منذ سنتين أخرج الأمريكي داميان شازيل فيلمه الاستثنائي «Whiplash»، والذي رج مشاعر الملايين من محبي الموسيقى عمومًا، وموسيقى الجاز خصوصًا.
وسرد الفيلم الحائز على ثلاثة جوائز أوسكار، قصة طالب في معهد الموسيقى يحاول أن يشق طريقه إلى المجد. كان يجهد نفسه ليالي طويلة ليتقن اللعب على آلة «الدرامز»، يضع على حائط غرفته صور لاعبي الدرامز الأسطوريين: بادي ريتش، وإليفين جونز، ويستمع إلى شرائطهما بلا انقطاع، ويسلم نفسه إلى أستاذ قاسٍ يريد صناعة أساطير موسيقية جديدة من طلابه، حتى لو بدت طريقته الشرسة غير معتادة وشديدة الصعوبة، يكاد الطالب يتحطم تمامًا ويتخلى عن حلمه تحت الضغط الرهيب، إلا أن الموازين تنقلب في نهاية الفيلم، ويتغلب البطل على نفسه لتشرق موهبته بشكل جديد خارق، وينجح الأستاذ في وضع تلميذه بالفعل على أول سلم المجد.

المصدر: japantimes.co.jp
وفي فيلمه الجديد المنتظر «La La Land» يستكمل شازيل استعراض غرامه بموسيقى الجاز، عبر فيلم غنائي استثنائي، تقع أحداثه في مدينة لوس أنجلوس، ويحكي قصة لاعب بيانو شاب، وممثلة شابة يسعيان لتحقيق ذاتيهما، والبحث عن سلم الشهرة والمجد.
فيلم كلاسيكي
صُوّر الفيلم بتقنية «CinemaScope»، التي يميزها الكادر العريض، الذي يزيد عرضه مرة ونصف تقريبًا عن صورة «Wide Screen»، ما يفسح لكاميرا شازيل التقاط مشاهد واسعة ومريحة وثرية لرقصات واستعراضات أبطال الفيلم، ومشاهد اللاعبين الموسيقيين، وإبراز ديكور الفيلم، وليل لوس أنجلوس المرصع بالنجوم.
نفس التقنية استخدمت ما بين الثلاثينات والستينات في أفلام الأبيض والأسود، الذي يحاول فيلم «La La Land» إعادة غمس المشاهد في أجوائها. رغم أن الفيلم بالألوان، إلا أنه نجح في استدعاء أجواء كلاسيكيات هوليوود الغنائية باقتدار.
الفيلم الذي تقع أحداثه في الوقت الحاضر تبدو فيه ملابس الأبطال، وإكسسواراتهم وكأنها ترجع لعشرينات أو ثلاثينات القرن الماضي، ملابس راقية بسيطة، وألوان زاهية، وسيارات مكشوفة الأسقف، وتصوير المواقع تم بين ضواحي المدينة، وفي نوادي الجاز الليلية، والسينمات التي تعرض أفلامًا قديمة، بعيدًا عن صخب مركز المدينة، وناطحات السحاب، والمباني الحداثية، التركيز في الكادرات على الليل، والنجوم، وألوان الشفق، والغسق ما بين الأحمر الناري والأرجواني الدافئ، لا هواتف ذكية، ولا أجهزة كمبيوتر في الفيلم، ولا تكنولوجيا تزن أو تطن.

المصدر: Farewenotentertained.com
وكان من المفترض أن يقوم بدور البطولة، بطل فيلم «Whiplash»، الممثل الشاب «Miles Teller»، وكان أيضًا بطل فيلم War Dogs، وذلك بمشاركة الممثلة الإنجليزية الشابة «Emma Watson» بطلة سلسلة أفلام هاري بوتر، إلا أنه لارتباطهما بأعمال أخرى أُسند الفيلم للثنائي «Ryan Gosling» (في دور سباستيان) و«Emma Stone» (في دور ميا).
ويتمتع الثنائي بكيمياء خاصة فيما بينهما، بخاصة وقد جمع بينهما عملان ضخمان من قبل، وذلك في فيلم «Gangster Squad» المأخوذ عن قصة حقيقية تدور أيضًا أحداثها في لوس أنجلوس،
حول رجل العصابات «Mickey Cohen»، وكذلك الفيلم الكوميدي «Crazy,Stupid,Love» الذي يحكي قصة رجل مطلق يحاول بمساعدة صديق له اكتشاف الحب، والعالم من جديد.
