تملك الدول المحتضنة للنفط، ميزة ريعية مجانية غير متوافرة في معظم بلدان العالم، ممثلة في هذه الثروة النفيسة المتعطش إليها العالم، ما يوفر لهذه البلدان عادةً اقتصادات غنية، دون الحاجة لجهود الإنتاج والتطوير والابتكار الذاتية، كالشأن مع البلدان المفتقرة لهذه الميزة.

لكن هذا القول، لا ينطبق على ليبيا الغنية بالبترول؛ حيث لا تزال تتخبط في الفقر وسوء الخدمات وضعف الاستقرار، حتى بعد إسقاط نظام القذافي في 2011.

ثروات نفطية دون استغلال

تحتضن أرض ليبيا أكبر احتياطي نفطي في القارة الإفريقية، وتحتل الرتبة التاسعة عالميًا، حيث يتوافر بها 46.4 مليار برميل مؤكد، ويبلغ معدل الإنتاج اليومي مليون ونصف برميل يوميًّا قبل نشوب الحرب الأهلية، ويرتقب أن تستمر هذه الاحتياطات مدة 77 عامًا إذا ما استمر الإنتاج بهذا المعدل.

علاوة على أن هناك مساحات شاسعة غير مكتشفة بعد في ليبيا، تنتظر التنقيب عن النفط، بسبب الحظر الدولي المفروض على عمل الشركات الأجنبية في ليبيا.

كما يتميز النفط الليبي بزهد تكاليف إنتاجه، إذ تصل التكلفة إلى دولار واحد للبرميل في بعض الحقول، وهو في نفس الوقت قريب من أوروبا، مما يكسبه ميزة تنافسية تغري المستوردين. ويمثّل النفط %95 من العائدات المالية للخزينة الليبية، يصدر السواد الأعظم منه بنسبة 85% إلى الأسواق الأوروبية، وهو المورد الوحيد للعملة الصعبة بالنسبة لليبيا.

بيد أن كل هذه الثروة لم تجعل ليبيا بلدًا غنيًّا، كانت، حتى قبل «انتفاضة 17 فبراير(شباط)» سنة 2011،  من البلدان الفاشلة، التي تنتشر فيها البطالة والفقر وتشهد ضعف خدمات الدولة، وازداد الوضع سوءًا مع انهيار الوضع السياسي والاجتماعي بالبلد، ودخول المكونات الليبية في حروب أهلية طاحنة.

كيف يمكن تفسير تراجع التنمية في ليبيا رغم نفطها؟

يفترض نظريًا لبلد نفطي لا يتجاوز ساكنوه السبعة ملايين نسمة مثل ليبيا، أن يعيش فيه المواطن معيشة مرفهة، تتفوق على المواطن الكويتي أو المواطن السعودي، بمقارنة حجم الثروة مع عدد السكان، إلا أن الواقع الليبي لا يعكس هذه الصورة المفترضة، سواء في عهد القذافي أو في الفترة الحالية.

كانت ليبيا تشهد استقرارًا سياسيًا خلال حكم القذافي، وقد ساهم حينها الفساد وسوء إدارة الزعيم الليبي ودكتاتوريته في إهدار بترول البلاد، دون استفادة الدولة والمواطنين منه بالشكل المطلوب، لكنه لم يكن السبب الأبرز في ذلك، إذ هناك العديد من البلدان النفطية، التي يغيب فيها الحكم الديموقراطي وتشهد ظواهر الريع والفساد، وفي نفس الوقت توفر لمواطنيها حدًا أدنى من المعيشة المرفهة، كالشأن مع بلدان الخليج.

لكن ما كان يطبع حكم القذافي، هو أنه كان ينخرط في عداوات سياسية مع الدول الغربية، بسبب تورطه في دعم حروب أهلية بإفريقيا، وارتباطه بعدد من العمليات التخريبية ببلدان العالم، كتفجير طائرة لوكربي الأمريكية، ما دفع الغرب إلى فرض عقوبات دولية على ليبيا.

