بينما يحبس الجميع أنفاسه، وتتصاعد دقات طبول الحرب التي يمكن أن تشنها روسيا على جارتها أوكرانيا، يسترجع البعض وصفًا للمفكر والسياسي الأمريكي الراجل زبغنيو بريجنيسكي، والذي اعتبر أن «أوكرانيا القوية والمستقرة ثقل ميزان حاسم لروسيا، وينبغي أن تكون محور اهتمام وتركيز الإستراتيجية الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة، وإذا سيطرت روسيا على أوكرانيا فيمكن لها أن تعيد بناء إمبراطوريتها من جديد».

فمن هو زبغنيو بريجنيسكي، أحد أكثر الدبلوماسيين الأمريكيين ذكاء وإثارة، وأكثرهم خبرة بشؤون الاتحاد السوفيتي وروسيا الاتحادية من بعده؟

من الجامعات إلى السياسة.. بريجنيسكي «يحول أفكاره إلى أعمال»

في 28 مارس (آذار) 1928، وُلد زبغنيو بريجنيسكي في العاصمة البولندية وارسو، لأب يهودي، كان يعمل ديبلوماسيًا في الحكومة البولندية، عندما كان عُمره 10 سنوات، انتقل إلى العاصمة الكندية مونتريال حيث تولى والده منصب السفير البولندي هناك عام 1938، لكن نهاية الحرب العالمية الثانية، وما أعقبها من تولى الشيوعيين السلطة في بولندا بدعم من الاتحاد السوفيتي، سيرسم مسيرة مختلفة لزبيغنيو بريجنسكي وعائلته، حيث سيرفض والده الخدمة مع الشيوعيين، ويقرر عدم العودة إلى بولندا، ليحصل على الجنسية الأمريكية خلال عقد الخمسينات.

تلقى زبغنيو بريجنيسكي تعليمه الجامعي في جامعة مكغيل بمونتريال، قبل أن يسافر للحصول على درجة الدكتوراة من جامعة هارفارد الأمريكية عام 1953 حيث كانت أطروحة الدكتوراة الخاصة به عن عمليات التطهير التي قامت بها الحكومة السوفيتية في كواليس السلطة، وقد استمر في العمل الأكاديمي بوصفه باحث خبير في الشؤون السوفيتية في جامعات هارفارد وكولومبيا حتى منتصف السبعينات، عندما تفرغ للعمل الديبلوماسي بضعة سنوات، قبل أن يعود لأروقة العمل الأكاديمي في نهايات حياته.

بعد سنوات من العمل الأكاديمي، بدأ زبغنيو بريجنيسكي في العمل على «تحويل أفكاره إلى أعمال»، على حد تعبيره لاحقًا في حوار مع مركز «الدراسات الإستراتيجية والدولية»، حيث سيعمل مستشارًا للشؤون الخارجية في إدارة الرؤساء جون كينيدي (1961-1963) وليندون جونسون (1963-1969)،  قبل أن يلتحق بالحملة الرئاسية للرئيس الديمقراطي جيمي كارتر، الذي جعله مساعده الخاص لشؤون الدفاع، قبل أن يصبح مدير مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض بين عامي 1977 و1981.

Embed from Getty Images

زبغنيو بريجنسكي وجيمي كارتر

وُصفت شخصية زبغنيو بريجنيسكي بأنه «حاد ومباشر وصادم»، ويعد من الشخصيات التاريخية المؤثرة في السياسة الخارجية الأمريكية، فقد كان الرجل مقربًا للغاية من الرئيس جيمي كارتر، ولعب دورًا في إتمام معاهدة «كامب ديفيد» بين مصر وإسرائيل في سبتمبر (أيلول) 1978، كما قاد جهودًا لتحسين العلاقات مع الصين الشيوعية، فقامت الإدارة الأمريكية، بتوجيه منه بافتتاح أول سفارة لها في بكين عام 1979

خلال فترة رئاسته لمجلس الأمن القومي، كانت صلاحيات زبغنيو بريجنسكي شبه مطلقة، ورأيه نافذًا في أروقة البيت الأبيض، فقد قاد جهودًا دبلوماسية عام 1979 لتوسيع نطاق معاهدة «سالت» للحد من الأسلحة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، عندما اقترح أن يحد الاتحاد السوفيتي بشكل كبير من عدد صواريخه الباليستية العابرة للقارات في مقابل قيود على الصواريخ الأمريكية، وكانت المحادثات في البداية بجهد شخصي منه، وقبل أن تعرف بها وزارة الخارجية الأمريكية، حتى توجت تلك المحادثات في النهاية بتوقيع اتفاقية «سالت 2» بين واشنطن وموسكو.

