«مليون مهاجر عبروا الحدود البريطانية في عام 2020»، عندما تقرأ هذه الجملة قد تحسب أن هؤلاء مهاجرين غير شرعيين وصلوا إلى المملكة البريطانية عبر القوارب أو متسللين عبر الحدود، ويمكن أيضًا أن تفهم من هذه الإحصائية أن مواطنين من أنحاء مختلفة من العالم هاجروا إلى بريطانيا بطريقة رسمية ساعين لحياة أفضل، لكن الواقع على خلاف ذلك، إذ إن هذا الرقم يدل بالفعل على مهاجرين ساعين إلى حياة أفضل، ولكن ليس في بريطانيا، بل خارجها.
فقد أشارت الإحصائيات الرسمية للحكومة البريطانية إلى أنه بنهاية عام 2020 هاجر نحو مليون شخص من بريطانيا، وقد مثَّل أصحاب الجنسيات الأوروبية نحو 200 ألف شخص من هؤلاء المليون الذين تركوا البلاد.
فقد سلب الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي (بريكست) المواطن الأوروبي حق العمل داخل أراضي المملكة المتحدة، وذلك إلى جانب تفشي جائحة فيروس كورونا، التي دفعت مئات الآلاف لاتخاذ قرار الهجرة من بريطانيا.
ترتب على ظاهرة الهجرة المتزايدة من بريطانيا نقص في الأيدي العاملة الماهرة، التي كانت تتولى مهامًّا حيوية ومؤثرة في البلاد، وبجانب دوافع هؤلاء للهجرة تأتي الشروط المعقدة التي تفرضها الحكومة لاستقطاب المهاجرين الجدد لتضيف إلى أسباب تدهور حالة العمالة الماهرة في المملكة سببًا آخر.
السياحة والزراعة والشحن وصناعات اللحوم.. أبرز المتضررين
في عام 2019، قُدرت مساهمة السياحة في الاقتصاد البريطاني بنحو 237 مليار جنيه إسترليني، أي نحو 370 مليار دولار أمريكي، وقبل انتشار وباء كورونا، كان ربع العاملين في قطاع السياحة في المملكة المتحدة من الأجانب، وكان نصف هؤلاء تقريبًا من دول الاتحاد الأوروبي، وفقًا لتقريرٍ شامل عن الصناعة نُشر في أغسطس (آب)، وقد تضخمت أعدادهم بأكثر من 60% في السنوات الخمس التي سبقت استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
حاليًا، تشير أحدث الأرقام الرسمية في المملكة المتحدة إلى أن عدد الوظائف الشاغرة في قطاع الضيافة يبلغ 165 ألفًا في فترة الثلاثة أشهر من سبتمبر (أيلول) إلى نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2021 الفائت.
وبالانتقال إلى الصناعات الغذائية، فقد كان قطاع إنتاج اللحوم أبرز المتضررين، وقد أجبر النقص الحاد في اليد العاملة الذي ضرب المملكة المتحدة في الأشهر القليلة الماضية، مصنعي اللحوم المحليين على تصدير رؤوس الماشية للذبح خارج بريطانيا ثم نقلها مرةً أخرى إلى بريطانيا للبيع، إذ تشير التقارير إلى أنه يجري إرسال الأبقار حاليًا إلى أيرلندا لذبحها وتعود في صورة لحوم خام ومنتجات لحوم مصنعة، بينما يقوم منتجو لحوم الخنازير بتصدير الخنازير إلى هولندا للذبح والتعبئة.
قطاع الماشية في بريطانيا
ويعاني قطاع الشحن أيضًا في بريطانيا، بسبب النقص الحاد في أعداد سائقي الشاحنات الذي يقدر بنحو 100 ألف سائق، وهو ما عزته منظمات النقل إلى استبعاد مواطني الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وانعكس ذلك بالطبع على سرعة عمليات الشحن والتوزيع، فأصبحت أرفف العديد من المتاجر فارغة، وتعطل عدد كبير من محطات الوقود، وتراكم العمل في الموانئ، فإلى جانب ظهور نقص حاد في الاحتياجات الأساسية، خسرت المملكة المتحدة ملايين الجنيهات البريطانية.
وبالانتقال إلى الزراعة، كانت الزراعة البريطانية تعتمد بشكلٍ خاص على حرية تنقل عمال الاتحاد الأوروبي قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكان جميع العاملين الموسميين في قطف الفاكهة والخضراوات البالغ عددهم 70 ألفًا تقريبًا من أوروبا الشرقية في عام 2017، وذلك وفقًا للتقارير التي قدمها الاتحاد الوطني للمزارعين (NFU) إلى البرلمان البريطاني، وفي العام التالي، أفاد تقرير صادر عن اللجنة الاستشارية للهجرة أن 99% من العمال الزراعيين الموسميين هم من دول الاتحاد الأوروبي.
