لم تُمنح جائزة نوبل قط لكاتب أكثر جدارة بها من كنوت هامسون* توماس مان– أديب ألماني حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1929
في عالم الأدب ظل فيودور دوستويفسكي متربعًا بشكل منفرد على الكتابة الأدبية بصورة تمكنه دون غيره من سبر أغوار النفس الإنسانية إلى أعمق حد ممكن؛ لكن البعض يرى كنوت هامسون -الكاتب النرويجي الحاصل على جائزة نوبل للآداب- عام 1920 وصل أيضًا إلى مناطق مخيفة في النفس الإنسانية لم يصل لها سواه.
وقد أحاطت بالكاتبين ظروف متشابهة؛ ففي الوقت الذي حُكم فيه على ديستوفسكي بالإعدام وأُلغي الحكم في اللحظة الأخيرة وهو الحدث الذي أثر بشكل كبير على المسيرة الأدبية للكاتب، واجه هامسون حدثًا مشابهًا ففي سن الخامسة والعشرين، عندما تعرض لوعكة صحية شخصها الأطباء في البداية على أنها مرض السل وكان في انتظار الموت، حتى أعيد مرة أخرى تشخيص مرضه وتبيّن أنه التهاب شعبي.
لماذا يُكتب الأدب؟
ذكر الروائي البريطاني جورج أورويل أن الدافع الرئيسي وراء كتابة الأدب هو الرغبة في مشاركة تجاربنا النفيسة مع الآخرين؛ تلك التجارب التي لا ينبغي التغاضي عنها أو تجاهلها هذا بالإضافة إلى الرغبة في رؤية الأشياء على حقيقتها وذلك من خلال العثور على تلك الحقائق وحفظها من أجل الأجيال المستقبلية، ويُكتب الأدب أيضًا من أجل تغيير أفكار المجتمعات ودفع العالم في اتجاه بعينه.
في سياق متصل، يشير المؤرخ الأمريكي هوارد زن إلى أن وظيفة المبدع هي إنتاج أعمال جديدة للجمهور تمنحه الجمال والدراما والعاطفة والضحك ولكن هناك أعمال أخرى تكون أكبر من مهمة الإبداع؛ إذ يرتقي دورها إلى التسامي على الوضع الراهن والترفع عن جنون العالم وتجاوز المؤسسات المسيطرة ومحاولة الانفلات قدر الإمكان من حدودها ومما تكرسه من وضع سائد وبذلك يستطيع الأدب أن يخرج عن الفكر المسموح وأن يتجرأ على طرح أفكار لا يستطيع الآخرون مجرد التفكير بها.
الشعراء؛ يُقال إنهم تغلغلوا في أعماق القلب البشري، من كان هؤلاء المتغطرسون ممن لديهم الدهاء الكافي كي يحرزوا هذا التأثير في الحياة المعاصرة؟ لقد كانوا طفحًا جلديًا وجربًا على المجتمع، بثورًا متقيحة يجب مراقبتها باستمرار وتعهدها بالعناية لئلا تنفجر* كنوت هامسون، رواية «أسرار»
ينتمي كنوت هامسون إلى طائفة الكتاب الذين يسعون إلى هدم بديهيات ومسلمات الآخرين فمن خلال قراءة أعمال هامسون يتضح بجلاء أنه كاتب يعمل على إعادة تشكيل الإنسان بوصفه كائنًا نفسيًّا قبل كونه كائنًا اجتماعيًّا؛ ولذا فتقنية السرد عند هامسون داخلية ترتكز على المونولوج الداخلي؛ فكتابات هامسون ترتكز على الإنسان وداخله فحسب، لا يقدم إجابات واضحة ولا قناعات ولا أفكار جاهزة للتبني، فقط العالم النفسي الداخلي لأبطاله والحياة اللاواعية لعقولهم أو ما يُطلق عليه بتيار الوعي.
تيار الوعي عند هامسون
إن اكتشاف أن الذكريات والمشاعر والأفكار توجد خارج الوعي الظاهر لهو أهم خطوة حدثت إلى الأمام في علم النفس منذ أن كنت طالبًا أدرس ذلك العلم وليم جيمس– صاحب مصطلح «تيار الوعي»
تيار الوعي هو لون من ألوان التكنيك في كتابة الرواية يهدف إلى الكشف عن الكيان النفسي للشخصيات، ولذلك فإن الروايات التي يُقال عنها أنها تستخدم تكنيك تيار الوعي هي الروايات التي يحتوي مضمونها الجوهري على وعي شخصية أو أكثر.
جدير بالذكر أن تيار الوعي ليس مرادفًا للمونولوج الداخلي، وذلك لأن أدب تيار الوعي هو أدب سيكولوجي وينصب اهتمام أدب تيار الوعي على التجربة العقلية والروحية من جانبيها المتصلين بالكيفية والماهية؛ وتشتمل الكيفية على المشاعر وألوان الرمز وعمليات التداعي، أما الماهية فترتكز على أنواع التجارب العقلية مثل الأحاسيس والتخيلات والذكريات والمفاهيم والحدس، وقد ارتبط مفهوم تيار الوعي في الرواية العالمية بفيرجينا وولف وجيمس جويس ومارسيل بروست.
