عام 247هـ / 861م شهدت دولة الخلافة العباسية نكبة كبرى حين اقتحم العسكر التركي قصر الخليفة المتوكل، وقتلوه شر قتلة، بعد أن كان قد صنعهم على عينيه وقربهم إليه، ولكنهم آثروا التحالف مع ابنه المنتصر، الذي انقلب على أبيه خوفًا من أن يصرف أمور الخلافة عنه إلى إخوته، فكانت حادثة مقتل المتوكل هي البداية الأولى لما سيؤول إليه أمر دولة بني العباس من ضعف؛ فبعد غلبة العناصر غير العربية، وبخاصة الأتراك والفرس على الجيش، صار قادة الجند ينتزعون بالتدريج سلطات الخليفة، حتى لم يبق لأغلب الخلفاء رأي في حل أو عقد، إلى أن هيمنت الدولة البويهية على الخلافة.

لم تهدأ الاضطرابات بعد ذلك أبدًا في أروقة الحكم في بغداد؛ فقد سُمم الخليفة المنتصر نفسه قبل أن تمر ستة أشهر على بدء ولايته، على يد عسكر القصر الذين صارت لهم اليد الطولى في تسيير الأمور، وقُتل الخليفة المستعين بالله ذبحًا بعد عزله، ومات المعتز عطشًا بعد أن عزله العسكر المتمرد ومنعوا عنه الماء، وحاول بعض الخلفاء – مثل المهتدي والمعتضد – أن يستعيدوا بعضًا من هيبة الخليفة وسلطانه، ولكن تلك المحاولات باءت بالفشل.

وجاءت فترة المقتدر بالله الذي تولى الخلافة وهو ابن 11 عامًا، وبقى فيها 24 سنة تتقلبه فيها أيدي الأمراء، حتى قُتل على يد مؤنس الخادم الفارسي؛ ليؤول الأمر إلى القاهر بالله، والذي انتهى به الأمر قتيلًا هو الآخر، حتى جاء الخليفة الراضي بالله عام 322هـ/ 933م، ووسط كل هذه التوترات، كانت ثمة قوة صاعدة في الجوار ترقُب الأوضاع، وتتحين الفرصة للانقضاض على الخلافة، هي الدولة البويهية في بلاد فارس، والتي ستلعب دورًا بارزًا على مسرح الأحداث طيلة قرن من الزمان.

 

مرغمةً بغداد تتهيأ لاستقبال جحافل الدولة البويهية

ينتسب البويهيون إلى أبي شجاع بويه وكان حطابًا فقيرًا له ثلاثة أبناء هم علي «عماد الدولة»، والحسن «ركن الدولة»، وأحمد «معز الدولة» – وهذه الألقاب خلعها عليهم الخليفة العباسي فيما بعد عند استيلائهم على بغداد – سكن بويه وأبناؤه بلاد «الديلم»، وهي البلاد الممتدة على سواحل بحر خزر من جنوبه الغربي، ولهذا تلقب الدولة ﺑ«الديلمية» أيضًا، قبل أن يخرجوا مع مَن خرج من دعاة العلويين للثورة على العباسيين.

ثم التحقوا بمرداويج بن زيار مؤسِّس الدولة الزيارية في طبرستان (وهي المنطقة الجبلية التي تحيط بجنوب بحر قزوين حاليًا)؛ إذ عين الإخوة الثلاثة على إقطاعات مختلفة من المنطقة، وكان أكبرهم – وهو أبو الحسن علي المُعين على بلاد الكرج بين أصفهان وهمذان – فارسًا شجاعًا صاحب همة عالية فكثر أتباعه وأتباع أخويه، قبل أن ينقلب بنو بويه على مرداويج وتدين لهم المدينة تلو المدينة حتى سيطروا على بلاد فارس بأكمها، وأقر لهم الخليفة العباسي الراضي بالله (322-329هـ) بذلك.

وقد شهد عهد الراضي بالله تدهور أمور الخلافة العباسية واضطراب أحوال البلاد، على الرغم مما عُرف عنه من الصلاح والتقوى، وحبه للعلم والأدب، إذ وصلت الدولة إلى أسوأ مراحلها، إلى الحد الي دفعه إلى استحداث منصب أمير الأمراء وولاه لابن رائق الموصلي الذي كان حينها واليًا على البصرة وواسط بالعراق، وكان أقوى المتصارعين وأقربهم إلى قلب الخليفة، وجعله قائد الجيوش، والمسؤول عن تدبير أمور الخراج والضرائب والمتصرف في الأموال، فكان أمير الأمراء هو الحاكم الفعلي للبلاد، حتى أن الخليفة قد أمر بأن يُخطَب له على المنابر.