زبغنيو برجنيسكي ينصب «فخًا» للسوفيت

بعد حرب ضروس دامت 20 عامًا، ألقت فيها الولايات المتحدة بثقلها العسكري لدعم جنوب فيتنام، ضد الحكومة الشيوعية في فيتنام الشمالية، انسحب الجيش الأمريكي صفر اليدين من فيتنام عام 1973، بعد ذلك بعامين فقط، كانت قوات «جبهة التحرير الوطنية» الشيوعية التابعة لفيتنام الشمالية، وبدعم من الاتحاد السوفيتي، تجتاح سايغون، عاصمة جنوب فيتنام، وتغير اسم عاصمتها إلى هوتشي منه، على اسم الزعيم الشيوعي الذي تحدى الولايات المتحدة.

لم يكن ذلك هو «الإذلال» الوحيد الذي تعرضت له الولايات المتحدة على أيدي السوفيت في تلك الفترة، في الهند الصينية، تعرضت الأنظمة الحليفة لواشنطن في كمبوديا، ومن بعدها لاوس للانهيار، وكان الاتحاد السوفيتي هو المستفيد الأكبر، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1975، وبعد أشهر قليلة من سقوط فيتنام، كان الزعيم الشيوعي فيدل كاسترو يرسل عشرات آلاف الجنود الكوبيين ينزلون على سواحل غرب أفريقيا لدعم الحركة الشيوعية في أنغولا في صراعها على السلطة، بدعم ومباركة من الاتحاد السوفيتي بالطبع.

في تلك الأثناء، بدا للجميع أن الاتحاد السوفيتي، بعد تلك الانتصارات المتلاحقة، صار قوة لا تقهر، وأن الولايات التحدة على وشك خسارة المعركة، لكن جهود زبغنيو بريجنسكي ستقلب المعادلة، حيث نجح الديبلوماسي «الداهية» في جر القادة السوفيت، المنتشين بزهوة الانتصار، إلى فخ سيكون سببًا في استنزاف الجيش السوفيتي لسنوات، بل سيصبح عاملًا رئيسًا في انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه تمامًا، بعد سنوات قليلة فقط.

كانت أفغانستان، البلد الجبلي العنيد في وسط آسيا يحتوى على جماعات مارسكية وشيوعية طموحة، لكنها كانت ضعيفة النفوذ وسط أغلبية سكانية مسلمة محافظة، مع إرث راسخ شعبيًا لمقاومة أي تدخل أجنبي، لذلك جاء قرار السوفيت بمنح الضوء الأخضر لـ«حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني» الشيوعي، للانقلاب على نظام محمد داود خان، ليثير احتجاجات شعبية واسعة، وانتفاضات مسلحة اندلعت في عموم الأراضي الأفغانية، وشيئًا فشئيًا كان السوفيت يتورطون في المستنقع الأفغاني.

Embed from Getty Images

زبغنيو بريجنيسكي يقود جهود الولايات المتحدة لدعم المقاتلين الأفغان

أرسل السوفيت جيشهم إلى أفغانستان لدعم حلفائهم المحليين في ديسمبر (كانون الأول) 1979، واستمر الجيش الأحمر يقاسي الويلات بين الجبال الأفغانية، طيلة 10 سنوات حتى انسحابه في فبراير (شباط) 1989، في ذلك الوقت حرص المسؤولون الأمريكيون على التأكيد أن دعمهم للمسلحين الإسلاميين في أفغانستان المناوئين للشيوعية، لم يكن سوى رد فعل على الغزو السوفيتي، لكن الحقيقة كان لها وجه آخر.

بعد سنوات من انهيار الاتحاد السوفيتي، وبعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، أقر زبغنيو بريجنيسكي في مقابلة مع صحيفة «لونوفيل أوبسيرفاتور» الفرنسية أنه قد قاد في يوليو (تموز) 1979 جهودًا داخل البيت الأبيض دفعت الرئيس كارتر إلى توقيع أمر بتقديم المساعدة السرية للمسلحين الإسلاميين في أفغانستان، وأنه كان يدرك يقينًا أن تلك المساعدة ستؤدي إلى التدخل العسكري السوفيتي المباشر، ولكنه شرح للرئيس كارتر رغبته في جر الاتحاد السوفيتي إلى «فيتنام الخاصة به»، وهي الحرب التي أسفرت لاحقًا عن «إحباط الإمبراطورية السوفيتية وانهيارها»، على حد تعبير بريجنيسكي.

