واستطاع الوصول إليها وتحديد الفترة الزمنية التي عاشت فيها، ليتبين له أن ما لدى الإسرائيلي كان مجموعة من الصور الخارجية التي التقتطها كريمة عبود لبعض المدن والقرى الفلسطينية في بيت لحم، حيث قبة «راحيل»، ومعالم طبريا، وشواطئها، وأسواقها، وكنائسها، وجوامعها؛ والناصرة ومدينة حيفا، حيث جبال الكرمل، والساحل، والبلدة القديمة، وميناء حيفا.
غلاف رواية سيرة عين التي تناول فيها الكاتب إبراهيم نصر الله قصة كريمة عبود
بعد مزيد من البحث توصل مروات إلى مجموعة الصور الأكثر أهمية: أعمال تصور النساء والأطفال، وصور كثيرة داخل وخارج الأستوديو، تسجل واقع الحياة بفلسطين في تلك الفترة، كان بعضها لدى عائلة كريمة عبود، وبالتحديد ابنة عمها متيل عبود التي كانت تحتفظ بمجموعة صور عائلية من تصوير كريمة، ومذيلة بختمها «كريمة عبود مصورة شمس»، عثر عليها ابنها بعد وفاتها عام 1970.
أما جامع الصور الإسرائيلي فقد باع ما بحوزته؛ إذ اعتبرها صورًا شخصية، فلم تكن هي ما يبحث عنه، ويرجّح مروات أن تكون الصور قد وصلت إليه عن طريق شرائها من شخص عربي، وهو ما كان شائعًا في الفترات الأخيرة، وخاصة في أسواق يافا، وحيفا، والقدس.
مصورة في الشرق.. هكذا سبقت كريمة عصرها
كان لمنطقة الشرق الأوسط جاذبية خاصة لدى مصوري القرن التاسع عشر فقِدم إليها 280 مصورًا من الفرنسيين، والبريطانيين، والألمان، والإيطاليين، والأمريكيين، جاء بعضهم في بعثات أثرية، وعلمية، وعسكرية خاصة، وكان بعضهم مرافقًا لمنظمات مختصة بالإنجيل أو التوراة، وأقام بعضهم مراكز تصوير محلية وعمِل فيها بعض السكان المحليين، ومن هنا تعلموا أسرار المهنة، وبرز بينهم مصورون محترفون.
وأقام كثير من المصورين الأجانب ورش عمل لتعليم التصوير شباب الأرمن في كاتدرائية مار يعقوب بالقدس، ربما كان أحدهم هو من علّم كريمة عبود، التي ولدت في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1893 بمدينة بيت لحم، فن التصوير.
مصدر الصورة – فيلم عاشقة الضوء
كانت كريمة عبود الابنة الثانية للقسيس سعيد عبود والمدرسة باربارا، وخدم الأب في كنيسة الميلاد الإنجيلية اللوثرية 50 عامًا، وهناك على مقاعد الكنيسة تأملت كريمة حفلات الزواج، وكيف تحتفظ الكاميرا بهذه اللحظات الفريدة، ومن هناك بدأ ولعها بالتصوير.
تعلمت كريمة عبود العربية، والإنجليزية، والألمانية وحصلت على شهادة في الأدب العربي بالجامعة الأمريكية في بيروت، قبل أن تتعلم التصوير، وتحصل على الكاميرا الأولى، كان ذلك عندما أتمت السابعة عشرة من عمرها، فبدأت بالتقاط صور لعائلتها.
«في باحة كنیسة المھد، حیث الھدوء الكامل، كما لو أن العالم ينتظر الصرخة الأولى ليسوع الطفل قادمة من جوف المغارة، وقفت كریمة، الكامیرا أمامھا، وھي تدور حولھا كفراشة بفستانھا الأبيض الطويل الذي تعبث به الريح»*إبراهيم نصر الله، رواية «سيرة عين»
كان شغف كريمة يدور حول تأمل تأثير الشمس في فترات اليوم المختلفة وعلى مدار فصول العام، هكذا راحت تلتقط صورًا في كل أنحاء البلاد، وقد قطعتها بسيارتها في مشهدٍ لم يكن مألوفًا أبدًا في ذلك الزمان؛ بل كان من النادر أن تقود امرأة سيارتها الخاصة، لكن كريمة فعلت ذلك وهي تحمل الكاميرا، وواصلت شغفها لسنوات، حتى بعد زواجها عام 1930 من التاجر يوسف طايع، كما ذُكرت مهنته في عقد الزواج، الذي كُتب كما جرت العادة حينذاك، فتضمن مهنة الزوج فقط دون الزوجة، لكن كريمة واصلت العمل في مهنتها التي لم تُكتب.
