لم يكن يتخيل ليف إريكسن، ابن زعيم الفايكينج في جرينلاند، أنه سيجد كل هذا الخير بعد كل هذه المسافة التي قطعها، فبالرغم من أن التاجر وصف له أرضًا غريبة رآها من بعيد، لكن ليف لم يتوقع أن تكون هذه الأرض مليئة بالأشجار والأنهار، والفاكهة والأسماك.

ومثله مثل كل الفايكينج، بدأ ليف إريكسن في تسمية كل منطقة تطأها قدمه، فارضًا سيطرته ومعلنًا هيمنته على هذه الأراضي، لكن لم يكن يعلم أن هذه الأرض الغريبة، سيأتي مستكشف إيطالي بعده بنحو نصف قرن ويبدأ في تسميتها هو الآخر، وكأنه هو الذي اكتشفها، نعم إنه كريستوفر كولمبوس، وهذه الأرض هي أمريكا، فما قصة هذا الفايكينج الذي سبق كولمبوس بنصف قرن، وأوصل الفايكينج العالم الجديد، ونال لقب المحظوظ؟ من أجل الإجابة عن هذا السؤال، عليك أولًا إحضار معطفك والاستعداد لأننا سنتجه إلى الشمال، إلى أراضي الفايكينج الباردة.

البداية.. ليف إريكسن في النرويج

قبل أن نحكي قصة ليف إريكسن والمعروف بـ«ليف المحظوظ»، يجب أن نحكي أصل هذا المغامر الشمالي ابن إريك الأحمر، في طفولته، انتقل إريك مع والده إلى آيسلندا بعد أن ارتكب والده جريمة قتل وجرى نفيه خارج النرويج، والنفي – مثله مثل الاستكشاف- كان يسري في دماء إريك، فجرى نفيه هو الآخر من آيسلندا تقريبًا عام 980 ميلاديًّا، وذلك بعد أن ارتكب هو الآخر جريمة قتل عوقب على إثرها بالنفي، قرر إريك التوجه غربًا، واستقر في جرينلاند التي كان الفايكينج قد استكشفوها بالفعل، لكن لم يستقروا فيها. أسس إريك الأحمر مستوطنة وسمى الأرض باسم جرينلاند «الأرض الخضراء» على أمل أن يجذب الاسم المزيد من المستوطنين.

Embed from Getty Images

تمثال ليف إريكسن 

بالفعل عاد إريك إلى آيسلندا في عام 985 أو 986، ليجذب المزيد إلى مستوطنته الجديدة، ووفقًا للمصادر، فقد عاد معه 25 سفينة، لم ينجح إلا 14 سفينة منها في الوصول إلى جرينلاند بأمان، وقد كان عدد المستوطنين في البداية 400-500 شخص، ولم يتخط عدد المستوطنين 3 آلاف شخص في أقصى توسع سكاني، لكن المستوطنة ظلت على اتصال بأوروبا حتى منتصف القرن 15، حين هجرها السكان بالتدريج.

أنجب إريك ثلاثة أولاد، أوسطهم كان ليف إريكسن، الذي مثله مثل والده كان مستكشفًا بارعًا لا يخشى أمواج المحيط العالية، ولد ليف في آيسلندا قبل رحيل والده إلى جرينلاند، لكنه قضى شبابه في مستوطنة والده، وفي عام 1000 ميلاديًّا توجه ليف إلى النرويج حيث يحكم أولاف تريجفاسون ملك النرويج، الذي يعد رمزًا من الرموز المهمة في تحول سكان الشمال إلى المسيحية، كان أولاف مؤمنًا بأن مهمته هي نشر المسيحية بين أبناء الشمال، ومن أجل نجاح مهمته، استدعى أولاف حكام المستعمرات النوردية التي أسسها الفايكينج في أوروبا الشمالية، وفي الجزر المجاورة لغرب أوروبا، لدعوتهم إلى الدين الجديد، وكان من ضمن المدعوين ليف إريكسن.

في غضون سنوات كان أولاف قد نجح في هدم الوثنية في النرويج وما خضع تحت سيطرتها من مستعمرات وحوَّلها إلى المسيحية الكاثوليكية، إما عن طريق التعذيب والترهيب، وإما عن طريق توكيل من كانت لهم كلمة مسموعة من أمثال ليف، وبالفعل غادر ليف إريكسن النرويج وهو يحمل على عاتقه مهمة تحويل سكان مستعمرة جرينلاند إلى المسيحية، وهنا تبدأ مغامرة ليف إريكسن وفقًا لملحمة «إريك الأحمر»، لكن ما الذي تعنيه الملحمة بالنسبة للفايكينج؟

ملحمة إريك الأحمر وملحمة جرينلاندرز

عند دراسة تاريخ الفايكينج، فإن المصادر التاريخية التي يمكن الاعتماد عليها ليست بالكثيرة، لذلك يلجأ المؤرخون إلى «الملاحم» وهي تشبه القصص الشعبية التراثية، هذه الملاحم كانت تنتقل عبر الأجيال عن طريق الحكي، لكن مع الوقت، ومن أجل توثيقها والحفاظ عليها من النسيان، سجَّل الفايكينج هذه القصص والملاحم، وأسموها وفقًا لما تتناوله، لكن المشكلة التي تواجه المؤرخين: أن الملاحم، وبما أنها تراث شعبي، قد أضيف إليها بعض عناصر الخيال والمبالغة، وذلك من أجل الحبكات الدرامية والإثارة بالطبع! لكنه في الأخير لم يمنع المؤرخين من الاستدلال بهذه الملاحم على الوقائع التاريخية ذاتها، وعلى الأشخاص أبطال هذه الملاحم، ومطابقة ما تحكيه الملحمة بالأدلة التي يستطيعون الحصول عليها.

File:Leif Erikson Discovers America Hans Dahl.jpg - Wikimedia Commons

لوحة ليف إريكسن يكتشف أمريكا – هانز دال،  المصدر ويكيميديا

وهكذا هو الحال فيما يخص قصة استكشاف ليف إريكسن لأمريكا الشمالية وإنشائه أول مستعمرة هناك، ليكون بذلك أول أوروبي تطأ قدمه أرض «العالم الجديد»، وليس كريستوفر كولمبوس الذي وصل بعده بنحو نصف قرن، اختلفت الملحمتان اللتان ترويان قصة ليف إريكسن في كيفية وصوله إلى أمريكا الشمالية، مع العلم أن كلا الملحمتين كتبتا بعد رحلة ليف بنحو 200 عام، فحكت ملحمة إريك الأحمر أنه وبينما كان ليف إريكسن عائدًا إلى جرينلاند من النرويج بعد أن أوكل إليه الملك أولاف نشر المسيحية، انجرف ليف عن مساره حتى وصل إلى أرض لم ير ليف مثيلًا لها من قبل.

تحكي الملحمة التي كتبت تقريبًا عام 1264 أنه «ألقي به في البحر لفترة طويلة، إلى أن وصل إلى أراضٍ لم يتوقع أن يصل لمثلها من قبل،  كانت هناك حقول من القمح البري وشجر العنب في حالة نمو كامل، وكانت هناك أيضًا الأشجار التي كانت تسمى القيقب. جمعوا من كل هذه الخيرات، بعض جذوع الأشجار كانت كبيرة جدًّا بحيث استخدمت في بناء المنازل، في طريق العودة، مر ليف إريكسن على رجال تحطمت سفينتهم فأنقذهم، وأخذهم معه إلى المنزل، وقدم لهم القوت في الشتاء. هكذا أظهر كرمه العظيم عندما أتى بالمسيحية إلى الأرض وأنقذ طاقم السفينة الغارق، وسمي ليف المحظوظ».

توضح الملحمة أن وصول ليف إلى أراضي أمريكا الشمالية كان مسألة حظ غير مخطط لها، لكنها وصفت وصوله إلى الأرض الغريبة عنه، حيث الطبيعة الغناء التي لم ير مثلها في جرينلاند ولا حتى في النرويج، فعاد إلى وطنه محملًا بالخيرات، لتكون دلالة على الخيرات التي تجلبها المسيحية، الأمر الذي ساهم في تحول سكان جرينلاند إلى الديانة المسيحية بشكل سريع وعن طيب خاطر.

حكت «ملحمة جرينلاندرز»، التي جُمعت في نحو عام 1387، والتي يعدها المؤرخون أكثر مصداقية من ملحمة إريك الأحمر؛ القصة بشكل مختلف، فتظهر شخصية التاجر بيارني هيرولفوسون، الذي يزور جرينلاند ويحكي لإريك الأحمر عن آخر رحلاته، وكيف أنه في طريقه إلى جرينلاند رأى أرضًا لم ير مثلها من قبل في الغرب، ووفقًا للملحمة فإن إريك لم يظهر أي اهتمام بهذه «الأرض غير المعروفة» على عكس ليف، أصبح بيارني من حاشية إريك، وقرر ليف أن يشتري منه سفينته التي أبحر بها وشاهد تلك الأرض، واقترح على والده أن يكون إريك قائد الرحلة الاستكشافية لهذه الأرض، لكن إريك قال إنه أصبح عجوزًا على مثل هذه الرحلات.

أصر ليف أن يذهب والده معه في هذه الرحلة، ومع إلحاح ابنه وافق إريك، لكن في طريقه إلى السفينة، تعثر الحصان الذي كان يمتطيه إريك وسقط من فوقه وأصيبت قدمه فعدها إريك إشارة وأخبر ابنه بأنه «ليس من المفترض أن أكتشف بلادًا أكثر من تلك التي نعيش فيها الآن، ولا ينبغي لنا أن نقوم بمحاولة أخرى»، وعاد إريك إلى بيته، بينما بقى ليف الذي استحوذت عليه فكرة اكتشاف تلك الأرض، وركب البحر ومعه 35 رجلًا وانطلقا نحو الغرب.

تحكي الملحة بالتفصيل رحلة ليف نحو أمريكا الشمالية، فتوضح كيف في البداية رسوا في أرض لم يكن بها أي من المميزات التي وصفها بيارني، بل كانت أرضًا جافة لا يوجد بها شيء فأسماها ليف «هيلولاند»، والتي تعني «أرض اللوح الحجري» لما بها من أحجار، وبالنسبة للفايكينج فإن تسمية الأماكن نوع من أنواع إعلان الملكية أو تأسيس السيطرة على هذا المكان.

بعد ذلك أبحر رجال الشمال نحو الجنوب، فرسوا في أرض غنية بالأشجار العالية، فأسماها ليف «ماركلاند» والتي تعني أرض الأشجار، بعد ذلك عسكر ليف ورجاله لينتفعوا بالشتاء «الدافئ» مقارنة بشتاء جرينلاند، وأثناء إقامتهم استكشف الفايكينج المنطقة المحيطة ليكتشفوا أرضًا غنية بأشجار العنب، تجري فيها الأنهار التي يسبح فيها سمك السلمون، فأسمى ليف هذه المنطقة باسم «فينلاند» والتي تعني أرض الخمر، ليكون هذا المعسكر الرئيسي لليف ورجاله.

وقيل في وصف فينلاند في الملحمة: «كانت طبيعة البلد، كما اعتقدوا، جيدة جدًّا لدرجة أن الماشية لن تحتاج إلى تغذية منزلية في الشتاء، لأنه لم يكن هناك صقيع في الشتاء، ولم يذبل العشب هناك، كان الليل والنهار أكثر مساواة مما هو عليه في جرينلاند أو أيسلندا»، كذلك وضحت الملحمة كيف قسم ليف رجاله إلى فريقين، فريق يبقى في المعسكر، والآخر يستكشف المنطقة المحيطة ويعودون قبل حلول الظلام حتى يستطيعوا العودة، وتصف الملحمة ليف بأنه «كان رجلًا عظيمًا وقويًّا، وخطيرًا ومحبوبًا، وعاقلًا ومعتدلًا في كل شيء».

بعد أن قضى ليف إريكسن ورجاله الشتاء في فينلاند، حملوا سفنهم بالأخشاب والفاكهة، وعادوا إلى جرينلاند التي كانت في أمس الحاجة لمثل هذه الموارد، وقد كانت هذه هي الرحلة الأخيرة بالنسبة لليف. فبعد عودته إلى جرينلاند، وجد أن والده لم يتقبل الديانة المسيحية وقرر البقاء على دين أسلافه، لكن نجح ليف في مهمته مع أمه، والتي قررت بناء أول كنيسة على أرض جرينلاند. 

خلف ليف والده إريك في حكم جرينلاند، وعلى الرغم من عدم تكرار ليف إريكسن زيارته إلى أمريكا الشمالية وكانت رحلته رحلة واحدة، فإنها لم تكن الرحلة الأخيرة لأبناء إريك الأحمر إلى فينلاند، فوفقًا للمصادر، قام إخوة إريكسن بالرحلة إلى فينلاند، لم يصل ثورسيتن بسبب سوء الطقس، بينما نجح ثوروالد في الوصول. كانت فينلاند منبعًا للموارد لم يستطع فايكينج جرينلاند التخلي عنه، فكانت الرحلات تنتقل بين فينلاند وجرينلاند لتجلب الأخشاب والفاكهة على الأقل لمدة عقد من الزمان، وبالطبع لم تخل هذه الرحلات من التعامل مع السكان الأصليين لأمريكا الشمالية.