تاريخ

منذ سنة واحدة
مختصر تاريخ الدولة الصفوية.. أسسها صبي في الخامسة عشرة وحكمت إيران قرنين

وفاقم من سوء الأمور أن سياسة الراضي أججت نار الصراع بين كبار رجال الدولة، وفي مقدمتهم أبو عبد الله البريدي، صاحب الأهواز، وبَجْكم التركي قائد العسكر، وناصر الدولة بن حمدان صاحب الموصل، وتوزون التركي رئيس الشرطة، الذين تسابقوا للوصول إلى منصب أمير الأمراء.

ودخلت الدولة البويهية على خط المنافسة وأصبحوا طرفًا هامًا في المعادلة؛ إذ حاول الوزير أبو عبد الله البريدي الاستعانة بعلي بن بويه والي فارس، في مواجهة بجكم التركي، فأرسل علي أخاه أحمد للسيطرة على العراق، ولكنه لم يفلح في بداية المطاف فمكث بقواته في الأهواز (بإيران) ينتظر.

وبعد وفاة الراضي تآمر توزون التركي مع المستكفي بالله، للإطاحة بالخليفة المتقي بالله أخي الراضي، وتولية المستكفي مكانه، وبعد نجاح المخطط تولى توزون إمارة الأمراء، قل أن يخلفه فيها زيرك بن شيرزاد التركي لتزداد أحوال بغداد اضطرابًا، وخلا بيت المال من النقود، فازداد نهب العسكر لأموال العامة، وانتشر قطاع الطرق واضطرب الأمن، وأصبحت أراضي العراق في فوضى تامة، واضطرب الأمن، وأخذ أهل بغداد بالجلاء عنها، خصوصًا التجار خوفًا من المصادرات بحقهم.

الخليفة العباسي «خيال مآتة» في حضرة الدولة البويهية

وسط هذه الفوضي، وفيما جيوش أحمد بن بويه تنتظر في الأهواز، وصله كتاب من أحد القادة الأتراك ويدعى ينال كوشه – وكان غريمًا لزيرك أمير الأمراء – يغريه بالعراق، ويعده بالمساعدة، فتقدم البويهي بجيشه، ودارت بينه وبين قوات الأتراك معارك هائلة كانت له الغلبة فيها في النهاية، حتى دخل بغداد في استقبال عظيم، وذهب إلى دار الخلافة إذ ولاه الخليفة المستكفى بالله إمارة الأمراء، وعهد إليه بتدبير أمور الدولة، ولقَّبه «معز الدولة»، ولقَّب أخاه عليًّا «عماد الدولة»، وأخاه الحسن «ركن الدولة».

أجهز «معز الدولة» على ما تبقى من هيبة الخلافة، وجعلها منصبًا شكليًا بلا أي صلاحيات مطلقًا، حتى أنه حجر على الخليفة المستكفي بالله، ومنعه من التصرف في أمواله، واكتفى بمنحه راتبًا شهريًا، ولم يعد له حق تعيين وزير أو كاتب، بل صار ابن بويه يعين الوزراء باسمه لا باسم الخليفة، وصارت المعاهدات والاتفاقات تعقد بغير علم الخليفة أو توقيعه في معظم الأحيان.

سار قادة الدولة البويهية على منهج الأتراك في خلع الخلفاء والتنكيل بهم، فبعد أسابيع قليلة من دخوله بغداد، آنس معز الدولة وحشة من المستكفي بالله وشعر بالقلق منه، فعزم على خلعه، ويروي ابن كثير في «البداية والنهاية» كيف قام أحمد بن بويه بإذلال المستكفي بالله والتنكيل به فقال: «لما كان اليوم الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، حضر معز الدولة إلى دار الخلافة، فجلس على سرير بين يدي الخليفة، وجاء رجلان من الديلم فمد الخليفة يده لهما ظنًّا منه أنهما يريدان تقبيلها، فمدا أيديهما إلى الخليفة فأنزلاه عن كرسيه وسحباه، فتحربت عمامته في حلقه (أي خنقته) ونهض معز الدولة واضطربت دار الخلافة، حتى خاض إلى الحريم، وتفاقم الوضع، وسيق الخليفة إلى دار معز الدولة فاعتقل بها، وأحضر أبو القاسم الفضل بن المقتدر، فبويع بالخلافة، وسملت عينا المستكفي وأودع السجن، فلم يزل فيه مسجونًا حتى كانت وفاته في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة».

