في 12 ديسمبر (كانون الأول) 2021، ودون ضجيج إعلامي يُذكر، رحل عن العالم روبرت ديسكون كرين، مستشار الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون، والذي حمل لقب «أول سفير مسلم للولايات المتحدة الأمريكية»، واعتُبر أحد أكثر المسلمين المؤثرين في العالم. فمن هو روبرت كرين؟ وما قصة تحوله إلى الإسلام؟ وكيف لعب دورًا في السياسة الأمريكية؟
الصعود للقمة.. روبرت كرين في البيت الأبيض
ولد روبرت كرين في مارس (آذار) 1929، في ماساتشوسيتس، كبرى الولايات الأمريكية، وأظهر نبوغًا منذ الصغر أهلّه لمسيرة أكاديمية وبحثية حافلة، ففي سن السادسة عشر، التحق بجامعة هارفارد، قبل أن يلتحق بجامعة ميونيخ عام 1948؛ إذ كان أول أمريكي يجري قبوله فيها، قبل أن يعود إلى الولايات المتحدة، ويركّز اهتمامه على الدراسات القانونية، فكان من ضمن مؤسسي «جمعية القانون الدولي»، و«مجلة القانون الدولي» بجامعة هارفارد.
سطع روبرت كرين، ليشارك في تأسيس «مركز الدراسات الإستراتيجية الدولية» عام 1961، الذي كان أول «بيت خبرة» (Think tank) مختص بالسياسة الخارجية في واشنطن، وفي عام 1966 أصبح مديرًا لقسم دراسات العالم الثالث في «معهد هدسون»، الذي كان في ذلك الوقت أول مركز احترافي للدراسات المستقبلية.
روبرت كرين، المصدر: mvslim
في ذلك الوقت كان ريتشارد نيكسون، الزعيم الجمهوري الذي خدم في البيت الأبيض لثماني سنوات، نائبًا للرئيس الأمريكي أيزنهاور، يتجهز لخوض الانتخابات الرئاسية عام 1968، وقد استعان أثناء حملته بمجهودات روبرت كرين ليكون مستشارًا رئيسًا للسياسة الخارجية، وحين ظفر نيكسون بالرئاسة، استمر في الاعتماد على روبرت كرين الذي تقلد منصب نائب مدير مجلس الأمن القومي الأمريكي للتخطيط الإستراتيجي، قبل أن ينتقل بعد ذلك لوزارة الخارجية ليعمل مساعدًا لنائب الوزير، كما أصبح مديرًا لمكتب سياسة الموارد، ومسؤولًا عن مراقبة سياسات وميزانيات وكالات الاستخبارات الأمريكية.
في عام 1974 غادر ريتشارد نيكسون البيت الأبيض مُكرهًا على إثر فضيحة سياسية كانت الأضخم في تاريخ السياسة الأمريكية، عُرفت بـ«فضيحة ووترجيت»، والتي تتعلق بواقعة تجسس البيت الأبيض على مقرات الحزب الديمقراطي؛ ما دفع بنيكسون إلى الاستقالة تفاديًا لإدانته، وغادر روبرت كرين البيت الأبيض، ليشرع في تأسيس شركته الاستشارية الخاصة، ولم يكد يمر عام واحد، حتى طلبت منه البحرين العمل مستشارًا اقتصاديًا بوزارة المالية.
حتى ذلك الوقت كانت مسيرة روبرت كرين الفكرية والمهنية هي مسيرة أكاديمي وموظف أمريكي عالي المستوى، يتصف بالذكاء والاحترافية، لكن المسيرة الحقيقية لكرين والتي ستجعله فريدًا بين الساسة والمفكرين الأمريكيين، ستبدأ مع رحلته إلى البحرين.
كرم الضيافة العربي دفع روبرت كرين لاعتناق الإسلام
في البحرين، التي سافر إليها روبرت كرين وساهم في وضع الخطة الخمسية للتنمية بها، ستنمو في نفس روبرت كرين أولى البذور التي ستسهم في تحوله إلى الإسلام بعد سنوات قليلة، وستجعله من أبرز المدافعين عنه، ويروي روبرت كرين كيف أنه تأثر بضيافة شيخ بحريني من عوام الناس له، بعدما ضل الطريق أثناء زيارته إلى أحد المعالم الأثرية في البلاد، وتحدث معه الشيخ عن قيم العدل، والخير، والشر، وعن الله، وهو ما أبهره بشدة.
«في الواقع وجّهني الله إلى الإسلام في سن الخامسة، ثم في سن 21، لكنني لم أعرف حتى قابلت الرجل البحريني الذي أخبرني أن هناك آخرين يرون الأمور كما أراها، وأنني كنت أعبد الله حقًا. لقد أدركت ذلك وأنا في سن الخمسين»*روبرت كرين
قبل ذلك الحين، لم يكن روبرت كرين يفكر في الإسلام سوى باعتباره «أداة سياسية» يمكن أن يستعين بها الأمريكيون في الحرب ضد الشيوعية، يروي عن ذلك قائلًا: «كنت أشعر بالملل تجاه هذا الدين (الإسلام)، ولم أفكر قط في تعلمه، في البدء اعتبرته دينًا بدائيًا جدًا، لكني اقترحت على نيكسون توظيفه في التحالف ضد الشيوعية، حتى لو لم أكن مقتنعًا به، فقد كان الإسلام مفيدًا ضد الشيوعيين».