حفظ ذاكرة البلاد.. فلسطينيات أمام كاميرا كريمة عبود
بعد الانتداب البريطاني لفلسطين اضطرت النساء، من أجل ممارسة التصوير، إلى استخراج بطاقة ليقدمنها في الدوائر الرسمية بالمدارس الأهلية، والكليات، والجامعات، وهنا كان لكريمة دور كبير؛ فكثير من العائلات المحافظة لم تكن تقبل بأن تظهر فتياتها من خلال عدسات هذه الاختراع وحدهن.
لم تكن النساء يظهرن في الصور سوى عند بعض العائلات العريقة التي انتشر بينها تقليد التقاط صورة للعائلة بأكملها، فكانت العائلة تستقبل المصور في المنزل بأفضل ثيابها، وتجهز المنزل لتظهر الموبيليا بمنظر راقٍ، وتزين الأركان بالورود، وتوضع «الاختراعات الحديثة» مثل جهاز التليفون والفونوغراف؛ لتكون الصورة ذكرى للعائلة، ولهذا عثر على صور لعائلات من القدس، ويافا، وحيفا، وغزة، تعود لأيام الانتداب البريطاني.
دعاية لكريمة عبود في جريدة الكرمل الحيفاوية عام 1924م
هكذا توالت النساء على أستوديو كريمة عبود لتلتقط لهن صورًا فوتوغرافية، فكونها امرأة سمح لها أن تدخل البيوت، وأن تحتفظ لنا بوجوه النساء وحياتهن، فصورت كريمة الفلاحين في القرى، والأسر في المنتزهات، والحياة داخل البيوت وخارجها، بعيون امرأة فلسطينية تعرف أسرار بلادها وأجمل ما فيها، التقطت كريمة مئات الصور الفوتوغرافية لنساء المشايخ والوجهاء، ولطالبات كليات التعليم العالي في القدس، وبيت لحم، وبيروت.
وامتد عمل كريمة لتصور الأعراس والمناسبات، ويصبح لها أستوديو خاص في بيت لحم كان متواريًا عن أنظار التجار، وأصحاب الحرف، والمهن تبعًا لعادات ذلك الزمن، وحرصت على إظهار الحضارة في البيوت، وجماليات الناس وملابسهم التقليدية، والمباني الجميلة، والحياة المتنوعة.
فصورت أسواقًا تعج بالناس، ومباني تملؤها الحياة، ونساءً يتجولن في الأسواق، وتظهر في صورها محطة التاكسيات (حيفا-الناصرة) عام 1922، وفيها نساء ارتدين ملابس قصيرة وقبعات، وعلى غير ما شاع في تلك الفترة من استعداد للتصوير يبدو من عفوية الأشخاص أنها التقطت صورة حية جدًا للحياة الواقعية آنذاك.
صورة للطفل الوحيد لكريمة عبود بين ألعابه-مصدر الصورة – فيلم عاشقة الضوء
وتضمن أرشيف كريمة عبود صورًا لأبيها، ولابنها سمير بين ألعابه، وهناك صورة تعود لعام 1913 التقطتها كريمة لامرأة من بيت لحم ترتدي زيًا أفرنجيًا، وقبعة، وتحمل مظلة، ويبدو خلفها رسم زيتي مزخرف بالورد، ولم يكتب على الصورة سوى «بيت لحم» دون أي تفاصيل عن السيدة.
كما التقطت كريمة بعدستها مشاهد لم يستطع الرجال رؤيتها، ومجتمعات لم يتمكنوا من اختراقها، وبالتالي أعطت صورة واضحة عن البيت الفلسطيني في الربع الأول من القرن العشرين، فضلًا عما حفظته عن الحياة خارجه.
سكان فلسطين قبل النكبة.. مقاومة بالتصوير
كانت كريمة تواجه بعملها مشروع التصوير الفوتوغرافي الاستعماري البريطاني الصهيوني الذي حرص على ألا تبدو أي وجوه عربية تلمح إلى وجود أصحاب للبلاد، بقدر حرصه على جمع صور متعددة توثق ما تبدو عليه أرض فلسطين وطبيعتها من دون الناس؛ إذ خلف التصوير الفوتوغرافي الاستعماري صورًا كثيرة يجمعها شيء واحد: أرض خاوية بلا شعب، وتنتظر «شعبًا بلا أرض»، وهذا ما راحت كريمة عبود تواجهه في صمت، بعدستها الخبيرة التي تعرف أسرار أهلها: شعب فلسطين.
فلاحة من الناصرة- مصدر الصورة – فيلم عاشقة الضوء
وثقت كريمة عبود أثمن اللحظات، وأجمل الوجوه، في طول البلاد وعرضها، قبل أن تحل النكبة، وتضيع البلاد ومعالمها؛ ليصبح اسمها بين أسماء المصورين العالميين الذين التقطوا صورًا لا تقدر بثمن، ولتحفظ لنا وجهًا لم نره من قبل لفلسطين، يكشف سحرها، ويلمس بساطة أهلها، لقد وجدت طريقًا آخر للمقاومة: حفظت الوجوه.
ما لن يتكرر في تجربة كريمة عبود هو تمكنها من التنقل بحرية لا تتاح اليوم لأي متجول بسبب الحدود والحروب؛ إذ جابت طبريا والناصرة، كان والدها كاهنًا روحيًا في العديد من المدن والقرى الفلسطينية، فتنقلت كريمة معه لتلتقط صورًا لأنحاء البلاد، وحتى دمشق، وبيروت.
مصدر الصورة – فيلم عاشقة الضوء
ربما يمكن تخيل الجهد الذي بذلته حين ندرك كيف أنها حملت على عاتقها مشروعها ذاك وحدها، بما عناه ذلك من تحمّل تكلفة التصوير، حين كانت الطباعة الملونة باهظة الثمن، حتى أن تلوين الصور باليد بدلًا عن الطباعة كان شائعًا، كما كان للتنقل ثمنه أيضًا.
وقد نجحت كريمة عبود في إصدار 112 بطاقة بريدية لمعالم تاريخية وأماكن مقدسة، تظهر تطور السياحة في فلسطين بعد انتهاء الحكم العثماني، وبداية الانتداب البريطاني، واستخدمت الختم المتعارف عليه في المؤسسات الحكومية، وطبعت اسمها على البطاقات التي أنتجتها.
مصدر الصورة – فيلم عاشقة الضوء
وتتميز صورها بما تحمله من تنوع يصور حقيقة الحياة في فلسطين في ذلك الوقت، تظهر فيها الفلاحات يرتدين الثوب التقليدي، ونساء المدن وقد ارتدين ثياب الموضة، إنها صور مختلفة عن تلك التي شاعت عن الفلسطينيين من أنهم شعب «مكسور ومسكين»، فاستطاعت أن تنقل صورة الوجه الحقيقي لفلسطين، لا ما أراد الاستعمار نقله، ووثقت ما بدت عليه حياة الطبقة الوسطى من المجتمع، ربما يفسر هذا سبب تدمير الأستوديو الخاص بها عام 1948 مع دخول الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، واختفاء الصور في أقبية أرشيف إسرائيل.
كانت كريمة «مصورة شمس الوطنية»، و«المصورة الأولى»، و«صاحبة الآلة السحرية»، كما أطلقت على نفسها أحيانًا، وكما أطلق عليها البعض، في سنوات عمرها القصيرة قد جمعت كل هذه الصور التي تناثرت واختفت لعقود، قبل أن تُنشر عام 2013 في كتاب «كريمة عبود: رائدة التصوير النسوي فى فلسطين» للباحث أحمد مروات، والقس متري الراهب، والأكاديمي عصام نصار، وتُنظم المعارض التي تلقي الضوء على أعمالها.
رحلت كريمة عبود عن عالمنا عام 1940، وقالت عن رفيقتها (الكاميرا): «أريدها أن ترافقني حتى القبر، لكن لا أريدها أن تدفن معي، أريدها أن ترى كل الأشياء التي لن أستطيع رؤيتها فيما بعد».