أثار إعلان سعد الحريري، الممثل السياسي الأبرز للطائفة السنية في لبنان، تعليق مشاركته في الحياة السياسية، وعدم الدفع بأي مرشح من تيار «المستقبل» في الانتخابات النيابية المقبلة، الكثير من الجدل حول مستقبل السنة في الحياة السياسية اللبنانية، في ظل أزمات اجتماعية وسياسية، وحالة من الانغلاق السياسي يشهدها لبنان منذ سنوات، خاصة في ظل غياب أي بديل واضح يمكن أن يملأ الفراغ الذي يشكله الحريري وتيار المستقبل الذي يقوده.
الطائفية السياسية في لبنان.. مقدمة تاريخية لا بد عنها
لا تقتصر الطائفة في لبنان على الانتماء الديني، بل تتعداه إلى الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فالطائفة إطار ينظّم أعضاءها اقتصاديًا واجتماعيًا، وهي مركز ولائهم السياسي، والطائفية في لبنان لها جذور تاريخية عميقة، وقد ساعد على ترسيخها نظام الملل الذي اتبعته الدول العثمانية، إذ تُرك لكل مجتمع ديني مهمة تنفيذ قوانين وأنظمة الدولة العثمانية بما يتناسب مع ظروفه.
كما أسهمت الدول الأوروبية المتصارعة في إذكاء التنافس الطائفي منذ القرن التاسع عشر، فقد عمدت كل دولة إلى رعاية إحدى الطوائف؛ فدعمت فرنسا المسيحيين الموارنة، ودعمت روسيا القيصرية طائفة الروم الأرثوذكس، وإنجلترا الدروز، كما عمق ذلك الانفصال الجغرافي بين الطوائف، فالسنة يعيشون في بيروت والشمال، والموارنة في جبل لبنان والشمال، والشيعة في الجنوب.
وحين جاء الانتداب الفرنسي على لبنان في أعقاب الحرب العالمية الأولى، اعتمد على الطائفية أساسًا للحكم والتوظيف، فنص دستور الانتداب على أن الطائفية تعد «تحقيقًا للعدل والوفاق، فهي تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة، وفي تشكيل الوزارة»، وقد حابت سلطات الانتداب الفرنسي طائفة المسيحيين الموارنة بشكل خاص، وكثفت وجودهم في الوظائف الهامة.
ولا تتوفر إحصاءات دقيقة رسمية تحدد أعداد ونسب الطوائف الدينية في لبنان، لكن أحدث التقديرات الإحصائية لـ«وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي إيه)» عام 2018 تقدر نسبة السنة في البلاد بـ30.6 %، ويتركزون أساسًا في المراكز الحضرية شمالي لبنان في مدن بيروت (خاصة في قسمها الغربي في حين يتركز المسيحيون المارونيون بشرق المدينة) وطرابلس وصيدا، فضلًا عن بعض مناطق الريف مثل عكار وسهل البقاع.
رفيق الحريري.. العصر الذهبي لسنة لبنان
إبان الحقبة الناصرية، تأثر كثير من أبناء السنة في لبنان بالمد القومي ، وحاول الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر استقطاب السنة لإيجاد موطئ قدم لمشروعه العروبي في لبنان لكن تلك الحالة لم تدم طويلًا، بعد انهيار مشروع الوحدة مع سوريا، ثم هزيمة 1967 التي أصابت التجربة الناصرية في مقتل، ثم وفاة عبد الناصر عام 1970.
Embed from Getty Images
جدارية لرفيق الحريري
وحين اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، اصطف كثير من السنة في معسكر منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، وبعد هزيمة عرفات وخروجه من بيروت، عملت القوات السورية التي تدخلت في لبنان على سحق التنظيمات المؤيدة للفلسطينيين والتي كانت تشكل غطاء تنظيميًا لسنة لبنان، مثل «حركة المرابطون»، و«حركة الوحدة».
مع نهاية الثمانينات، سطع نجم شخصية سنية لعبت لاحقا دورًا رئيسًا في المشهد السياسي اللبناني لأكثر من عقد ونصف، وهو رجل الأعمال اللبناني ابن مدينة صيدا الساحلية، رفيق الحريري، الذي تمتع بدعم سعودي، ولعب دورًا محوريًا في صياغة اتفاق الطائف عام 1989، الذي أنهى سنوات من الاقتتال الأهلي، وشكل أساس التنظيم السياسي وتوزيع السلطة بين الفرقاء اللبنانيين.