حرمت هذه العقوبات ليبيا من الاستثمارات الأجنبية ونشاطات الشركات الغربية، القادرة على إعمار ليبيا وتدبير قطاعاتها المعيشية بشكل راق، كما حدت من استيراد ليبيا للمنتجات الأوروبية والأمريكية، بخلاف دول الخليج التي فتحت دولها أمام الشركات الأجنبية وكفاءاتها، واستفادت من استيراد المنتجات الحديثة، مما رفع المستوى المعيشي لمواطنيها.

أما في الوضع الراهن، فإن انفجار الوضع الليبي زاد سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين الليبيين، حيث انخفض إنتاج النفط إلى النصف مقارنة مع عهد القذافي، وأصبحت الآبار النفطية محط تنافس بين الميليشيات المسلحة، في غياب تام لحكومة مركزية قوية، قادرة على تحصيل عائدات البترول واستغلالها في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين الليبيين.

النفط وقود الحرب الأهلية في ليبيا

إذا كان النفط نعمة اقتصادية، فإنه يمكن أن يتحول إلى لعنة تؤجج النزاعات الأهلية، ولعل هذا ما يحصل في ليبيا اليوم، حيث تتصارع الأطراف الليبية المختلفة للاستيلاء على آبار البترول، باعتبارها موردًا ماليًّا سائبًا، تستطيع من خلاله تقوية تسليح ميليشياتها واغتناء أفرادها.

وكانت القوات الموالية لحفتر، قد استهدفت منذ أيام ميناءي السدرة ورأس لانوف الرئيسيين في الشرق، إثر هجوم مباغت على منطقة الهلال النفطي التي تتبع سلطة الحكومة المعترف بها دوليًا في طرابلس، مما سيحرم حكومة الوفاق من أهم موارد ميزانيتها، الشيء الذي قد يؤدي بها إلى التفتت.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن هناك ميليشيات منفردة، تغتني عبر ابتزاز كل من حكومة حفتر وحكومة التوافق، من خلال تهديدها بتخريب المنشآت النفطية واستهداف الصهاريج والسفن الناقلة، ليحصلوا على رواتب من الحكومتين.

ومن جهة أخرى، تتخوف الدول الغربية من وصول يد تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) إلى الآبار النفطية، وسبق لأبي المغيرة القحطاني، قائد فرع المجموعة الليبية لتنظيم الدولة، أن صرّح بالأهمية الإستراتيجية للسيطرة على البترول قائلا: «البئر من الموارد الذي لا يمكن أن تنضب، واستخدامها لفائدة المسلمين في شتى أنحاء المعمورة، وبما هو ضد غير المؤمنين».

وشنَّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هجمات عدة، استهدفت محطات النفط، كما حصل في رأس لانوف وسدرة، ما تسبَّب في انقطاع تصدير النفط مؤقتًا، الشيء الذي يعزّز اعتقاد بعض المحللين بأن رهان التنظيم حاليًّا هو قطع تدفقات العوائد المحتملة للدولة الليبية مقابل استغلال هذه المواد مباشرة أو تصديرها.

وتجري جهود دولية حثيثة، لتقوية حكومة الوفاق الوطني المدعومة من قبل الأمم المتحدة، من خلالها تمكينها من الهلال النفطي شرق البلاد، وإنهاء ابتزاز الميليشيات المسلحة، بعد أن عقدت اتفاقًا مع حرس المنشآت والمؤسسة النفطية الليبية، خشية زيادة تدهور الأوضاع بالبلاد، مما سيفاقم مشكلات الهجرة وتمدد تنظيم الدولة الإسلامية.

وفي انتظار تحقيق استقرار سياسي بالبلد، ينتج حكومة مركزية مقبولة محليًّا ودوليًّا، ستبقى الثروة النفطية لليبيا مهدرة بين رصاص الفصائل المتناحرة.

عرض التعليقات
تحميل المزيد