في ظل موضة التحول نحو الأطعمة الغذائية النباتية التي يشهدها العالم منذ سنوات، بدأ العلماء محاولات مضنية من أجل توفير كل منتجات الحيوانات لكن دون استخلاصها من الحيوانات، بل عبر استخدام بدائل نباتية تعطي الشكل واللون والطعم نفسه.
وشهدت الفترة الماضية طفرة في هذا المجال، خصوصًا مع إعلان عدد من الشركات تصنيعها للنظائر النباتية للحوم أو بدائل اللحوم المصنعة من مواد نباتية وليست حيوانية. وتقارب نظائر اللحوم هذه بعض الصفات (مثل الملمس والنكهة والمظهر) أو الخصائص الكيميائية لأنواع معينة من اللحوم. والعديد من هذه النظائر تعتمد على فول الصويا أو الجلوتين، مع إمكانية صناعتها من بروتين البازلاء، والبروتين الفطري.
هذا ما يتعلق باللحوم، لكن هذا ليس كل ما ينتجه الحيوان. لذلك، كانت هناك رغبة من قبل علماء وباحثين في توفير نظائر لأحد أبرز منتجات الحيوانات، وهو الحليب. بالطبع هناك أنواع حليب من مصادر نباتية مثل حليب الصويا، وحليب جوز الهند، لكننا نتحدث هنا عن إنتاج حليب له مواصفات الحليب الحيواني نفسها، تمامًا مثل نظائر اللحوم النباتية.
رحلة البحث عن نظائر منتجات الألبان
ربما واحدة من أبرز الشركات الأمريكية التي قطعت شوطًا مميزًا في هذا المجال، هي شركة «Perfect Day»، في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، والتي تقود ثورة الغذاء المعتمد على إيجاد بدائل للمنتجات الحيوانية من منتجات نباتية.
البداية كانت عام 2014، عندما حاول مؤسس الشركة، ريان بانديا (Ryan Pandya) صناعة أحد أنواع الكعك المحشوة بكريمة الجبن. بانديا كان يحاول تصنيع كريمة الجبن هذه من مكونات نباتية وليس من الحليب الحيواني، مستخدمًا فول الصويا. لكن بانديا واجه نتيجة محبطة عندما كانت كريمة الجبن سائلة وخفيفة مما أفشل تجربته.
بانديا كان قد تحول إلى اتباع النظام النباتي في التغذية خلال سنوات المراهقة، وذلك على خلفية قلقه من تأثير استهلاك اللحوم على رفاهية الحيوانات والبيئة، من وجهة نظره. لكن انتقال بانديا للنظام الغذائي النباتي واجهته معضلة كبيرة، إذ إنه كان من محبي منتجات الألبان.
وبعد فشل تجربته مع كريمة الجبن، بدأ بانديا يبحث عن طريقة أفضل لصنع منتجات الألبان التي يحبها بدون أبقار. وأثناء بحثه تواصل مع باحث آخر يسمى بيرومال غاندي، الذي كان يبحث عن حل للمشكلة نفسها، لينشئا معًا شركة «Perfect Day»، والتي أصبحت رائدة حقبة جديدة وأكثر استدامة في منتجات الألبان، وذلك عبر استخدام عملية «التخمير الدقيق» لإنتاج منتجات الألبان التي تحتوي على نوعية البروتينات الحيوانية (الكازين ومصل اللبن) الموجودة في حليب البقر، لكنها مصنوعة بدون اللجوء للأبقار.
التخمير الدقيق.. ثورة في صناعة الألبان
«التخمير الدقيق» يعني استخدام الكائنات الحية الدقيقة المعدلة وراثيًّا من أجل إنتاج منتجات حيوانية، وأبرزها حاليًا هو الحليب. أبرز البروتينات الموجودة في الحليب الحيواني هي مصل اللبن والكازين، لذلك فإن تصنيع حليب يحتوي على هذين البروتينين من مصادر غير حيوانية يعني أننا صنعنا حليبًا أقرب للحليب الحيواني لكن دون أخذه من الأبقار.
بالطبع، فإن عملية التخمير باستخدام الميكروبات ليس تقنية غذائية جديدة. إذ اخترع البشر الخبز والجبن والزبادي والبيرة والنبيذ منذ آلاف السنين اعتمادًا على عملية التخمير التي تحدث عبر إضافة أنواع معينة من الخمائر (أنواع من الفطريات) والبكتيريا.
لكن في التقنية الجديدة هذه، فإننا نستخدم نوعًا من الكائنات الدقيقة المعدلة وراثيًّا (غالبًا نوع من الفطريات التي تسمى (Trichoderma fungi). إذ يغير العلماء التسلسل الجيني للحمض النووي لهذه الكائنات الدقيقة بهدف توجيهها لتصنيع وإنتاج أنواع معينة من البروتينات (مصل اللبن والكازين في هذه الحالة).
تزرع هذه الكائنات الحية الدقيقة المعدلة وراثيًّا في خزانات التخمير (bioreactors)، حيث تحول الكربوهيدرات الموجودة في سكر الذرة إلى بروتينات الألبان قادمة من منتجات نباتية وليست حيوانية. بعد ذلك تحدث عملية فصل لهذه البروتينات عن الجراثيم المعدلة وراثيًّا، ليكون لها الخصائص الحسية والغذائية نفسها مثل نظائرهما المشتقة من الحيوانات. ويمكن تجفيف هذه البروتينات واستخدامها مكونات في الأطعمة الأخرى التي يفترض أن تحتوي على بروتين الألبان.
تعود تقنية التعديل الوراثي للكائنات الدقيقة لتوجيهها لصناعة بروتينات وإنزيمات معينة إلى سبعينيات القرن العشرين، عندما تسابقت شركات التكنولوجيا الحيوية لاستخدام الهندسة الوراثية لإنتاج إنزيم الكيموسين من البكتيريا أو الخمائر. والكيموسين (أو الرينين) هو أحد إنزيمات الهضم الخمسة في معدة العجول الصغيرة، والمسؤول عن هضم البروتينات، وهو مسؤول عن عملية تخثر اللبن من أجل صناعة الجبن. وجاءت عملية التسابق هذه بعد حدوث نقص في هذا الإنزيم الذي كان يستخلص من معدة العجول؛ مما تسبب في مشكلة في صناعة الأجبان.
لكن.. ما الفرق بين إنتاج اللحوم والحليب في المعمل؟
مقارنة بإنتاج اللحوم النباتية، فإن الحليب أبسط. بالنسبة للحوم، فإن نقطة البداية هي الخلايا الجذعية المستخرجة من الحيوان، والتي يتم تربيتها في وسط معين يساعد على توليد ونمو العضلات من هذه الخلايا، بالإضافة إلى الأنسجة الدهنية والضامة في بعض الأحيان. في المقابل، فإن الحليب هو مجرد مزيج من الجزيئات الحيوية شبه الذائبة في الماء، وبالتالي يسهل إعادة تكوينه.
يتكون الحليب من ستة بروتينات فقط، أربعة منها تنتمي لبروتين الكازين، واثنان منها من مشتقات مصل اللبن، بالإضافة إلى الدهون والسكريات والمعادن، وكلها معلقة (شبه ذائبة) في الماء. في الوقت الحالي، تركز معظم شركات الألبان التي تعتمد على التخمير في إنتاج مكونات بروتين الحليب بدلًا من إنتاج الحليب كامل الدسم.
على سبيل المثال، تنتج شركة «Perfect Day» بروتينات مصل اللبن باستخدام فطر «Trichoderma reesei» لاستخدامها مكونًا غذائيًّا. هذا البروتين غير الحيواني يدخل في ثلاث ماركات من الآيس كريم النباتي المعروضة حاليًا للبيع في الولايات المتحدة، بوصفه مكون الحليب في الآيس كريم. بكلمات أبسط، فإنه لا حاجة لإنتاج حليب كامل، بل يمكن إنتاج مكونات الحليب واستخدامها في المنتجات التي تحتاج إلى إدخال الحليب ضمن مكوناتها.
بالنسبة لهذا الآيس كريم النباتي، فإن سعره تنافسي يصل إلى 5.99 دولار مقابل كمية تصل لنصف اللتر. هذا السعر رخيص ومناسب ويتناقض بشكل صارخ مع اللحوم النباتية المكلفة؛ إذ يمكن أن تكلف بضع قطع من الدجاج النباتي بقدر ما تكلفه وجبة عشاء فاخرة من شريحة اللحم الحقيقي.
السبب في ذلك هو أن التخمير يعد تقنية مألوفة في صناعة الأغذية، لذلك لا يضطر أحد إلى ابتكار عمليات إنتاج جديدة وتوسيع نطاقها. والأفضل من ذلك، لا يتعين على أحد إقناع المنظمين بأن الأطعمة صالحة للاستهلاك البشري، لأنها مصنوعة باستخدام كائنات دقيقة وعمليات معترف بها عمومًا على أنها آمنة. فعندما طلبت «Perfect Day» من إدارة الغذاء والدواء الموافقة على بروتين مصل اللبن في عام 2020، منحتها الإدارة الموافقة فورًا.
حليب أكثر أمانًا
أهم ما يميز إنتاج الحليب النباتي بهذه التقنية، أنه أكثر صحة من الحليب الحقيقي، نظريًّا. إذ ينتج هذا الحليب دون بعض المكونات الموجودة في الحليب التقليدي مثل المضادات الحيوية أو الهرمونات، وهي التي يكون لها بعض التأثيرات غير المرغوبة أحيانًا. كذلك، يقل احتمال أن يكون الحليب النباتي ناقلًا للعدوى التي تنقلها الأغذية ومنتجات الحليب الطبيعي.
كذلك، يمكن صناعة الحليب النباتي بدون اللاكتوز، والذي لا يتحمله الكثير من الناس. كذلك، يمكن أن يحتوي على دهون صحية ويمكن تدعيمه بالعناصر الغذائية. كل هذا كلام نظري حاليًا، لأننا في انتظار نزول هذا النوع من الحليب إلى الأسواق ومعرفة ما تمكن الباحثون من الوصول إليه في هذه التقنية، فالآيس كريم هو المنتج الوحيد الموجود في الأسواق ومتضمن الحليب النباتي أو أحد مكوناته.
والجبن أيضًا في الطريق
في ألمانيا، تركز شركة «Formo» على صناعة الجبن؛ إذ تجري صناعة بروتينات الكازين ومصل اللبن عبر التخمير، ثم تستخدم صناعة الجبن التقليدية لتحويل هذه البروتينات إلى جبن موزاريلا وجبن الريكوتا. يمثل هذا خبرًا سعيدًا لأولئك النباتيين، لأن العديد من هؤلاء يكرهون التخلي عن الجبن، والتي تمثل أكبر نقطة ألم لمن يريد التخلص من المنتجات الحيوانية.
وتخطط الشركة الألمانية للكشف عن نماذجها الأولية في حدث خاص يتضمن تذوق الناس المنتجات في برلين في وقت لاحق من هذا العام.
مع وجود الآيس كريم في السوق والجبن قيد التطوير، فإن المكان التالي المتوقع أن يذهب إليه الباحثون هو الحليب كامل الدسم للشرب، أو وضعه في الشاي والقهوة. هذا يمثل تحديًا، ليس بسبب القيود التكنولوجية، ولكن بسبب ما أطلق عليه «حروب الحليب».
ففي الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، نجحت صناعة الألبان في الضغط على المشرعين لوقف بدائل الألبان النباتية المصنوعة من الشوفان والمكسرات من استخدام كلمتي «حليب» و«زبادي». وفي العام الماضي، صوت البرلمان الأوروبي على تمديد الحظر ليشمل أي استحضار لمفهوم منتجات الألبان، لكنه في مايو (أيار) أسقط القرار بعد الضغط من قبل ائتلاف من مجموعات رعاية البيئة والمستهلكين والحيوان. لذلك، لا يزال الطريق طويلًا ومليئًا بالتحديات.