لكن نفس روبرت كرين تغيّرت، وأفكاره بدأت في التبدُّل، فانكب على دراسة الإسلام محاولًا التعرف عليه عن قُرب، وأخذ يتابع المؤتمرات والمحاضرات التي يلقيها ويشارك بها قادة الفكر الإسلامي، وكان من أبرزهم في ذلك الوقت الزعيم الإسلامي السوداني حسن الترابي، الذي حضر مؤتمرًا له في ولاية نيو هامبشاير.
وأثناء المؤتمر رأى كرين الحاضرين يصلون ويسجدون، والترابي إمامًا لهم، فكان هذا المشهد مبهرًا له، يقول عن ذلك: «لقد أدركت أن ما يفعله الترابي هو السجود لله، واعتقدت أنه بذلك أفضل مني عشرات المرات»، كان ذلك الموقف في العام 1980، وهو العام نفسه الذي قرر فيه روبرت كرين اعتناق الإسلام.
بصفته محاميًا ظل طيلة عمره يبحث عن أفضل صيغة لتحقيق العدل بين البشر، وقد وجد روبرت كرين في الإسلام ضالته المنشودة، ورأى أن «الإسلام هو الحل الوحيد، فهو الذي يحمل العدالة في مقاصد الشريعة وفي الكليات والجزئيات والضروريات»، ويمكننا استشفاف ذلك في الاسم الذي أطلقه روبرت كرين على نفسه بعد إسلامه «فاروق عبد الحق».
كيف لعب روبرت كرين دورًا في السياسة والفكر الأمريكي؟
لم تنته حاجة السياسة الأمريكية إلى روبرت كرين بعد اعتناقه الإسلام، فقد استعانت به إدارة الرئيس رونالد ريجان عام 1981 للعمل سفيرًا لدى الإمارات العربية المتحدة، وأسندت إليه مهمة التواصل مع الحركات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فيما عُرف حينها بـ«دبلوماسية المسار الثاني»، والتي تعني فتح قنوات تواصل مع الفاعلين المؤثرين من المسؤولين غير الرسميين، من أجل حل الصراعات المستعصية.
وعلى المستوى الفكري، ألف كرين العديد من الكتب والمنشورات التي تغطي موضوعات عدة، منها حقوق المسلمين في أمريكا، والتعددية الاجتماعية والعلوم الاجتماعية الإسلامية، وهو يرى ضرورة «اندماج» الأقليات المسلمة في أوطانها، وهو يفرق هنا بين «الاندماج Integration» المطلوب، والذي يعني «أن تجلب خير دينك وثقافتك للوطن، في تعاون متبادل، يدفع جميع المواطنين إلى التعلم من بعضهم البعض»، وبين «الاستيعاب Assimilate»، والذي يعني الذوبان الكامل في المجتمع، ما يؤدي إلى انسلاخ المسلمين الكامل عن الإسلام لصالح مجتمع الأغلبية، وهو ما يرفضه روبرت كرين ويعتبره «انتحارًا للهوية الثقافية».
أضحى روبرت كرين جزءًا رئيسيًا من المجتمع المسلم في أمريكا، فصار مديرًا لـ«مركز الدعوة الإسلامية» في العاصمة واشنطن، كما صار مديرًا للمنشورات في «المعهد الدولي للفكر الإسلامي»، وساعد في أعمال «المركز الإسلامي الأمريكي»، وهما من أكثر المؤسسات الإسلامية في الفاعلة في الولايات المتحدة.
يعترف روبرت كرين بأن بعض المسلمين يفهمون الإسلام ويمارسونه بشكل خاطئ، ويرى أن خطأ البعض ينبع من اعتقادهم بأن «السلطة السياسية» هي الغاية النهائية في الإسلام، لكن الحقيقة أن «جوهر الإسلام» بذلك قد اختفى، كما يرى أن على الاتجاهات الصوفية أن تصبح أكثر نشاطًا في الحياة العامة، وتتخلى عن حالة الانعزال التي اتسمت بها لقرون طويلة.
ومع أفول نجم الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، وتحوّل فوهة الحرب الأمريكية إلى ما سمته «الأصولية الإسلامية» سيما بعد أحداث سبتمبر (أيلول) 2001، رفض كرين حالة «الإسلاموفوبيا»، وبالتالي رفض الحلول العسكرية للتحديات التي تواجهها الولايات المتحدة معتبرًا أن تدخلات الجيش الأمريكي في البلدان الإسلامية بكثير من الأحيان «تخلق المشكلات بدلًا عن حلها»، وأن كثيرًا من المسلمين قد يتحولون إلى الراديكالية كرد فعل على القمع الذي يتعرضون له.
أسس روبرت كرين أكثر من مركز بحثي في الولايات المتحدة، كما استعانت به «كلية قطر للدراسات الإسلامية» عام 2011، ليعمل أستاذًا ومديرًا لمركز بحثي بها، وجاب العالم محاضرًا في العديد من الجامعات رغم تقدمه في العمر، ليتوفى في 12 ديسمبر 2021، عن عمر ناهز 92 عامًا.