إلى جانب خدعة زبغنيو بريجنيسكي هذه، فقد كان الرجل نفسه أول من قاد بعد الغزو الجهود الأمريكية لدعم المقاتلين الأفغان بالمال والرجال والسلاح، حيث طاف الشرق الأوسط في عام 1980 لترتيب برنامج «إعصار» التي خططت له «المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)»، لتوفير سلاح مصري سوفيتي الصنع، بتمويل سعودي، ونقله إلى باكستان تمهيدًا لتسليمه إلى المقاتلين الأفغان، وكان لتلك الأسلحة، فضلًا عن تدفق المقاتلين الإسلاميين على البلاد -في ظاهرة عرفت حينئذ باسم «الأفغان العرب»، الفضل في دحر الاتحاد السوفيتي من افغانستان بعد سنوات.

زبغنيو برجنيسكي خارج قفص السياسة

بعد مرور عدة سنوات على انهيار الاتحاد السوفيني، وتحول دفة البندقية الأمريكية صوب «الحرب على الإرهاب»، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، تعرض زبغنيو برجنسكي للعديد من الانتقادات، التي اعتبرت أنه لعب دورًا فاعلًا – ولو غير مقصود – في صناعة «الإرهاب»، وتنمية روح الجهاد العالمي التي ما إن حسمت المعركة الأفغانية، حتى خاضت معركتها الكبرى ضد الولايات المتحدة.

لكن برجنيسكي لم يُبد ندمًا على الإستراتيجية التي اتبعها، وفي حواره مع «لونوفيل أوبسيرفاتور»، رد على تلك الاتهامات بالقول: «ما هو الأكثر أهمية في العالم؟ طالبان أم انهيار الإمبراطورية السوفيتية؟ بعض المتطرفين أو تحرير وسط أوروبا ونهاية الحرب الباردة»، مؤكدًا أن «العملية السرية كانت فكرة ممتازة، وكان لها تأثير جر الروس إلى الفخ الأفغاني».

كان زبغنيو برجنيسكي بمثابة الذراع الأيمن لكارتر طيلة سنوات رئاسته، وبقدر ما كان له دور في «الإنجازات» التي حققها كارتر على الصعيد الخارجي، فقد كان أيضًا سببًا في «الانتكاسات» التي تعرض لها، ففي عام 1979 كان بريجنيسكي وراء سياسة البيت الأبيض بـ«التمسك حتى النهاية» بشاه إيران محمد رضا بهلوي، رغم تحذيرات المخابرات الأمريكية بأن الشاه لن يستطيع الحفاظ على البقاء في السلطة طويلًا، وهو ما حدث بالفعل، حين تمكن الثوار بقيادة الزعيم الديني آية الله الخميني من الإطاحة به.

Embed from Getty Images

أزمة الرهائن الأمركيين

كان تعامل بريجنيسكي مع الأزمة الإيرانية خاطئًا تمامًا، فبعد إطاحة الشاه لم يعد للأمريكيين أي اتصال بالقادة الجدد في إيران، وجاءت خطوة إدارة كارتر بالسماح لشاه إيران المعزول بدخول الولايات المتحدة لتعمق الأزمة، حيث قام الثوار باقتحام السفارة الأمريكية في إيران، واحتجاز رهائن أمريكيين، عندما حاول زبغنيو بريجنيسكي حل المشكلة، فضغط على الرئيس الأمريكي للأمر بتحرير الرهائن بالقوة، بعملية عسكرية جرت في أبريل 1980.

كان مصير هذه العملية الإخفاق التام، إذ لقي ثمانية جنود أمريكيين مصرعهم، لتتكبد إدارة كارتر خسارة كبرى، خسر على إثرها جيمي كارتر الانتخابات الرئاسية، ليخرج ومعه مساعده زبغنيو برجنيسكي من البيت الأبيض محسوري الرأس.

بعد خروجه من البيت الأبيض، عمل زبغنيو بريجنيسكي في التدريس الجامعي، وفي التأليف، حيث نشر كتابه «رؤية إستراتيجية» والتي تناول فيه أزمة السلطة العالمية التي تواجه الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كما كانت له آراء معارضة للغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وتوقع أن تواجه واشنطن مزيدًا من المصاعب في هذا البلد بسبب الفروق بين ما اعتبرها «الأهداف غير الواقعية ووسائل تحقيقها».

وقد توفي زبغنيو بريجنسكي يوم 26 مايو (أيار) 2017 عن 89 عاما داخل أحد مستشفيات ولاية فيرجينيا، بعد حياة حافلة بالأحداث، ويُنظر إليه في الولايات المتحدة باعتباره أحد أعمدة السياسة الأمريكية الخارجية في القرن العشرين، بل يعتبره البعض المعادل الديمقراطي لوزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر.

المصادر

تحميل المزيد