لم تكن العلاقة بين الفايكينج والسكان الأصليين مستقرة، فتنوعت بين كراهية وقتال وبين مودة وتجارة، فمثلًا، قام السكان الأصليون بذبح ثوروالد، أخي إريكسن، ولم تكن هذه هي الحادثة «العنيفة» الوحيدة، لكن يرجح المؤرخون أن هذه الحوادث كانت منفصلة، فتبادل الفايكينج والسكان الأصليون جلود الحيوانات وبعض الموارد، وبالفعل عثر على بعض من المصنوعات اليدوية المصممة من قبل الفايكينج في مستوطنات للسكان الأصليين. 

أين رست سفينة ليف إريكسن؟

في عام 1960، جاب المستكشف النرويجي هيلج إنجستاد سواحل لابرادور ونيوفاوندلاند في كندا بحثًا عن علامات على وجود مستعمرات خاصة بالفايكينج، وبالفعل وجدها في أقصى الطرف الشمالي لنيوفاوندلاند في لانس أو ميدوز، نقَّب فريق دولي من علماء الآثار، ضم زوجة إنجستاد، آن، عن القطع الأثرية التي صنعها الفايكنج، والتي يعود تاريخها إلى نحو 1000 بعد الميلاد، وأصبحت بقايا القرية الإسكندنافية الآن جزءًا من أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو.

عندما وصل الفريق إلى قرية أنس أو ميدوز، سألوا السكان المحليين عن أي آثار محتملة لوجود الفايكنج، فأراهم رجل بعض التلال العشبية على الشاطئ، والتي اعتقد القرويون أنها مساكن مهجورة للسكان الأصليين، لكن تبين بعد ذلك أن الهياكل هي بقايا منهارة لثمانية مبانٍ كانت في الأصل مثبتة بأطر خشبية.

تمثال ليف إريكسن

تمثال ليف إريكسن – المصدر فليكر

أثناء التنقيب في الموقع من عام 1961 إلى عام 1968، خلص إنجستاد إلى أنه بالفعل كان هناك مستوطنة للفايكنج؛ فقد وجد المنقبون أدلة على الأشغال الحديدية: سقيفة بها سندان وحجر كبير وشظايا حديدية. واكتشف علماء الآثار أيضا آثار هيكل خشبي غير متصل بأي من الجدران، ويعتقد أنه كان إطارًا لبناء القوارب، تمامًا مثل تلك المستخدمة في غرب النرويج اليوم.

لم يبلغ طول السفينة قيد الإنشاء أكثر من 25 قدمًا، وهو ما كان نموذجيًّا للقوارب الإسكندنافية المستخدمة في الممرات المائية الداخلية، وتعد قرية أنس أو ميدوز هي الموقع المثالي لمركز إصلاح السفن لأنه يقع مباشرة على الطريق عبر شمال المحيط الأطلسي إلى جرينلاند.

كذلك كانت هناك إحدى القطع الأثرية من الموقع والتي تبدو إسكندنافية بشكل مميز، مما يؤكد أن سكان المباني الثمانية كانوا بالتأكيد من الفايكنج: دبوس مستقيم من البرونز مع حلقة في نهايته. اكتشف علماء الآثار الدبوس في اليوم الأخير من موسمهم الأخير في عام 1968. وفي مذكراتها، وصفت آن إنجستاد الاكتشاف قائلة: «لقد أطلقنا صرخة لأننا عرفنا على الفور أن هناك دليلًا لا أحد يستطيع إنكاره، خاتم من البرونز برأس دبوس مثل تلك التي صنعها الفايكنج»، وقد كانت تستخدم لربط العباءة في الرقبة، وتطابق دبابيس برونزية صنعت بين 920 و1050 ميلاديًّا من مواقع أخرى للفايكنج في أيرلندا وأسكتلندا.

وهكذا، وعلى الرغم من اختلاف الملحمتين في رواية قصة ليف إريكسن، فإن الأدلة التاريخية في نهاية الأمر ربما تكون أكدت أن الفايكنج المستكشف و«المحظوظ» هو أول أوروبي تطأ قدمه أرض أمريكا الشمالية، وليس كريستوفر كولمبوس كما هو متعارف عليه. 

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد