لم تحسم بعد الصراعات السياسية داخل الأراضي الليبية، والتي تشتد فيها حدة المعارك المسلحة بين الأطراف المتنازعة، على الرغم من سيل الدعوات المحلية والعربية وحتى الدولية، إلى ضرورة رأب الصدع، وتغليب مصلحة المواطن، والدولة.
التقرير التالي يرصد جذور الأزمة الليبية، والأطراف المتنازعة وأبرز مطالبها، فضلاً عن السيناريوهات المتوقعة من وراء حوار الأمم المتحدة في جنيف لجمع الفرقاء المتخاصمين، وعلاقته بالمصالحة الخليجية مؤخرًا.
-
1- كيف بدأت الأزمة السياسية الليبية؟

أحد المقاتلين الليبيين في مدينة برقة
بدأت الأزمة السياسية تدق ناقوس ليبيا، حينما خلق قانون انتخابات المؤتمر الوطني العام رقم “4” لسنة 2012، حالة من الفوضى والارتباك، لإعفاء القوى السياسية مجتمعة داخله من المسؤولية، حيث لا يضمن حزب سياسي يشكل أغلبية مريحة يستطيع من خلالها تشكيل حكومة قوية أو فرض قرارات حاسمة تتعلق بسياسات الأمن القومي والاقتصاد أو القدرة على إنهاء المرحلة الانتقالية، وتسليم السلطة لبرلمان منتخب وقوي، وغيرها.
وبالتالي، فإن واضعي قانون انتخابات المؤتمر الوطني تعاملوا بسلبية مع الأحزاب السياسية؛ فأعلوا من شأن مقاعد الفردي مقابل قوائم الأحزاب؛ مما أعاق ولفترة ليست بالقصيرة إمكان التفاهم بين 120 عضوًا فرديًا لا يعرف بعضهم البعض.
وثمة من رأى حينها أن ظاهر الأزمة المتفاقمة حتى هذه اللحظة قد يوحي بأن صراعا إسلاميًّا-علمانيًّا، بين حزب العدالة والبناء الجناح السياسي للإخوان المسلمين بليبيا، وكتلة الوفاء للشهداء والتي يمثلها بالمؤتمر الوطني، وإسلامين ووطنيين من غير الإخوان المسلمين من ناحية، وبين حزب تحالف القوى الوطنية بقيادة محمود جبريل المقيم بالإمارات العربية منذ قرابة عشرة أشهر تقريبًا من ناحية أخرى.
إضافة إلى أن تكريس حكومتين متنازعتين، الأولى في طبرق برئاسة عبد الله الثني انتخبها البرلمان الليبي في طبرق، والثانية في طرابلس برئاسة عمر الحاسي المدعومة من “المؤتمر الوطني العام الليبي” المنتهية ولايته بعد الانتخابات التشريعية التي أجريت مؤخرًا، عززت من حالة الانقسام السياسي الليبي الداخلي.
هذا التكريس نتج عنه ازدواجية السلطة التنفيذية بين حكومتي عمر الحاسي وعبد الله الثني، ومن خلفها ازدواجية السلطة التشريعية بين “المؤتمر الوطني العام الليبي” في طرابلس والبرلمان في طبرق.
وما زاد الوضع سوءًا في البلاد هو إعلان اللواء المتقاعد خليفة حفتر عن عمليته المسماة “عملية الكرامة في ليبيا” في مواجهة الإسلاميين، وما أسماهم “الإرهابيين”، وجماعة الإخوان المسلمين، وسط أحاديث إعلامية عن أن أيدٍ عربية تقف مع حفتر في عملياته ضد ما أسموه “الإرهاب”.
-
2- من هي الأطراف المتصارعة في ليبيا؟ ومن يدعمها؟
في الأراضي الليبية تتصارع قوى مختلفة تحت مضامين سياسية وعسكرية، لتحقيق أغراض لها، تندرج تحت مصالحها الداخلية والخارجية، وبالتالي هناك قوتان عسكريتان كبيرتان نشأتا مؤخرًا تدعي كل منهما أنها الجيش في ليبيا وبها قيادة مركزية ورئاسة أركان، سنفصل عنها لاحقًا، فضلاً عن حكومتين سياسيتين بلغ الخلاف بينهما ذروته.
أولاً: القوتان العسكريتان

مسؤولون من قوات الصاعقة التابعة لقوات كرامة ليبيا
1- قوات كرامة ليبيا
وهي بقيادة اللواء خليفة حفتر، وتدعم حكومة عبد الله الثني والتي كلفها البرلمان المجتمع في الشرق الليبي، في إقليم طبرق، حيث تشكل في عمومها الأذرع العسكرية للجهات التي تشجع على الثورة المضادة.
وأنصارها هم من تبنوا العملية العسكرية التي أعلن القيام بها حفتر سابقًا، بغرض القضاء على بعض الجماعات التي توصف بأنها “إرهابية”، وتصحيح مسار الثورة الليبية والحرب على الإرهاب.