الدولة العباسية في عصر نفوذ الدولة البويهية والفاطميين

ولم يكتف قادة الدولة البويهية بذلك، بل إن معز الدولة فكر في إنهاء الخلافة العباسية على الجملة، معتبرًا أن العباسيين قد اغتصبوا ذلك الحق من العلويين، وشاور أصحابه في مبايعة الخلافة الفاطمية العبيدية، لولا أن البعض حذره من مغبة تلك الخطوة، قائلين «ليس هذا برأي، فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة، كان معك من يعتقد صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه، فأعرض عن ذلك».

ولما كان بنو بويه ينتسبون إلى المذهب الشيعي، فقد فتحوا الطريق أمام بعض الممارسات والطقوس التي كان محظورًا أن تخرج إلى الفضاء العام ببغداد في السابق، فكان معز الدولة أول من ألزم بالاحتفال بذكرى عاشوراء في البلدان، ويروي الذهبي في كتابه «تاريخ الإسلام» كيف «ألزم معز الدولة الناسَ بغلق الأسواق ومنع الهرَّاسين والطبّاخين من الطبيخ، ونصبوا القباب في الأسواق، وعلّقوا عليها المُسُوح، وأخرجوا نساءً منشَّرات الشعور مضجّات يلطمن في الشوارع، ويُقِمْن المآتمَ على الحسين عليه السلام، وهذا أول يوم نيح عليه ببغداد».

نهاية الحكاية.. كيف سقطت الدولة البويهية؟

بعد وفاة معز الدولة تولى ابنه عز الدولة بختيار، الذي انشغل باللهو واللعب والمغنيين، وحكم مدة 11 عامًا، خلفه بعدها عضد الدولة الذي كان صاحب شجاعة ومهارة فائقة، حتى تمكن من توحيد أغلب أراضي فارس والعراق تحت إمرته، وقد كان عضد الدولة يتبادل رسائل المودة والتعاون مع الخليفة الفاطمي بمصر العزيز بالله، مظهرًا طاعته ومحبته للبيت الفاطمي، وذلك في حضرة الخليفة العباسي نفسه، وهو ما يدل على المدى الذي وصل إليه الاستخفاف بالخليفة العباسي وضعف أمره.

ولم تكن فترة حكم قادة الدولة البويهية، التي استمرت نحو 113 سنة من الزمان، سوى سلسلة متصلة من الصراعات الداخلية على الملك بين أبناء العمومة، وبين الوزراء والأمراء المتحاربين على النفوذ والمناصب والألقاب، فضلاً عن الصراعات المذهبية بين السنة والشيعة، والتي صارت أحد سمات ذلك العصر، فمثلًا اندلعت فتنة كبيرة سنة 443هـ قُتل فيها من الطرفين عدد كثير، واحترقت دور الفقهاء، وضريح الإمام موسى بن جعفر الصادق، وقبر زبيدة زوجة هارون الرشيد، وقبور الخلفاء، وقبور ملوك بني بويه.

وكان العراق في ذلك العصر مسرحًا للصراعات العرقية الدموية بين الغريمين المتنافسين داخل أروقة الدولة البويهية، الديلم والأتراك، وفي كل مرة يتصارع الفريقان ينتشر السلب والنهب والقتل، ويميل السلطان البويهي إلى أحد الفريقين، فيفتك بالطرف الآخر ويستطيل عليه، وهو ما يزيد الشقاق في صفوف الجند، ويعمق من الشروخ في أنحاء الدولة.

مع تسلم أبي نصر بن أبي كاليجار – الذي تلقب بـ«الملك الرحيم» – ابن سلطان الدولة، زمام الملك سنة 447هـ/1055م كانت الدولة البويهية قد بلغت شيخوختها، وضج بها العامة والخاصة، وفي الجوار، كانت الدولة السلجوقية بقيادة طغرل بك في قوة نامية، ليقود الأخير جيشًا جرارًا من الأتراك سيطر به على بغداد، مسطرًا بذلك نهاية الدولة البويهية التي ظلت على مسرح الأحداث في العالم الإسلامي أكثر من قرن من الزمان.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد