يمتلئ التاريخ الليبي بمعارك الجهاد ضد الاستعمار الإيطالي؛ على الرغم من ذلك، لم يصل إلى أغلبنا منها سوى الروايات الخاصة بالمقاومة المسلحة تحت قيادة «شيخ المجاهدين العرب» كما يلقب، عمر المختار؛ إذ كانت تلك هي الأحداث التي ألقي عليها الضوء في كل مناسبة. لذا نأخذك اليوم عزيزي القارئ في السطور التالية إلى رحلة شيقة في التاريخ الليبي، لنكتشف معًا ما لا نعرفه عن «معارك المقاومة» ضد الاستعمار الإيطالي، وأبطالها. من برقة إلى طرابلس حيث اشتعلت المقاومة، سنتعرف على تاريخ الحركات الوطنية الليبية.
«الحركة السنوسية».. من حركة دينية إلى درع المقاومة في برقة
بحلول عام 1911، كانت إمبراطوريات العالم القديم من إسبانيا إلى فرنسا وبريطانيا قد اقتسموا فيما بينهم مستعمرات القارة الأفريقية الغنية بالثروات. حينها أرادت إيطاليا الدولة الموحدة الناشئة أن تحذو حذو الإمبراطوريات القديمة، وفي أكتوبر (تشرين الأول) قامت بغزو الأراضي الليبية، التي كانت إحدى الولايات العثمانية في ذلك الوقت، مما أشعل حركة المقاومة التي ظلت دائرة 40 عامًا، وذلك حتى الحصول على الاستقلال عام 1951، وقد شكلت «الحركة السنوسية» جزءًا من هذه المقاومة.
كانت الحركة السنوسية في البدء حركة دينية صوفية، انتشرت زواياها في أغلب أجزاء أفريقيا؛ وهي دعوة إصلاحية تدعو الناس للعودة إلى أصول الدين في زمن السلف، لذا اختلفت تلك الحركة عن الطرق الصوفية التقليدية التي اعتمدت على البعد عن الأمور الدنيوية والانغماس في التعبد؛ وذلك من خلال إنشاء طرق صوفية جديدة تعمل على تجديد شباب هذه الأمة، وتعتمد على المشاركة في الأمور السياسية، وقد كان لهذه الحركة أثر كبير في انتشار الإسلام في مناطق مجهولة من أواسط أفريقيا.
في ذلك الوقت كانت الحركة تعتمد على البعد التنظيمي في إنشاء الزوايا الدينية، التي أصبحت فيما بعد ركيزة «الحركة السنوسية»، كما استطاعوا تأسيس تنظيم هرمي للحركة قائم على شيخ الطريقة ومجلس الشورى والإخوان الذين كانت مهمتهم جذب أعضاء جدد، وكان يربط كل هذه الزوايا نظام دقيق ساهم فيما بعد في تشكيل الإمارة السنوسية. وقد استمدت الحركة منهجها من القرآن والسنة النبوية، أما انغماس الحركة في الشؤون السياسية فيعود إلى زمن الوجود العثماني؛ إذ رأت الحركة فيها «دولة الخلافة»، وهو ما نتج عنه فيما بعد قيادة الحركة للمقاومة ضد الاستعمار الإيطالي في ليبيا.
أحمد الشريف السنوسي
قاد المجاهد أحمد الشريف بن محمد السنوسي «الحركة السنوسية»، من 1902 بعد وفاة عمه محمد المهدي السنوسي وحتى عام 1916 عندما تنازل عنها لابن عمه محمد إدريس السنوسي، وأثناء ذلك قاد حركة الجهاد في شرق ليبيا ضد الاستعمار الإيطالي، وقد ساعدته في ذلك «الدولة العثمانية»؛ إذ كانت ليبيا حينذاك ولاية من ولاياتها، وعلى مدار أكثر من 14 عامًا، كان الشريف مجاهدًا لم يختلف عليه اثنان سواء على الجانب الليبي أو حتى المصادر الإيطالية التي أشارت في أكثر من موضع إلى رغبة الطليان في التخلص منه، حتى نجحوا أخيرًا في إزاحته بإثارة المشكلات بين وبين ابن عمه محمد إدريس السنوسي.
«والله نحاربهم ولو وحدي بعصاتي هذه». *أحمد الشريف
عندما غزا الجيش الإيطالي السواحل الليبية ونزلت القوات على شواطئ طرابلس عام 1911، أخذ أحمد الشريف في تجهيز الزوايا التابعة للحركة السنوسية والمنتشرة في أنحاء شرق ليبيا لجعلها معسكرات خاصة بالجهاد الليبي، وقد أصبحت مراكز لإعداد المتطوعين من المجاهدين للمعارك الكبرى، حينذاك قاد الشريف أكثر من معركة ضد الفرنسيين والإيطاليين والبريطانيين في كلٍ من تشاد والسودان ومصر وليبيا تحديدًا من 1913 وحتى رحيله عن ليبيا عام 1916؛ إذ شارك هذا المجاهد في حملة على الحدود الليبية المصرية بدعوة من العثمانيين لشغل القوات البريطانية عن إحدى غارات الحرب عام 1915؛ كما تواجد في تشاد أثناء مقاومة الاحتلال الفرنسي كما قاد معارك الجهاد ضد الفرنسيين في بعض المقاطعات السودانية، وهو جهاد تحتفي به المصادر الليبية حتى وقتنا هذا.
(أحمد الشريف السنوسي)
أرسل الشريف السنوسي البرقيات والرسائل لزعماء القبائل والشيوخ ورؤساء الزوايا، من طرابلس إلى برقة، يحثهم فيها على الجهاد وعدم الاستسلام، والاستماتة في قتال العدو، وقد كون شيوخ القبائل حينذاك معسكرات للمجاهدين من القبائل الفزانية والتوارق ورياح؛ اكتظت على إثرها المنطقة الغربية من ليبيا بمعسكرات الجهاد؛ وفي يناير (كانون الثاني) 1912، كان المجاهدون يتدفقون من كل مكان إلى جبهة طرابلس للمشاركة في معارك النضال الطاحنة.
أعلن أحمد الشريف أنه سينزل على رأس قواته إلى ميدان القتال، وقد استجاب عدد كبير من المجاهدين إلى ندائه وزحفوا إلى المعسكرات العثمانية في العزيزية وغريان؛ إذ ساند الشريف القوات العثمانية على جبهات القتال وقد أعد النجدات المحملة بالأسلحة والعتاد والمؤن والسيوف وأرسلهم للمجاهدين، ووعدهم بقدوم المزيد من النجدات، وهو الأمر الذي جعل كل خطوة من خطوات الجيش الإيطالي على أرض ليبيا لها ثمن باهظ.
في الوقت ذاته، تعرضت الدولة العثمانية لضغوطٍ أوروبية من أجل عقد الصلح مع إيطاليا، ونجحوا في حثهم على توقيع اتفاقية لوزان في أكتوبر (تشرين الأول) 1912، وهو الأمر الذي استغلته إيطاليا لتشن هجومًا على قوات الشريف المرابطة في جنوب درنة، وذلك في مايو (أيار) 1913، ليخوض الشريف معركة ضارية استطاع أن يهزم فيها الإيطاليين.
وقد كانت تلك المعركة هي الأولى التي يخوضها العرب وحدهم بعد انسحاب الأتراك، وعندما أصدر السلطان العثماني فرمانًا يمنح الليبيين استقلالهم، أعلن الشريف تشكيل حكومة، عرفت باسم «الحكومة السنوسية»، وقد ظل الشريف على رأس قوات الجهاد حتى تنازل عن زعامة الحركة عام 1916؛ إذ غادر بعدها البلاد ليستقر في تركيا أولًا، ومن ثم هاجر إلى أرض الحجاز بعد إلغاء الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية التركية عام 1924، ليقضي ما تبقى من حياته في المدينة حتى وافته المنية عام 1933.