ليبيون من أنصار عملية فجر ليبيا يتظاهرون دعمًا لها في طرابلس
2- قوات فجر ليبيا
وهي تحالف مجموعات إسلامية في ليبيا تضم ميليشيات درع ليبيا الوسطى، وغرفة ثوار ليبيا في طرابلس، إلى جانب مجموعات مسلحة تنحدر أساسًا من مناطق مصراته، يؤيدها من ناحية المؤتمر الوطني العام في غرب البلاد.
وتتكون من بعض كتائب الثوار والدروع والإسلاميين لمواجهة اللواء حفتر وقواته، حيث تحظى بتأييد الأحزاب الإسلامية ودار الإفتاء.
أما بالنسبة للصراع السياسي البرلماني الحكومي، فقد تصاعدت وتيرة الخلاف الدائر بين مجلس النواب وحكومة الثني، وبين المؤتمر الوطني وحكومة الحاسي على الجهة الأخرى، وبخاصة بعد قرار الدستورية بحل البرلمان في طبرق، وقد دفع الوضع بعض الدول مثل فرنسا إلى اقتراح التدخل في ليبيا لحل الأزمة الخانقة خاصة مع تصاعد نشاط التنظيمات الجهادية.
ثانيا: دعم مختلف

رئيس الحكومة الليبية عبد الله الثني
وحتى تتضح الصورة أكثر، هناك برلمان يسمى بالمؤتمر الوطني الليبي العام في طرابلس منح الثقة في سبتمبر من العام الماضي، لحكومة عمر الحاسي، لتعالج الفراغ السياسي وتحد من الفوضى الأمنية في البلاد، إثر تدهور الأوضاع السياسية.
إلى جانب وجود برلمان آخر وهو حكومة عبد الله الثني التي تم منحها الثقة، بعد محاولتين فاشلتين أجبرتاه على إجراء تعديلات وزارية في الأسماء المقترحة.
ولا بد من الإشارة إلى أن البرلمان المجتمع في طبرق وحكومةُ الثني تدعمان “عملية الكرامة” التي يقودها اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي أعلن الحرب على ما سماها “التنظيمات الإسلامية المتطرفة”، في حين ترفض فصائل الثورة الليبية المنضوية تحت قوات “فجر ليبيا” التي تسيطر على العاصمة طرابلس ومعظم البلاد الاعتراف بها.
في المقابل تدعم قوات فجر ليبيا حكومة موازية تشكلت في طرابلس برئاسة عمر الحاسي، كما استأنف المؤتمر الوطني العام السابق نشاطه بدعوة من تلك المجموعات المسلحة رغم انتهاء ولايته، وهو ما جعل ليبيا تعيش صراعًا حادًا بين مؤسستين تشريعيتين وحكومتين تتنازعان الشرعية.
ومن الدول الداعمة للصراع الجاري في ليبيا، هي مصر ممثلة برئيسها الحالي عبد الفتاح السيسي، والتي تنظر إلى حكومة طبرق بأنها حليفة لها في الصراع الإقليمي ضد الإسلام السياسي، إضافة إلى الإمارات، وكانت وكالات أنباء عالمية قد نشرت تقارير حول مشاركة عسكرية لمصر والإمارات لضرب معاقل الفصائل الإسلامية، إلا أن مصر أصرت على نفي هذا الأمر بشدة.
ثالثا: دعم خارجي

رئيس حكومة الإنقاذ الوطني الليبي عمر الحاسي
وثمة من يرى أن مصر رغم نفيها اتخذت العديد من الخطوات لدعم حكومة طبرق، فقد أكد مسئولون أمريكيون في أغسطس الماضي نقلاً عن موقع “جريدة الشعب” أن مصر سمحت للإمارات باستخدام قواعدها الجوية لشن هجمات جوية مفاجئة في ليبيا.
ولفت المصدر السابق نقلاً عن مجلة “التايم” الأمريكية أن المسؤولين المصريين يعترفون بأن مصر تتشارك المعلومات الاستخباراتية مع حكومة طبرق، لكنهم ينفون العمليات العسكرية المباشرة؛ مما يعني أن هناك تنسيقًا عالٍ بين الأطراف مجتمعة على وضع سيناريوهات للحالة الليبية الراهنة.
في المقابل، فإن حكومة الحاسي، يرى مراقبون أنها تتمتع بعلاقات متينة مع قطر، ولديها جسور قوية، وهي المدعومة أيضًا من المؤتمر الوطني العام والتي تحظى بتأييد القوى الثورية.
ومما لا شك فيه وجود دول غربية كبرى ساهمت في إسقاط القذافي تتدخل في ليبيا في الوقت الحالي، فهي تهمها مقدرات الشعب الليبي من بترول ومصالح أخرى، كما تهتم بالعمق الاستراتيجي، إضافة إلى أهمية أن تحول ليبيا إلى شرطي بجنوب البحر الأبيض المتوسط للمساعدة في وقف موجات الهجرة عبر القوارب.
-
3- لماذا اجتماع جنيف؟ وما علاقته بالمصالحة الخليجية الأخيرة؟

مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا برناردينو ليون
حسب مراقبين، فإن الحوار الأممي لجمع المتخاصمين الليبيين، يأتي في سياق المصالحة الخليجية الأخيرة، والتي ناقشت الملف الليبي بأبعاده المختلفة، لا سيما وأن زيارة رئيس حكومة الإنقاذ الوطني عمر الحاسي إلى الإمارات أوائل الشهر الجاري، حملت في طياتها بشرى من قرب الحوار مع خصمه حكومة عبد الله الثني.
ولطالما دعت الدول المجاورة لليبيا، وحتى الغربية، إلى ضرورة رأب الصدع، وإيجاد حلول للأزمة السياسية المتفاقمة، عبر حوار وطني يجمع الأطراف المتنازعة، لوضع آليات ممكنة، لتحديد مسار الأزمة الليبية المتعثرة من فترة وأخرى.
أولى جلسات الحوار بين الفرقاء الليبيين كانت الأسبوع الماضي، في مقر الأمم المتحدة بجنيف، والتي قبلت التفاوض حول الأزمة بالبلاد بطرح قضايا أساسية، وذلك في غياب المؤتمر الوطني العام رسميًّا، في حين أعلنت قوات “فجر ليبيا” عدم اعترافها بالحوار ومخرجاته.
ويذكر أن مفاوضات جنيف الحالية تمثل الجولة الثانية من محادثات بين أطراف النزاع، حيث عقدت مفاوضات أولى بمدينة غدامس الليبية في سبتمبر/أيلول الماضي العام الماضي، ولم تؤد إلى أي نتائج على الأرض.
ومن أبرز الملفات التي استحضرها المجتمعون هي التوافق على حكومة وحدة وطنية، ووضع ترتيبات أمنية لإنهاء حالة الاقتتال، فضلاً عن إنهاء الحصار عن بعض المدن.
وكانت قوات “فجر ليبيا” المتناحرة على وقع الحوار، لفتت إلى أن أي مخرجات تنتج عن الحوار “لا تمثلنا كثوار، وغير ملزمين بها أبدًا ما لم نكن مشاركين فيها”، حتى إن المؤتمر الوطني العام الذي تعتبره “ممثلاً للثوار” غير موجود في حوار جنيف.
وتعتبر “فجر ليبيا” أن وجود المؤتمر الوطني العام طرف فعال في المفاوضات، وغيابه يعني الجلوس مع طرف واحد، دون تحقيق أي نتائج ملموسة.
على النحو نفسه، يحذر مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا برناردينو ليون من أن مفاوضات جنيف بين الفرقاء الليبيين قد تكون آخر فرصة للتوصل إلى تسوية سياسية، وبالتالي فإن أطرافًا ليبية أخرى مدعوة للحوار، الذي سيستأنف غدًا.
وتسعى الأمم المتحدة من خلال جولة المفاوضات وحوارها إلى وقف القتال في ليبيا، وإقناع الأطراف الليبية بالاتفاق على حكومة وحدة وطنية ورئيس حكومة جديد يكون محل إجماع، في حين أن موقف الشارع الليبي من الجولة يتأرجح بين مؤيد ومعارض، وفقًا لمتابعين.
-
4- ماذا يطلب المتخاصمون، وما فرص نجاح حوار جنيف؟

جانب من حوار الأمم المتحدة في جنيف مع الأطراف الليبية المتصارعة
ومن أبرز مطالب حكومة الثني هي المساعدة في بناء أجهزة الدولة الدفاعية والأمينة لمساعدتها على نزع سلاح الجماعات المتطرفة، وضمان سيطرتها على العاصمة طرابلس، وإخلاء مؤسسات الدولة من المسلحين.
إضافة إلى توفير تعاون حقيقي وفاعل في مجال مكافحة “الإرهاب”، وإنشاء تحالف بين ليبيا ودول شمال وجنوب البحر المتوسط لمواجهة الجماعات الإرهابية.
فيما تكمن مطالب حكومة الحاسي بضرورة إسقاط برلمان طبرق، ورفض أي تدخل أجنبي في البلاد، إلى جانب تحقيق مطالب ثورة السابع عشر من فبراير 2011.
لكن، ثمة من يقلل من ثمار الحوار الأممي، على اعتبار أن اتجاه الأزمة للحل السياسي بعيدًا عن لغة السلاح، أمر جيد، ولا بد من توظيفه، في ظل صعوبة الوصول أصلاً إلى اتفاق يريح الأطراف المتصارعة.
لذلك، فإن فشل مفاوضات جنيف سيكون ممهدًا الطريق للتدخل العسكري، وهو ما أظهره تصريحات البرلمانيين الأوربيين ومطالباتهم، بتبني عقوبات ضد المسؤولين عن عرقلة المفاوضات الجارية.
التقليل من ثمار الحوار، كما يعتقد خبراء في الوضع الليبي ينبع من أن الخلاف الليبي السياسي مقعد للغاية، في ظل وجود تيارين منفصلين، وكل منهما ينضوي معه فصائل متعددة، الجيش والبرلمان والحكومة والجيش في جانب، والتيارات الإسلامية في جانب آخر، والأمم لا تملك في الوقت نفسه فرض حل بين المتناحرين، فالحل يفرضه طرفا الصراع.