وتيار الوعي عند هامسون لا يعتمد على الغموض والإبهام في السرد، وإنما على العكس تمامًا يميل إلى الصراحة الفجة والتداعي المتدفق للذاكرة؛ فلا يشعر القارئ بأي تشتت، فقط صراحة مباشرة، ولا يدري القارئ هل يسهل عليه هامسون مهتمه بهذه الصراحة المباشرة أم يصعبها أكثر؛ فهدف هامسون غير مفهوم بالمرة يفضح أبطاله ويظهرهم للقارئ بشكل فج، وتنبسط كوامنهم النفسية وتتجلى بوضوح بالغ وهذا ما ظهر بوضوح في شخصية نايجل برواية أسرار؛ هذا البطل الإشكالي الذي كان يتعمد تحقير نفسه أحيانًا أمام حبيبته من أجل إظهار الحقيقة.
العوالم النفسية لشخوص كنوت هامسون
شخوص هامسون ليسوا أبطالًا بالمعنى التقليدي؛ لا يدافعون عن معتقداتهم ولا يحاربون من أجل مطالبهم وأحلامهم وإنما هم كائنات هشة، يحملون الكثير من الندوب الداخلية ومحاولة فهم تصرفاتهم ليست بالأمر السهل، فهم شخوص معقدة منهم من هو بالغ الذكاء مثل نايجل وهناك البطل الغارق في الذاتية مثل يوحنا وبالنسبة لبطل الجوع فهو شخص لا يفكر أبدًا في تداعيات التصرفات التي يقوم بها؛ وإنما يفعلها فحسب.
بطل رواية «الجوع».. كيف تعصف الحياة بجسد جائع؟
لمدينة أوسلو- تلك المدينة العجيبة التي لا يغادرها أحد قبل أن تسمه بسماتها وتترك عليه آثارها كنوت هامسون* رواية «الجوع»
كان هذا هو مستهل الرواية؛ إذ يتضح أنه لا يوجد بداية واضحة للقصة؛ بطل الرواية بلا تاريخ ولم يحدد الكاتب السياق الزمني للأحداث، ويغيب أيضًا في رواية الجوع السياق الاجتماعي والسياسي، لا يوجد في الرواية سوى العالم الداخلي للبطل؛ نفسه الرحبة بخيالاتها ووجعها وقهرها وأثر الجوع على روحه.
كنت هائج الخاطر ناقمًا على نفسي بسبب حادث القلم الرصاص، وكنت في غاية الاضطراب من جراء مقدار الطعام الذي التهمته ومعدتي خالية، وفجأة خطر لي خاطر عجيب: أحسست في نفسي رغبة شديدة في مضايقة هذه السيدة وإغضابها بأي وسيلة* رواية «الجوع»
بطل الرواية الذي يعمل كاتب مقالات بالقطعة، ويتعرض لأزمات مالية طاحنة يجعله في فقر مدقع وإحساس دائم بالجوع، يهيم متسكعًا في شوارع المدينة حيث يذكر بأنه كانت تراوده أسخف الخواطر التي كان يستمع إليها واحدًا تلو الآخر مع علمه بأنها لن تؤدي لشيء. كل هذه الخواطر سردها هامسون في روايته والقارئ لا يعلم حقيقة ما الذي يرمي إليه الكاتب، حتى يتبين له في النهاية أن الكاتب لم يكن يرغب في أكثر من التحدث عن شخص جائع فحسب وتصور حياته ويومه هكذا فقط دون أن نعلم ماذا فعل البطل في النهاية.
ولا يحاول الكاتب توضيح الأسباب النفسية التي أودت بالكاتب إلى دائرة الفقر ولا ظروف حياته قبل الفقر والبيئة التي جاء منها البطل، فصفحات الرواية تموج بالداخل اللانهائي للبطل وانفعالاته الداخلية ومواقفه المتقلبة من الإله؛ فتارة يسخط عليه ويرى أنه الله يتفنن في تعذيبه حتى يتوب ويرجع إلى حظيرته الإلهية، وتارة أخرى يناجيه بالدعاء حتى يتخلص من إحساسه الدائم بالجوع.
نيجل.. العبقرية في إرباك العقل وهدم مسلماته
كان منتصف صيف العام 1891 بداية لحدوث أكثر الأشياء خروجًا عن المألوف في بلدة نرويجية ساحلية صغيرة، ظهر شخص غريب يُدعى نيجل، شخص فريد هز البلدة بأطواره الغريبة ثم اختفى فجأة مثلما ظهر * رواية «أسرار»
تلك الكلمات هي بداية رواية أسرار، والتي من خلالها يظهر بطل الرواية نيجل قادمًا على إحدى البواخر مرتديًا بدلة صفراء فاقعة اللون ليقرر فجأة الاستقرار في تلك البلدة الصغيرة دون أسباب واضحة، وقبل أن ينزل نيجل بإحدى الفنادق في البلدة قرر أن يمشي على قدميه مسافة طويلة حتى البلدة المجاورة ويبعث لنفسه بثلاث برقيات من مكتب البريد تفيد بأنه ثري ويملك الكثير من الأموال والعقارات، وفور نزوله بالفندق قرر نيجل ترك البرقيات مفتوحة حتى يطلع عليها نزلاء الفندق ويكونوا فكرة عن ثرائه وتنتشر عنه تلك الصورة في البلدة الصغيرة.

غلاف رواية أسرار
كان نيجل مفتونًا بالتساؤلات الصغيرة والاهتمام بأمور لا تلفت انتباه أحد سواه؛ ففي إحدى المرات قرر نيجل التجول ليوم كامل جيئة وذهابًا أمام منزل قنصل البلدة السيد أندرسن على التلة لكي يحاول أن يقيس ارتفاع السقف في غرفة معيشة القنصل.
يستيقظ نيجل صباحًا في أحد الأيام ليشعر بأنه في حالة ذهنية غريبة ومبهجة؛ إذ يهتز كل عصب من أعصابه وتموج الموسيقى في دمه، ويشعر بأنه جزء من الطبيعة ومن الشمس ومن الجبال، كان عالمًا بكل شيء حيث كانت تتحدث إليه الأشجار والأرض وتتصاعد روجه مثل أرغن، وفي أيام أخرى يستيقظ نيجل في حالة مزاجية سيئة تجعله غير قادر على مغادرة الفندق؛ تلك الحالات وغيرها الكثير هي ما يسردها لنا هامسون على لسان البطل؛ ذلك البطل الذي يحضر حفلات أهل البلدة من أجل السجالات العقلية وزعزعة الثوابت والمسلمات.
في رواية أسرار يعمد كنوت هامسون إلى السخرية؛ سخرية البطل من المعتقدات الثابتة لأهل البلدة؛ السخرية من الرموز الثقافية الكبرى مثل تولستوي؛ إذ يجده البطل كاتبًا عاديًا لم يأت بجديد، ونحن في خضم تلك الأحداث ننسى من أين جاء نيجل ولماذا اختار هذه البلدة تحديدًا ولماذا قرر الانتحار في النهاية.
يوحنا ابن الطحان.. الاحتماء بالحياة اللاواعية للعقل ضد العادات المجتمعية
يمضي ابن الطحان حالمًا صبي في الرابعة عشرة من عمره، ذهنه يغلي بالأفكار على الدوام، في المستقبل سوف يصبح وقادًا. ستضمن له هذه الحرفة اللذيذة الخطرة احترام الأصدقاء * رواية «فيكتوريا»
العامل المشترك بين جميع شخوص هامسون هو: غليان أذهانهم على الدوام بالأفكار، ومشاركة القراء بجميع تلك الأفكار والانفعالات الداخلية، هذا بالإضافة للصراع الذي يخوضونه سواء مع أنفسهم على غرار بطل «الجوع» ونيجل، أو مع المجتمع على غرار يوحنا بطل رواية «فيكتوريا».
يوحنا هو شاب فقير يعمل والده طحانًا ويمتهن هو الكتابة في نهاية الأمر، يقع يوحنا في حب فيكتوريا الفتاة الأرستقراطية، التي تبادله الحب ولكنها تضطر أن تتركه بسبب الفارق الاجتماعي بينهما وتُخطب للملازم الأول أوطو الذي يُقتل أثناء إحدى رحلات الصيد.
تحاول فيكتوريا بعد وفاة خطيبها أن تعود ليوحنا، ولكنه يكون في ذلك الوقت قد خطب كاميلا التي أنقذها من الغرق والتي بدورها تتركه في النهاية وتقع في حب شخص آخر، وبسبب معاناتها المستمرة وتعاستها الدائمة تموت فيكتوريا في النهاية، ومع أن القصة تبدو تقليدية للغاية إلا أن عالم يوحنا طغى أيضًا على جميع صفحات الرواية، وفي الوقت الذي سُميت فيه الرواية باسم فيكتوريا لم تظهر البطلة إلا لمامًا؛ إذ انصب تركيز هامسون على يوحنا.
بينما كان يوحنا يتأمل بزوغ النهار من النافذة واصلت الأفكار فيضها داخل رأسه، ألفى نفسه بغموض كاف على حافة واد في البعد، يعزف أرغن مهجور موسيقاه الشجية، دنا قليلًا ليفحص الآلة الموسيقية فوجدها تنزف: خيط دم يسيل من خاصرتها من دون أن تتوقف عن العزف* رواية «فيكتوريا»
كان يوحنا كاتبًا غزير الإنتاج، ربما كان ذلك عائدًا إلى حبه المستحيل لفيكتوريا؛ إذ كان يكتب بنهَم شديد وفي غضون مدة قصيرة أصبح اسمه فجأة على كل لسان وانتشرت كتبه بجميع الأرجاء، وكعادة هامسون لم يعرف القراء لماذا تخلى يوحنا عن فيكتوريا بسهولة بالغة رغم حبه العظيم لها، ولماذا خطب كاميلا بتلك السرعة ولماذا لم يحرك ساكنًا حين تركته من أجل آخر؟