تحفل قصص التاريخ، برجال انتقلوا من مصاف العامة إلى مرتبة الأمراء، وبآخرين ألقت بهم الأحداث من سدة الحكم إلى غياهب السجون، كما تذكر لنا كيف كان الملك سببًا في نشأة عقود الصداقة أو انفراطها، كل ذلك وأكثر ترويه حكاية شاعر من شعراء الأندلس، وأحد أشهر من تولى مرتبة الوزارة فيها، وهو أبو بكر محمد بن عمار الأندلسي.

ابن عمار تحت وطأة الفقر

في قرية شنبتبوس، وهي قرية صغيرة قرب مدينة شلب الأندلسية، الواقعة جنوب البرتغال الآن، ولد أبو بكر محمد بن عمار، لعائلة فقيرة معدمة لم تمتلك شيئًا من أسباب الشرف أو المجد في ذلك العصر، ونشأ ابن عمار مفتقرًا إلى الثروة والمكانة، غير مفتقر إلى الطموح والذكاء، وكغيره من النجباء المغمورين في ذلك العصر، كان الشعر طريقه الأول لتحقيق مطامحه الواسعة العريضة.

بعد أن تلقى ابن عمار تعليمه الأولي في اللغة والقرآن، سافر إلى شلب وهناك واظب على دروس أبي الحجاج يوسف، أحد علماء زمانه في اللغة العربية، ثم رحل فترة من الوقت إلى قرطبة، حيث كان يحضر حلقات العلماء وجلسات المثقفين والأدباء، وهو ما مكنه من اللغة والأدب، فصار شاعرًا فصيحًا قادرًا على أن ينظم القصائد متينة التركيب، متماسكة العبارات، صحيحة الوزن.

وهنا حان وقت توظيف الموهبة والمعرفة في الغاية التي ينشدها ابن عمار، فقد صار يتردد على ملوك الطوائف مادحًا لهم، متكسبًا بشعره ما استطاع، وهي عادة أغلب شعراء زمانه، لم تكن هذه الأشعار مصدرًا لفخر ابن عمار، فقد كانت مجرد وسيلة يتكسب بها، ويُروى أنه أحرق كثيرًا من شعر مديحه هذا قبل مماته، ومن القصص التي تروى عنه أنه وصل يومًا إلى شلب لا يملك إلا بغلته التي لم يكن يملك ثمن العلف لها، فقصد تاجرًا ونظم له قصيدة يمدحه فيها فعطف عليه التاجر وأرسل له مخلاة شعير.

تاريخ وفلسفة

منذ 4 سنوات
من الصعود إلى السقوط.. المختصر الشامل لتاريخ الأندلس

كانت الأندلس في تلك الحقبة تعيش فترة من الاضطراب الشديد، عرِف باسم «الفتنة الأندلسية»، التي أعقبت سقوط «الدولة العامرية»، وهي الدولة الطارئة على حكم الأندلس التي أسسها الحاجب المنصور بن أبي عامر، الذي حجر على الخليفة هشام المؤيد بالله، واستأصل شوكة بني أمية من الحكم وإن أبقى على الخلافة الأموية شكليًّا، وقد دامت الدولة العامرية نحو 30 سنة، حتى قرر حاجبها عبد الرحمن بن شنجول الخروج عن نهج المنصور، وأجبر الخليفة هشام على تسميته وليًّا للعهد غير مكتفٍ بلقب الحجابة، فثار به العامة وبواقي بني أمية وقتلوه.

عاشت الأندلس بعد ذلك اضطرابات وصراعات على الحكم، كان أطرافها بقايا الأمويين، وحكام المدن والولايات، والصقالبة العامريين، وما عرف بالبربر الذين استعان بهم العامريون، والممالك المسيحية التي دخلت طرفًا في الصراع، ولعبت على أوتار الصراعات بين الإخوة المتحاربين، فلم يستقر الأمر لأي خليفة أموي، حتى قرر أهل قرطبة إلغاء الخلافة الأموية، ليبدأ العهد الذي عُرف بـ«ملوك الطوائف».