وقد نصّ اتفاق الطائف على أن يكون منصب رئاسة الجمهورية في لبنان للمسيحيين، ورئاسة البرلمان للشيعة، على أن ينتمي رئيس الوزراء إلى الطائفة السنية، وفي هذا السياق ترأس رفيق الحريري خمس حكومات لبنانية، وتمكن بفضل علاقاته الواسعة من إعادة إحياء الاقتصاد الوطني، وأصبح رمزًا للازدهار الاقتصادي وإعادة الإعمار بعد سنوات طويلة من الحرب.
لذا نجح رفيق الحريري في أن يحتكر موقع الزعامة بين سنة لبنان بلا منازع – عبر تيار المستقبل الذي أسسه عام 1995 – وبفضل مكانته السياسية والاقتصادية تمكن من كسب الاحترام بين كل فئات المجتمع اللبناني.
لكن تلك الحال لم تدم طويلًا، فبعد خروج الإسرائيليين من لبنان بمطلع الألفية، انضم الحريري إلى صفوف المنادين بانسحاب القوات السورية من البلاد، وتوترت علاقته بحزب الله، وبالرئيس اللبناني الموالي لسوريا إيميل لحود، وفي فبراير (شباط) 2005، اغتيل الحريري بتفجير استهدف موكبه في بيروت، في عملية ستتوجه أصابع الاتهام الدولية فيها لاحقًا لحزب الله، وإن دون أدلة دامغة.
ابن الوز ليس عوّام.. إخفاقات سعد الحريري التي لا تنتهي
ظلت زعامة «تيار المستقبل» في بيت رفيق الحريري، إذ تولى نجله سعد – الذي كان يبلغ حينئذ 35 عامًا رئاسة التيار – لكن اغتيال رفيق الحريري، والمحكمة الدولية التي تشكلت للتحقيق في عملية الاغتيال والتي اتهمت عناصر في حزب الله- أدخل لبنان عمومًا، والسنة خصوصًا في أتون أزمات متلاحقة لا تزال تبعاتها مستمرة إلى اليوم؛ إذ اندلعت اجتجاجات شعبية سُميت بـ«ثورة الأرز»، انتهت بانسحاب القوات السورية من لبنان في أبريل (نيسان) 2005.
وانقسم الطيف السياسي اللبناني منذ ذلك الحين إلى فريقين: تحالف «14 آذار»، وفي القلب منه «تيار المستقبل» وهو فريق مدعوم؛ مما يُعرف بـ«دول الاعتدال العربي»، وبخاصة المملكة العربية السعودية ودول الخليج، في مقابل ما يُعرف بـ«قوى 8 آذار»، والتي يشكلها «حزب الله» والقوى المتحالفة معه، وخاصة «حركة أمل»، وتتلقى الدعم من «دول الممانعة» سوريا وإيران.
قضى سعد الحريري في معترك السياسة أكثر من عقد ونصف، وهي نفس المدة تقريبًا قضاها والده زعيمًا منفردًا للسنة بعد اتفاق الطائف، لكن سعد الحريري قد فشل وعبر محطات عديدة في مجاراة نجاحات والده، بل لاحقه سوء التقدير والرهانات الخاسرة في كل خطوة يخطوها.
ففي السابع من مايو (آيار) 2008، كانت العاصمة اللبنانية بيروت على موعد مع «أخطر» حدث أمني منذ الحرب الأهلية، بعد أن انتشر آلاف المسلحين المنتمين لحزب الله بقمصانهم السوداء في بيروت، وجاء ذلك ردًا على محاولة الحكومة اللبنانية تعطيل شبكة اتصالات تابعة لحزب الله في المدن اللبنانية باعتبار أنها «غير قانونية»، فيما كان الحزب يراها ضرورية لسلاح «المقاومة»، وأسفرت الاشتباكات في العاصمة عن مقتل العشرات، وفي النهاية اضطرت الحكومة للتراجع، ليفرض حزب الله كلمته على خصومه بقوة السلاح.
بعد ذلك بشهور قليلة، وفي محاولة لتخفيف حدة الاستقطاب، تعاون «حزب الله» مع تيار المستقبل لتشكيل حكومة «وحدة وطنية» برئاسة سعد الحريري، الذي اتخذ خطوة «جريئة» بزيارة العاصمة دمشق، ولقاء بشار الأسد، لكن حكومة الحريري الأولى لم تصمد أكثر من عامين، فقد انسحب منها وزراء «حزب الله» و«حركة أمل» في يناير (كانون الثاني) 2011، بسبب خلافات حول تحقيق المحكمة الدولية في اغتيال رفيق الحريري؛ ما دفع الحريري إلى مغادرة بيروت، ليقضي السنوات اللاحقة متنقلًا بين فرنسا والسعودية.
عاد الحريري إلى بيروت عام 2014، حين كانت تشهد البلاد تشهد أزمة رئاسية بسبب شغور منصب الرئيس عقب انتهاء ولاية سليمان فرنجية، وعقب محاولات حثيثة وطويلة، تمكن سعد الحريري من التوصل إلى اتفاق مع «التيار الوطني الحر»، اختير بموجبه قائد التيار الوطني الحر ميشيل عون رئيسًا، ليجري تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة ثانية نالت ثقة أغلب الأطراف في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016.
ولم يمض أقل من عام على تشكيل الحريري حكومته الثانية، حتى تعرض لأزمة سياسية كُبرى، بعدما خرج في خطاب متلفز من العاصمة الرياض بثته وسائل إعلام سعودية، أعلن فيه استقالته من رئاسة وزراء لبنان، وهاجم فيه حزب الله وسلاحه، معتبرًا أياه «دولة داخل الدولة».
أثيرت الشائعات حول تعرض سعد الحريري للاختطاف من طرف السلطات السعودية، وأن استقالته جاءت تحت الضغط السعودي بسبب عدم رضي الرياض عن سياسة الحريري «المتسامحة» مع حزب الله، لكن الحريري عاد بعد أسابيع إلى بيروت، وتراجع عن الاستقالة بعد لقاء جمعه بالرئيس اللبناني ميشيل عون، ليعود إلى منصب رئيس الحكومة.
اهتزت صورة سعد الحريري بفعل تلك الأحداث، وصار يُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره سياسيًا ضعيفًا، وفي الانتخابات النيابية الي جرت في مايو 2018، عاقب الناخبون «تيار المستقبل» عقابًا أليمًا، ففقد ثلث مقاعده.
وحصل على 21 مقعدًا فقط، ولكن الحريري ظل في منصب رئيس الحكومة بالاتفاق مع حزب الله، وإن كان في موقف أضعف من ذي قبل وهامش أضيق للمناورة، خاصة مع فقدانه الدعم السعودي، لكنه استقال في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 تحت ضغط احتجاجات شعبية اتهمت الطبقة السياسية بالفساد والافتقار للكفاءة.
الانسحاب الغامض.. سنة لبنان في «النفق المجهول»
في نوفمبر 2020، أعيد تكليف الحريري بتشكيل الحكومة اللبنانية عقب استقالة حكومة حسان دياب إثر انفجار مرفأ بيروت، لكن سعد الحريري فشل في مهمته هذه المرة، بعد أن أضحي في أضعف حالاته.
وبموازاة ذلك تراجع الدعم السني لـ«تيار المستقبل» وانخفضت مقاعده البرلمانية، ولم يتمكن من الحفاظ على تماسك «تحالف 14 آذار» بعد أن خرج الزعيم الدرزي وليد جنبلاط من التحالف، كما دبت الخلافات بينه وبين حزب «الكتائب اللبنانية» بقيادة سمير جعجع، كما انهارت تفاهماته مع «التيار الوطني الحر» بقيادة ميشال عون وجبران باسيل، ودخل لبنان في أتون أزمة اقتصادية وخدمية غير مسبوقة، فضلًا عن فقدانه الدعم السعودي.
وفي 24 يناير 2022 أعلن سعد الحريري «تعليق نشاطه السياسي»، وقرر عدم الترشح – لا هو بشخصه، ولا بأي من مرشحي كتلته بـ«تيار المستقبل» – في الانتخابات النيابية المقبلة، معتبرًا أنه «لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبّط الدولي، والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة».
لا شكّ أن منع الحرب الأهلية فرض عليّ تسويات. هذا كان سبب كل خطوة اتخذتها، كما كان سبب خسارتي لثروتي الشخصية وبعض صداقاتي الخارجية والكثير من تحالفاتي الوطنية وبعض الرفاق وحتى الإخوة*سعد الحريري في تبريره لقرار انسحابه من الحياة السياسية اللبنانية
وتفتح اتسحاب سعد الحريري الباب أمام السنة إلى السيناريو المجهول؛ إذ سيحرم ذلك سنّة لبنان من الممثّل الأبرز طائفتهم، ويثور الكثير من القلق حول الفراغ الذي قد ينشأ في الطائفة السنية بعدما انسحب الحريري و«تيار المستقبل» من المشهد.
فـ«تيار المستقبل» هو التيار الوحيد الذي تتمتع بالإمكانات الاجتماعية والقوة التنظيمية التي تؤهله لتمثيل مئات الآلاف من السنة على امتداد التراب اللبناني، وبدونه يمكن أن ينشأ نوع من «اللامركزية السنّية الفوضوية»، حسب تعبير بعض المراقبين، يحاول فيها أشخاص وناشطون العمل على تعزيز طموحاتهم السياسية بلا أي رابط فكري أو سياسي يمكن أن يقدم مشروعًا واضح المعالم.
وبحسب تحليل مايكل يونج، الباحث بـ«معهد كارنيجي لدراسات الشرق الأوسط»، فإن من شأن خطوة الحريري الأخيرة أن «تثبط عزيمة السنّة وتزيد من تشرذم أصواتهم؛ ما سيفسح المجال أمام خصوم الحريري، ولا سيما حزب الله والتيار الوطني الحر، للحصول على مقاعد إضافية».
وفي حين توجهت أنظار البعض إلى بهاء الحريري، الشقيق الأكبر لسعد، والذي بدأ يطل برأسه إلى الحياة السياسية منذ عام، واعتاد على توجيه انتقادات لأخيه سعد الحريري ولتيار المستقبل، بل قام بتأسيس نواة لتيار سياسي سني آخر هو حركة «سوا للبنان».
لكن العديد من التقديرات ترجح عدم نجاح بهاء الحريري في ملء فراغ أخيه، فكثير من محاولات حركة «سوا للبنان» لاستقطاب شخصيات فاعلة في المجتمع السني باءت بالفشل، كما أن بهاء مُختلف عليه ولا يحظى بتأييد واسع داخل العائلة الحريرية نفسها، خلافًا لأخيه.
ويأتي ذلك في ظل وجود تيارات وهيئات أخرى في المجتمع السني يمكن أن تلعب دورًا سياسيًا أو تؤثر في توجهات السنة الانتخابية، مثل «الجماعة الإسلامية في لبنان» ذات الحضور القوي والفعال، ولكن ارتباطها أيديولوجيًا بالإخوان المسلمين قد يكون عائقًا أمام تلقيها الدعم اللازم – محليًا وإقليميًا – لتحل محل «تيار المستقبل»، بالإضافة إلى رجال الدين السنة ممثلين في «هيئة العلماء المسلمين» و«دار الإفتاء»، وهي مؤسسات تلعب دورًا «إرشاديًا»، ويمكن أن تتدخل بشكل غير مباشر، أو تصدر تعليقات سياسية من حين لآخر.
هذه المؤسسات أو الأحزاب الدينية، بالإضافة إلى الأحزاب القومية – والتي تميل بدرجة كبيرة إلى محور الثامن من آذار بقيادة حزب الله – يمكن أن تلعب دورًا سياسيًا، لكنه يظل دورًا هامشيًا لا يمكن بحال أن يملأ الفراغ الذي يمثله تيار المستقبل، وهو ما يجعل المعترك السياسي اللبناني مفتوحًا على سيناريوهات مجهولة خلال الانتخابات النيابية التي يُفترض أن تُجرى خلال الأسابيع القادمة.