كانت هذه الصناعات وغيرها قد تأثرت سلبيًّا بفعل معدلات الهجرة الضخمة من بريطانيا في الشهور الماضية، وذكرت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية، أنه في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي ارتفع عدد الوظائف الشاغرة في المملكة المتحدة لتسجل 2.7 ملايين وظيفة مع تفاقم نقص العمالة
اللاجئون هم الحل الأقرب.. ولكن بريطانيا تعاند
على الرغم من أن دولة مثل إيطاليا لا تعاني النقص الحاد الذي تعانيه بريطانيا في الأيدي العاملة، فإنها منحت حق اللجوء لما يقرب من 60 ألف شخص خلال عام 2021 المنصرم، ويذكر أيضًا أن ما مجموعه 150 ألف لاجئ قد نجحوا خلال العام الماضي في الاستقرار في عدة دول أوروبية.
ففي سبتمبر (أيلول) 2021 نشرت الحكومة البريطانية عبر موقعها الرسمي تقريرًا يتضمن إحصائية تفيد بوجود نحو 37 ألفًا من طالبي اللجوء على الأراضي البريطانية خلال عام 2021، وذكرت أيضًا أن الحكومة منحت 13 ألفًا فقط منهم حق اللجوء، أي أقل من النصف.
وطبقًا للقوانين الحالية، فإن من منحتهم بريطانيا حق اللجوء رسميًّا هم فقط الذين يسمح لهم بالعمل رسميًّا، أما طالبو اللجوء فعليهم انتظار قرار الحكومة بالبت في طلباتهم، أو يمنح لهم الحق في العمل بعد 12 شهرًا من تقديم طلب اللجوء في حال تم البت فيه.
وبجانب ذلك فإن هناك تضييقًا آخر تمارسه حكومة بوريس جونسون على طالبي اللجوء، وهو تهديد طالبي اللجوء برفض الاستقبال، فعلى سبيل المثال وجهت وزيرة الداخلية البريطانية، بريتي باتيل، رسالة إلى قوارب اللاجئين التي تصل عبر القناة الإنجليزية قائلةً «غيروا اتجاه هذه القوارب».
متظاهرون يطالبون بالسماح بالهجرة إلى بريطانيا
وبجانب تصريح باتيل، صرح النائب البريطاني المحافظ، لي أندريسون، لصحيفة «الجارديان» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، قائلًا: «أنا أفضِّل أن أرسل هؤلاء اللاجئين إلى جزر فوكلاند، فهذه الطريقة الوحيدة التي توجه بها رسالة لهؤلاء، فإذا حاولت المجيء إلى بريطانيا، فأنت سوف ترسل إلى جزيرة تبعد 8 آلاف ميل عن هنا»، ويذكر أن جزر فوكلاند تقع في جنوب المحيط الأطلسي بالقرب من قارة أمريكا اللاتينية، وتقع تحت حكم المملكة البريطانية منذ عقود.
ولكن لماذا كل هذا العداء تجاه اللاجئين؟ الإجابة عن هذا السؤال يمكن أن نجدها في تصريح آخر لصحيفة «الجارديان» أدلى به النائب المحافظ كريج ماكينلي قائلًا: «أجرينا انتخابات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكانت إحدى القضايا الرئيسية هي السيطرة على حدودنا، هذا مصدر قلق كبير لدائرتي الانتخابية والعديد من ناخبينا في جميع أنحاء المملكة المتحدة».
فبعد استفتاء خروج بريطانيا في عام 2016، لم يتمكن الحزب المحافظ الحاكم من الحفاظ على عدد كافٍ من المقاعد في البرلمان لتمرير مشروع الخروج من الاتحاد الأوروبي، لذلك لجأ بوريس جونسون وحزبه إلى عقد انتخابات جديدة في ديسمبر (كانون الأول) عام 2019، والتي تمكن من الفوز بها بأغلبية ساحقه، بعد أن كان العنصر الأساسي في حملته الانتخابية هو «استعادة بريطانيا السيطرة الكاملة على حدودها».
فقد كان قصر الوظائف على مواطني بريطانيا ومنحهم الأولوية في الحصول عليها بدلًا من مساواتهم مع الجنسيات الأوروبية الأخرى، أحد أكبر النقاط التي صوتت لأجلها الأغلبية في استفتاء الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي.
وفي مقال له نشرته صحيفة «الجارديان» البريطانية؛ قال الكاتب والمحلل السياسي البريطاني سيمون جينكنز: «معظم هؤلاء اللاجئين هم من الطبقة الوسطى الذين دفعوا ثمنًا باهظًا لرحلتهم، وهم يشتملون على الأطباء والمهندسين والأكاديميين والممرضات، فضلًا عن بناة وطهاة ومزارعين، وهذه المهن هي ما تحتاجه أوروبا بشدة وقد رحبت بها أسواق العمل الأوروبية المفتوحة، ولا سيما بريطانيا، ولكن في الماضي».
ومن الجدير بالذكر أن وباء كورونا تسبب في انكماش اقتصادي لبريطانيا بنسبة 10% في عام 2020، هو الأسوأ منذ أكثر من 300 عام، وبريطانيا تحتاج إلى حل أزمة نقص الأيدي العاملة، حتى تتدارك الخسائر الاقتصادية؛ فهل تتوقف بريطانيا عن كبريائيها وتسمح للاجئين بالمرور ودفع الاقتصاد البريطاني إلى الأمام؟