في «لالا لاند»
كلمة «La La Land» لها معنيان، الأول إشارة إلى مدينة لوس أنجلوس (Los Angeles)، والثاني إحالة مباشرة لعالم الفانتازيا الخيالي الذي يهرب إليه الكثيرون في نوع من أحلام اليقظة؛ لينفصلوا عن واقعهم بمشاكله وصعوباته لوهلة قبل أن يعودوا ويصطدموا بقسوته مرة أخرى.
يبدو الفيلم بالفعل كحلم، لا تعرف أين يبدأ الواقع فيه، وأين ينتهي، تكافح ميا من أجل الحصول على دور في مسلسل، أو فيلم، أو مسرحية، تذهب إلى عشرات من تجارب الأداء بلا فائدة، وتعمل في مقهى صغير بجانب أستوديوهات هوليوود حيث يشتري منها نجمات السينما يوميًّا قهوتهن، بينما تنظر هي إليهن في انبهار، تتعرف إلى العازف الموسيقي الشاب سباستيان الذي يعمل في مطعم ملحق به نادٍ للجاز، يعزف فيه خماسي كلاسيكي على آلات الدرامز والترومبيت والترمبون والتشيلو، بجانب البيانو الذي يعزف هو عليه. وعلى الرغم من سعادته بالعمل في هذا المكان، إلا أن تحكم مدير المطعم في القوائم الموسيقية التي ينبغي عليه عزفها للترفيه عن الزبائن، تجعله يشعر أن مواهبه يتم التضييق عليها وخنقها، ويحلم بامتلاك نادٍ للجاز خاص به.
يشجع سباستيان حبيبته على إتمام مشروع كانت قد بدأته، كتابة مسرحية مبنية على شخصية واحدة، تسعى لتقديمها على مسرح صغير، في نفس الوقت يأتيه عرض من فرقة جاز جديدة يؤسسها صديقه القديم كيث (يقوم بدوره المغني الحائز على الأوسكار John Legend)، ينشغل سباستيان مع الفرقة التي تحاول تقديم الجاز بشكل جديد متطور؛ لإعادة إحياء هذا الفن الذي على وشك الانقراض، يقاوم في البداية هذا الشكل الجديد من الموسيقى التي اعتاد عليها، إلا أن إقبال الناس على حفلات الفرقة فيما بعد جعله يشعر بالفارق، ويقتنع. يبدو الممثل رايان جوسلينج مبهرًا وهو يلعب على البيانو، الذي تعلم العزف عليه خصيصًا من أجل الفيلم، والمفارقة أن جون ليجند تعلم الجيتار خصيصًا أيضًا من أجل الفيلم، ليترك آلته الذي تعود أن يلعب عليها -البيانو- لجوسلينج، وصرح ضاحكًا في مقابلة تليفزيونية أنه شعر بالغيرة من الأخير لقدرته على تعلم الآلة، والتمكن منها في وقت قصير.

المصدر: ThePlaylist.com
إعادة تقديم موسيقى الجاز
يبدو المخرج داميان شازيل وكأنه يستكمل ما بدأه في فيلم «Whiplash» من إعادة تسليط الضوء على موسيقى الجاز الكلاسيكية، وإعادة تقديمها لجمهوره من الشباب في قالب جديد مشوق، وفي ذلك مخاطرة كبيرة من المخرج الجريء، لاختلاف موسيقى الجاز الجذري عن موسيقى البوب التي اعتادت عليها الأجيال الحالية لسنين طويلة. فبينما تعتمد موسيقى البوب على بناء «Structure» محكم، بأنماط محددة، حتى ولو كانت شديدة السطحية والبساطة، يعتمد الجاز على التجريب والارتجال والتحرر التام؛ مما يجعل تذوقه شديد الصعوبة للبعض. المفكر العربي الأمريكي الراحل إدوار سعيد كان لا يستطيع استساغة موسيقى كوكب الشرق أم كلثوم، كان يجدها شديدة العشوائية، بالمقارنة مع موسيقاه الكلاسيكية المفضلة من أعمال باخ، ورحمانينوف حيث يوجد بناء متماسك، وأنماط متكررة كان يفضلها.