محمد إدريس السنوسي
هنا يأتي ذكر الرجل الذي حكم ليبيا ما بعد الاستقلال عام 1951، الملك إدريس السنوسي، الذي اختلفت حوله الآراء والمصادر التاريخية؛ إذ رآه البعض في صورة سلبية، بينما ذكره البعض ومن بينهم المؤرخ الليبي ذو التوجه الإسلامي علي الصلابي، بوصفه قائدًا دينيّا وسياسيّا فذّا، أتقن الألاعيب السياسية وأجاد لعبتها، وهو الأمر الذي جعله مفاوضًا جنبًا إلى جنب الجهاد، يحرك جيوشه وفقًا للمصلحة السياسية، فنجح في النهاية في أن يقتنص اعتراف الإيطاليين بإمارته على إقليم برقة، فيقول عن ذلك: «رأى إدريس السنوسي أن دخول المفاوضات مع الإنكليز هو القرار الصائب المناسب لتلك المرحلة السياسية؛ إذ كان شبح المجاعة يلوح في برقة، وأراد السنوسي أن يفتح خطًا مع مصر يمكنه من القضاء على المجاعة والوباء اللذين يهددان البلاد».
أرسل إدريس حينذاك رسالة إلى الجنرال آرثر هنري ماكماهون، وهو الممثل الأعلى لملك بريطانيا في مصر، مقترحًا عقد مفاوضات الصلح، وهو ما وافق عليه الجنرال بشرط، حضور إيطاليا لطاولة المفاوضات، وهو الأمر الذي لم يستطع إدريس السنوسي الفكاك منه. يقول عن ذلك الصلابي، أن السنوسيين كانوا في موضع ضعف عسكري حينذاك، خاصةً بعد تعرض قوات أحمد الشريف السنوسي للهزيمة أثناء محاربة البريطانيين على الحدود المصرية، مما جردهم من عنصر القوة. وقد حرصت بريطانيا على استمالة السنوسيين إلى جبهتم، وذلك لإضعاف الزعامة السنوسية الموالية للأتراك، وهي المفاوضات التي انتهت بإعلان برقة إمارة مستقلة، باعترافٍ بريطاني.
(محمد إدريس السنوسي)
في الوقت ذاته، يصور المؤرخ الطاهر أحمد الزاوي في كتابه «جهاد الأبطال في طرابلس الغرب» المقاومة الليبية في برقة وكأنها انتهت برحيل السيد أحمد الشريف، مُشيرًا إلى أن إدريس السنوسي قد قاد البلاد إلى الفرقة، بانفصال برقة عن طرابلس، وذلك بعد سعيه لإعلان برقة إمارة مستقلة. وعلى الرغم من اختلاف الآراء حول شخصه؛ إلا أن الملك إدريس السنوسي قد لعب دورًا هامًا في المقاومة الليبية ما بعد 1916، واستطاع أن يقتنص برقة من بين أيدي الطليان، عن طريق حركة جهاد ومفاوضات كانت موازية للجهاد الطرابلسي، وقد كان شيخ المجاهدين «عمر المختار» نائبًا للجهاد تحت ولايته في فترة من فترات حياته.
عاصر السنوسي أهم فترتين في تاريخ ليبيا المعاصر؛ إذ كان ضلعًا هامًا في المقاومة الليبية والملك الأول للمملكة الليبية المتحدة بعد الاستقلال؛ كما ترأس حركة الجهاد بعد إعدام عمر المختار جنبًا إلى جنب إخوانه وساهم في طرد الطليان من ليبيا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة إيطاليا، ليقود البلاد إلى فترة جديدة من تاريخها، أصدر في الدستور وتمكنت ليبيا بعدها من دخول جامعة الدول العربية.
القوميون في طرابلس.. الجبهة الثانية للمقاومة
في الوقت الذي سيطرت فيه المقاومة السنوسية على برقة، كانت طرابلس على الجانب الآخر، يخضع بعضها للنفوذ الإيطالي، والبعض الآخر للنفوذ التركي، وكانت مقاومة القوميين وعلى رأسهم سليمان الباروني والمصري عبد الرحمن عزام حاضرة، لكن على الرغم من ذلك افتقرت طرابلس إلى القيادة والهيكل التنظيمي الذي منحه وجود إدريس السنوسي إلى برقة؛ إذ كانت المنافسة ما بين قوميين طرابلس والقبائل البدوية على أشدها؛ إذ أراد القوميون إنشاء جمهورية مركزية، بينما كان الشيوخ البدو معنيين بإنشاء ولايات قبلية.
في ذلك الوقت أقنع المصري عزام كبار القوميين الليبيين السويثي والباروني بالتعاون والمطالبة بإعلان الجمهورية الطرابلسية جمهورية مستقلة، وقد كونوا حينذاك لجنة قضائية عرفت باسم «لجنة الإصلاح»، وعقدوا مؤتمرًا وطنيًا قالوا فيه إنهم يمثلون الأمة طرابلس، وطالبوا بانسحاب القوات الإيطالية، وعلى الرغم من تحركات القوميين في طرابلس، إلا أن الحركات القومية لم تتمكن من حشد الدولة وراءها، بحسب تقرير «إيطاليا والمقاومة العربية»؛ وهو دراسة ضمن مجموعة دراسات نشرت في قسم الأبحاث الفيدرالية بمكتبة الكونجرس الأمريكية. هذا إلى جانب انقسام مندوبي السلطة التشريعية الليبية حول المدى الذي يسمحون به للتعاون مع إيطاليا، وهو ما ترتب عليه ضعف القوميين، إلى جانب تنافسهم للوصول إلى روما من أجل نيل الاعتراف بالحكومة الوطنية الليبية.
سليمان باشا الباروني و«الجمهورية الطرابلسية»
ولد سليمان الباروني عام 1873، وقد كانت عائلته تعرف بمسيرتها في الجهاد وطلب العلم، وقد سافر عام 1887 إلى جامع الزيتونة بتونس، حيث درس وتتلمذ على يد مجموعة من العلماء، كما سافر إلى القاهرة ودرس بالأزهر الشريف مدة ثلاث سنوات، وقد نشأ الباروني ليصبح فيما بعد مؤرخًا وأديبًا أنشأ المدارس والمكتبات وأصدر بعض الصحف، مثل جريدة «الأسد الإسلامي»، والتي كانت تهدف لأن تصبح صوتًا للمسلمين، تساعد على توحيدهم. إلا أنها توقفت بعد إصدار ثلاثة أعداد فقط، لأسباب سياسية.
أما مراحل جهاد الباروني ضد الإيطاليين فقد مرت بثلاثة أطوار، تبدأ عندما أعلنت إيطاليا الحرب على الإمبراطورية العثمانية، وتنتهي بعد اعتراف إيطاليا بحكومة طرابلس الجمهورية الوطنية عام 1919.
(الجمهورية الطرابلسية)
عن ذلك تؤكد المصادر أن الأوضاع في طرابلس قد جرت بشكلٍ مختلف في ذلك الوقت، إذ تشير «أكاديمية العلوم بالاتحاد السوفيتي» إلى أن زعماء «الحركة التحررية» بقيادة سليمان الباروني، وهو من أكبر المجاهدين الليبيين في ذلك الوقت، قد دعوا إلى مؤتمر وطني يجمع كل أعيان وشيوخ قبائل المنطقة الغربية، وقد اتفقوا في نهايته بعد مناقشات ومشاورات على إعلان «الجمهورية الطرابلسية»، وذلك في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1918.
بحلول يوم 18 من نفس الشهر، أصدر مجلس الجمهورية الطرابلسية بيانًا يعلن فيه عن تأسيس الجمهورية، كان نصه: «قررت الأمة الطرابلسية تتويج استقلالها بإعلان حكومتها الجمهورية باتفاق جموع العلماء والأعيان ورؤساء المجاهدين المحترمين الذين اجتمعوا من أنحاء البلاد»، وقد أرسلت الحكومة في اليوم ذاته بيانًا إلى الحكومات البريطانية والإيطالية والفرنسية والأمريكية، وقد عين المصري عبد الرحمن عزام مستشارًا للجمهورية.
حينذاك اختارت الحكومة الجمهورية مدينة غريان الليبية عاصمة لها، وعلى الرغم من أن هذا الإقليم كان معسكرًا لأكثر من 80 ألف جندي من قوات الاحتلال، إلا أن إيطاليا قد اضطرت في أبريل (نيسان) 1919 إلى توقيع اتفاقية مع ممثلي جمهورية طرابلس، تقضي بمنحهم الاستقلال الذاتي في الشؤون الداخلية والدستور، وهو الأمر الذي أشار إليه سليمان الباروني على أنه «استقلال مزيف»، مما دفعه في النهاية إلى اعتزال العمل السياسي، وقد غادر ليبيا إلى المنفى في تركيا، وقضى سنوات عمره محاولًا العودة إلى وطنه الأم.
«معركة القرضابية».. والمجاهد رمضان السويحلي
عندما غزت إيطاليا ليبيا في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1911، كان رمضان بك السويحلي من الفرسان المتطوعين للجهاد، وقد عين رئيسًا على محلات «مصراتة» بعدما بايعه المجاهد أحمد المنقوش ليخلفه إبان «معركة الهاني»، ليصبح بعدها واحدًا من أهم قادة الجبهة الطرابلسية في الجهاد الليبي ضد الاستعمار الإيطالي، إذ أذاق الأخير مُر العذاب مدة تسع سنوات، هما عمر كفاحه باعتباره القائد الفعلي لمصراتة، وذلك حتى توفي عام 1920.
هو من سكان زاوية المحجوب بمصراتة، قبيلة يدّر. ولد رمضان السويحلي عام 1879 وتربى في كنف والده بعيدًا عن السياسة والوظائف الحكومية، وقد حفظ القرآن قبل البلوغ ودرس مبادئ الفقه وفقًا لمذهب الإمام مالك؛ إلا أن فترة شبابه قد شهدت الهجوم الإيطالي على ليبيا، فانخرط في سلك الجهاد، وعندما احتل الطليان مصراتة عام 1912، هب السويحلي لمشاركة المجاهدين في الدفاع عنها وأصيب السويحلي بجرحٍ في بطنه، ألزمه مكانه في مصراتة حتى إتمام العلاج، فلمع اسم السويحلي في عالم المقاومة الليبية؛ رغم ذلك تظل «معركة القرضابية» هي المعركة الفاصلة التي خلدت اسمه.
(المجاهد رمضان السويحلي)
كانت «القرضابية» من المعارك الفاصلة في تاريخ الجهاد الليبي، وفيها شارك جميع المستطيعين من أبناء الشعب الليبي لدحر الإيطاليين بعدما أرادت الحكومة الإيطالية ربط كل من طرابلس وبرقة، وبالتالي كانت تهدف لإزاحة معسكرات المجاهدين المرابطة بين المدينتين في النوفلية (عشيرة المغاربة) وجنوب سرت (قبيلة أولاد سليمان) -وهي من أكبر قبائل الجنوب الليبي التي اشتركت في الجهاد ضد الاستعمار.
في أبريل (نيسان) من عام 1915 زحف الجيش الإيطالي بأمر من الجنرال إمياني من طرابلس إلى برقة لاسترداد فزان، بعد أن استولت على طرابلس والجزء الغربي من ليبيا، ولتحقيق ذلك سعى إمياني لاستمالة بعض القبائل الليبية لمساعدته، وقد كان منهم رمضان السويحلي من مصراتة وعبد النبي بلخير من ورفلة.
حينها اتفق السويحلي وعبد النبي بلخير على اللعلب بالطليان من داخل صفوفهم. وفي صباح يوم الخميس 29 أبريل صدر الأمر للجيش الإيطالي بالهجوم، والتقت طلائعه بالمجاهدين وتسببت في هزيمتهم، وقد هلت بشائر الانتصار للطليان؛ حينها نفذ السويحلي خطته وأمر من معه بإطلاق النار على الجنود الإيطاليين من الخلف، ليسطر بذلك بداية النهاية للمحاربين الإيطاليين في تلك المعركة الفاصلة. قال عن ذلك الجنرال الإيطالي رودولفو جرازياني: «خاننا رمضان الشتيوي مع كل الفرق التي كانت معه، والتي سلحت من طرفنا، واكتسح بقواته قافلة الذخيرة والتموين وفتح النار على قواتنا».
كما يقول إدريس المسماري في كتابه «حيه على برقة»، أن الهجمة قد اشتدت على جيش العدو حتى أنه لم ينج منه سوى 500 جندي، وقد هرب الجنرال إمياني إلى سرت مجروحًا مع من بقي من جيشه. حينها ارتكب الجيش الإيطالي مجموعة من المجازر في مدينة سرت انتقامًا لهزيمتهم، وقد أمر إمياني بتجريد الليبيين من أسلحتهم وأمروا في سرت بإعدام الكثير من السكان كان من بينهم أعيان ورؤساء.
في عام 1918، عندما قرر قادة الجهاد من أعيان ومشايخ المنطقة الغربية إعلان «الجمهورية الطرابلسية» كان رمضان السويحلي حاضرًا مع سليمان الباروني وأحمد المريض لتكوين مجلس شرعي من علماء الدين إلى جانب مجلس شورى من 24 عضوًا لتسيير شئون الجمهورية، كما يرجع الفضل للسويحلي في إنشاء حكومة مصراتة عام 1915. خلال ذلك لعب دورًا وطنيًا هامًا في حركة المقاومة الليبية استمر حتى معركة أرفلة التي راح ضحيتها في أغسطس (آب) من عام 1920.
عبد النبي بلخير
كان عبد النبي بلخير، شيخ قبيلة ورفلة الليبية، قد شارك كما ذكرنا من قبل في «معركة القرضابية»، ونفذ مع المجاهد رمضان السويحلي «حيلة» الغدر بالطليان، وهو ما ترتب عليه هزيمة الجيش الإيطالي عام 1915. كما كان بلخير أحد القادة الأربعة لـ«الجمهورية الطرابلسية»؛ إلا أنه لم يصبح جزءًا من المقاومة إلا بعد معركة القرضابية.
يذكر الدكتور علي عبد اللطيف حميدة، في كتابه «المجتمع والدولة والاستعمار في ليبيا»، أن طبيعة المجتمع الليبي القبلية، والاستقلال الاقتصادي والاجتماعي لهذه القبائل قد لعبت دورًا هامًا أثناء المقاومة؛ إذ انقسمت القبائل ما بين التواطؤ مع الاستعمار الليبي لحماية مصالحهم، والمقاومة. هذا إلى جانب بعض القبائل التي قاومت وفي الوقت ذاته تعاونت مع الاستعمار؛ وقد كان منها قبيلة ورفلة.
حين بدأت المقاومة الليبية ضد الاحتلال في سبها والجبل في نوفمبر (تشرين الثاني) 1914، وقف عبد النبي بلخير في البداية على الحياد، بل وقد عمل مستشارًا للحملة الإيطالية لاحتلال فزان عام 1913، وذلك للحفاظ على زعامته ومصالح القبيلة إبان فترة التوسع الإيطالي بحسب حميدة، إلا أنه بعد معركة القرضابية، قد نفذ هجومًا مع عشائر ورفلة على الحامية الإيطالية الموجودة في بني وليد واستولى عليها، وقد أصبح منذ ذلك جزءًا من المقاومة.
على الرغم من ذلك، يشير محمد المرزوقي في كتابه «عبد النبي بلخير داهية السياسة وفارس الجهاد»، إلى أن حقيقة تعاون بلخير مع الإيطاليين كانت في الأساس قائمة على الدهاء السياسي، عندما توصل هذا الزعيم الشعبي إلى عدم جدوى المقاومة، إلا أنه حين سنحت له الفرصة قبيل معركة القرضابية، ونظرًا لتقربه من الإيطاليين، فقد أشار عليهم بوجوب حضور رمضان السويحلي إلى طرابلس قبل التوجه إلى فزان، لأنه الأقدر على التواصل مع الثوار. حينذاك لبى السويحلي الدعوة، واتفق الزعيمان على إعادة تجربة المقاومة والغدر بالطليان.
كانت المرحلة الأخيرة من حياة عبد النبي بالخير زاخرة أيضًا بالمعارك التي خاضها ضد الوجود الإيطالي؛ وذلك بعدما زحفوا إلى بني وليد عام 1923 آملين استردادها؛ وعلى الرغم من أن بلخير قد خسر تلك المعركة واضطر في النهاية إلى مغادرة البلاد نحو فزان، إلا أن الجيش الإيطالي ظل يتبعهم من بلد إلى أخرى متوسعًا داخل فزان، فهرب بلخير إلى الصحراء الجزائرية واختفى هناك عام 1932، ولم يعثر على جثته.