استطاع جوسلينج وستون تقديم أغانٍ رائعة بصوتيهما، ربما أبرزها أغنية «City of Stars» التي تثير الشجن، وكثيرًا من المشاعر في النفس، لما تتناوله من تساؤلات عن المستقبل، وأملًا في أن يكون مشرقًا، خوفًا ورجاءً في نفس الوقت. ونجحا في تتويج الموسيقى لتكون البطل الرئيسي في الفيلم، وليست القصة، أو العلاقة الغرامية، أو الدراما التي ربما تكون نمطية للغاية.
تبدو الأمور مع سباستيان على ما يرام، ويخطط مع الفرقة لتسجيل أول ألبوم موسيقي لهم، والقيام بجولة ترويج له في أوروبا، بينما تمضي الأمور بميا من سيئ إلى أسوأ، يحضر مسرحيتها عدد قليل من أشخاص لا يزيد عددهم على أصابع اليد، تسمعهم بعد العرض من وراء الستار يهمسون بعبارات قاسية تنتقد المسرحية، وتنتقد أداءها. يحاول سباستيان تهدئتها، وإقناعها بأن آراء الناس لا تهم، المهم هو ما تعتقد هي، وما تحبه هي، وما تجد نفسها فيه، ويحاول أن يساعدها على التقديم في تجارب أداء جديدة، بعد أن كانت على وشك اتخاذ قرار ترك التمثيل للأبد.
يدور كل ذلك وسط موسيقى لا تكاد تنقطع، واستعراضات راقصة غاية في الجمال والرقي، بذل النجمان جهدًا كبيرًا في التدريب على الرقص، وخصوصًا الرقص النقري بالأقدام، إلا أنهما قدما مع باقي أبطال الفيلم لوحات راقصة وموسيقية مذهلة تبهج النفس، وتشبع الروح بفن راقٍ يفتقده المشاهد هذه الأيام. بجانب السحر المقدم في استعراضات يطير فيها البطلان في السماء، ويرقصان فيها وسط النجوم، مرتحلين إلى عالم الفانتازيا، عالم الـ«لا لا لاند»، حيث يتركان مشاكلهما مؤقتًا ويستمتعان بلحظات الحب، والرقص، والموسيقى، والبهجة.
موعد قريب مع الأوسكار
يبدو الفيلم كمزيج بين أفلام وودي آلان الكلاسيكية الهادئة، وبين أفلام روب مارشال الموسيقية الراقصة، ويبدو الفيلم كما لو كان تداخلًا بين فيلم آلان «Café Society»، وفيلم مارشال «Nine».
يُذكر الفيلم أيضًا بعمل قديم للمخرج مارتن سكورسيزي، ومن بطولة النجم روبرت دي نيرو تحت اسم «New York، New York» (لاحظ تكرار اسم المدينة مرتين مثل تكرار اختصار LA في فيلمنا)، ويدور حول قصة عازف جاز أيضًا يلعب آلة الساكسفون، ويرتبط بمغنية، ويسعيان لشق طريقهما أيضًا.
ويبدو التشابه كبيرًا إذا ما نظرنا حتى إلى ملصق فيلم سكورسيزي، حيث سنجد شازيل وقد استخدم نفس الفونت المكتوب به عنوان فيلمه، وهو فونت يحمل اسم «Yasashii Regular» قام بتصميمه فنان ياباني في نهاية القرن العشرين، وظل يستخدم على أفيش أفلام العشرينات والثلاثينات كبصمة أصيلة لأسلوب «Art Nouveau» الفني السائد في هذه الفترة، والذي نجح شازيل في استدعائه مرة أخرى بصريًّا، وموسيقيًّا باقتدار.
حاز فيلم «La La Land» مؤخرًا على سبع جوائز جولدن جلوب، وصعد بسرعة الصاروخ ليحتل الترتيب رقم 24 على قائمة أفضل الأفلام في التاريخ على موقع السينما الأشهر «IMDB»، متخطيًا أعمال كلاسيكية لأساطير السينما الأمريكية مثل «Psycho» لهيتشكوك، و«It’s a Wonderful Life» لفرانك كابرا. ما يجعله مرشحًا بقوة لنيل جائزة الأوسكار لأحسن فيلم في فبراير (شباط) القادم.
علامات
editorial, La La Land, أفلام, السينما, النجوم, سينما, فن, فيلم, لا لا لاند, مدينة النجوم, مدينة النجوم تتلألأ