حيث انكب أمراء الأندلس على بناء دويلات منفصلة دون حكم مركزي، بلغ عددها 22 دويلة أهمها قرطبة التي حكمها بنو جهور، وإشبيلية التي ولى أهلها القاضي أبو القاسم بن عباد حكم ولايتهم، وورث الحكم فيها من بعده ابنه المعتضد، وطليطلة وغرناطة، وسبتة وغيرها من الممالك والدويلات المتناحرة.

ابن عمار في صحبة المعتمد

بعد عدة محاولات فاشلة لم يجن منها شيئًا يذكر، ولى ابن عمار وجهه شطر إشبيلية؛ إذ كان حاكمها المعتضد في ذلك الوقت في أوج انتصاراته بعدما قضى على ابن الأفطس أمير بطليوس، وصغار من عرفوا بأمراء البربر جنوب غربي الجزيرة، وكان المعتضد بحاجة إلى من يمجد انتصاراته ويوثقها، فتقدم إليه بقصيدة سميت «الرائية» يقول في مطلعها:

أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى * والنجم قد صرف العنان عن السرى

ويقول فيها أيضًا:

من لا توازنه الجبال إذا احتـبـى * من لا تسابقه الرياح إذا جـرى

فإذا الكتائب كالكواكب فوقهم * من لامهم مثل السحاب كنهورا

من كل أبيض قد تقلد أبـيضـًا * غضبًا وأسمر قد تقلد أسمرا

كان لرائية ابن عمار أبلغ الأثر في نفس المعتضد الذي ضمه إلى ديوان شعرائه، وكان المعتضد ملكًا صارمًا لا يتورع عن سفك الدماء، وافتتح حكمه بالفتك بوزراء أبيه وأعوانه، ليؤسس ملكه الخاص، وكانت لديه طموحات توسعية فأخذ يضم الإمارات الصغيرة غربي الأندلس قبل أن يتحول إلى السيطرة على الممالك البربرية في الجنوب، وكان شديد الحيطة والحسم، فحين اقتنع بتآمر ابنه وولي عهده إسماعيل عليه بتحريض من وزيره البرلياني، لم يتورع عن قتل ابنه بيديه، صارفًا ولاية العهد إلى ابنه الآخر محمد (الملقب بالمعتمد كما سنذكر لاحقًا).

في قصر المعتضد، تعرف محمد بن عمار إلى الأمير محمد بن المعتضد، ونشأت بينهما صداقة متينة، ستمتد روابطها لسنوات طويلة، وكان محمد المعتمد شاعرًا، سيعرفه التاريخ بشعره كما يعرفه بحكمه، فوجد في ابن عمار ضالته، كما وجد الأخير في الأمير غايته، فتصادقا، وحين أرسل المعتضد ابنه محمدًا لفتح شلب، اصطحب معه ابن عمار، حيث قضيا أوقاتًا طويلة من النعيم والأنس والترف، أنست محمدًا بن عمار أيام شقائه وعوزه في المدينة نفسها قبل سنوات.

بعد مقتل إسماعيل بن المعتضد، استدعى الأخير المعتمد إلى إشبيلية، وكان معه ابن عمار بالطبع، لكن المعتضد لم يكن مرتاحًا لهذه الصداقة الاستثنائية، فأبعد ابن عمار عن ولده، ونفاه إلى سرقسطة، فعاد محمد بن عمار إلى حياة الكد والتعب، تمسك بتلابيبه الحاجة ويطارده الحرمان، لكن تلك الفترة لم تدم طويلًا، فما إن توفي المعتضد عام 461هـ حتى أرسل إليه صديقه يستدعيه من سرقسطة.

الغاية تبرر الوسيلة

كان أول عمل لابن عمار في دولة المعتمد بن عباد، طلبه أن يكون حاكمًا على شلب، وهو ما تحقق فعلًا، دخل ابن عمار مدينته القديمة في موكب فخم محمل بالهدايا، ينثر الدنانير على جانبيه، لكن بقاءه في شلب لم يدم طويلًا؛ إذ سرعان ما عاد إلى إشبيلية، ليصير الوزير الأول للمعتمد، ويعكفا معًا على وضع الخطة للتوسع.

مثلما كان ابن عمار شاعرًا وصوليًّا يستخدم الشعر سبيلًا للوصول إلى منزلة يبتغيها، فقد كان محمد بن عمار سياسيًّا «ميكافيليًّا» بامتياز، يؤمن بأن «الغاية تبرر الوسيلة»، وفي سبيل توسيع رقعة مملكة إشبيلية، كان عليه أن يحالف الممالك المسيحية في الشمال، وبخاصة ألفونسو السادس ملك قشتالة الذي تمتع معه بعلاقة خاصة، فلم يضيع محمد بن عمار فرصة زيارة ألفونسو سواء رسولًا من المعتمد، أو بمبادرة خاصة منه، ولم يخجل الوزير ومعه المعتمد من بذل الأموال للملك المسيحي في مقابل غض الطرف عن تحركات الجيوش الإشبيلية، أو حتى طلب المساعدة من جيوش قشتالة.

مطمئنًا من جانب القشتاليين، ومتسلحًا بالدهاء، نجح محمد بن عمار مع المعتمد في السيطرة على قرطبة، فبعد أقل من عام واحد فقط على عودته من شلب، كان بنو جهور قد طلبوا العون من حكام إشبيلية للدفاع عن مدينتهم، بعد أن هاجمها جيش طليطلة بقيادة المأمون بن ذي النون، وبعد أن نجح العسكر الإشبيلي في رد جيش طليطلة،  هجموا على المدينة، ونجحوا في السيطرة عليها بالتعاون مع قسم من سكانها.

تاريخ

منذ سنتين
هذا ما كانت عليه التركيبة السكانية في بلاد الأندلس

 

وجَّه ابن عمار بعد ذلك أنظاره تجاه قشتالة، فحاول السيطرة عليها من ملكها ابن زيري، لكن تقلبات الأوضاع في قرطبة، وهجوم جيش طليطلة عليها وقتل ابن المعتمد، أفشل خططه بعدما سحب المعتمد جل قواته إلى قرطبة، لكن ابن عمار لم ييأس، وبدأ يوجه أنظاره تجاه مدينة مرسية الغنية الواقعة على ساحل البحر المتوسط، والتي كان يقودها الأديب ابن طاهر.

في تلك الأثناء، كانت إشبيلية تتعرض لتهديد وجودي، بعدما قاد ألفونسو السادس ملك قشتالة جيوشه لاحتلالها، ضاربًا باتفاقاته مع ابن عمار عرض الحائط، وتروي بعض المصادر أن ابن عمار ذهب إلى ألفونسو مفاوضًا، ونجح في رده بالحيلة، بعدما دفعه إلى مبارزته في لعبة الشطرنج.

وبعدما تمكن ابن عمار من الفوز اشترط على الملك أن يعود إلى بلاده، مقابل أن يكتفي بضِعف الجزية السنوية التي تؤديها إشبيلية له، وإن كان البعض يشكك في هذه القصة ويعدها من قبيل المبالغة، فإن الثابت أن ابن عمار نجح في رد العدوان عن إشبيلية بالطرق الدبلوماسية، ولهذا كان ابن عمار يلقب بـ«رجل الجزيرة»، وهو اللقب الذي أطلقه عليه ألفونسو، وانتشر كالنار في الهشيم.

ابن عمار يتجرع كأس الخيانة والسجن

كانت مرسية الواقعة على ساحل البحر المتوسط، شرق إشبيلية، هي الوجهة التالية لابن عمار، كانت مرسية إمارة صغيرة غنية يحكمها الأديب ابن طاهر الذي كان واسع الثراء، وقد قرر ابن عمار انتزاعها منه، وكانت عدته في هذه المرة ملك برشلونة، الذي وعده ابن عمار بـ10 آلاف مثقال ذهب، مقابل مساعدته في حملته، التي كان مصيرها الفشل في النهاية، فقبض البرشلوني على ابن عمار والرشيد ابن المعتمد ولم يطلق سراحهما إلا بعد أن أرسل إليه المعتمد الأموال المطلوبة. كان ابن عمار في موقف صعب خشية غضب المعتمد، فلجأ إلى ذكائه ولسانه وكتب يستجدي المعتمد قائلًا:

أأركب قصدي أم أعوج مع الركب * فقد صرت من أمري على مركب صعب؟

وأصبحت لا أدري أفي البعد راحتي * فأجعله حظي، أم الخير في القرب

فما كان من المعتمد إلا أن أرسل إليه يسترضيه قائلًا:

لديَّ لك العتبى تزاح عَن العتب * وَسَعيُك عِندي لا يُضاف إِلى ذَنبِ

فدع عنك سوء الظنِّ بي وَتَعدهُ * إِلى غَيره فَهوَ الممكَّن في القَلبِ

لكن محمد بن عمار أبى إلا أن يعيد الكرة، فأقنع المعتمد بأن يُسير معه جيشًا لحصار مرسية مجددًا، وأخذ معه في هذه الحملة ابن رشيق قائد حصن بلج، ولم تستطع مرسية تحمل الحصار طويلًا فثار أهلها على ابن طاهر وقبضوا عليه، ودخل ابن عمار المدينة مزهوًّا بنصره، في موكب مهيب يحاكي مواكب الملوك، حتى وصل إلى مرسية، فأسبغ على أهلها النعم والعطايا.

هنا حان وقت الخطوة التالية من خطة ابن عمار، وهو أن يصرف جهده لنفسه لا لبني عباد، فأخذ يصرف الأمور باستقلال عن المعتمد، وأخذت الشقة تتباعد بين الصديقين، وابن عمار يركب رأسه، ولا يتورع أن يهجو سيده، بل تعداه حتى إلى أهل بيته حين نظم قصيدة في اعتماد الرميكية زوجة المعتمد، (وكانت جارية سلبت قلب المعتمد فاشتراها وأعتقها ثم تزوجها).

تخيرتها من بنات الهجان * رميكية لا تساوي عقالًا

 فجاءت بكل قصير الذراع … لئيم النجارين عمًّا وخالًا

انقلب ابن عمار إذًا على صديق عمره، وصار يتصرف كملك من ملوك الطوائف، ولكنه لم يلبث أن ذاق من كأس الخيانة، حين استغل ابن رشيق فرصة غيابه عن مرسية، فاستولى عليها، وعلى أملاك ابن عمار فيها، وطرد عائلته منها، وأرسل إلى ألفونسو السادس يكاتبه ليبقيه على الحياد، فوجد ابن عمار نفسه شريدًا مجردًا من كل سيف، وهو الذي ساءت علاقته بأغلب ملوك الطوائف بسبب تصرفاته وسياساته، ولم يجد من يلجأ إليه إلا المؤتمن بن هود في سرقسطة، وكان لا يزال يحتفظ معه ببعض الصداقة.

في سرقسطة، حاول ابن عمار استغلال مواهبه مجددًا، وعرض خدماته للبيع عند المؤتمن بن هود، الذي أرسله مع مجموعة من الجند لفتح حصن شقورة، لكن أمراء الحصن كانوا متيقظين، فقبضوا على ابن عمار، وأفشلوا خططه، ولم يكد أمره يبلغ المعتمد حتى أرسل إلى قادة الحصن يشتريه منهم.

 

دخل ابن عمار قرطبة هذه المرة، على غير الحال التي خرج منها، مهانًا ذليلًا، وقد وضع على بغلة واجتمع الناس من كل حدب وصوب يشاهدون منظره ويتعجبون من تقلبات الأزمان، أودع ابن عمار قصر إشبيلية، وهناك عاد إلى الشعر مجددًا ووجد فيه وسيلة وحيدة للخلاص مما هو فيه، فأخذ ينظم القصيدة تلو القصيدة يستعطف بها المعتمد، وأبناء المعتمد، معترفًا بخطئه، يحثهم على العفو عنه، ومما  كتب في ذلك:

سـجـايـاك إن عـافيت أندى وأسمح * وعـذرك إن عـاقـبـت أجـلى وأوضح

حـنـانيك في أخذي برأيك لا تطع * عـداتـي وأن أثنوا علي وأفصحوا

لكن كل تلك الرسائل لم توهن قلب المعتمد، الذي كان يتحرق غضبًا من صديقه السابق، فقرر قتله بنفسه، مستخدمًا في ذلك فأسًا كان قد أهداها إليه ألفونسو، وكأن الأقدار قد أصرت أن تأتي نهاية «رجل الجزيرة» بالسيف نفسه الذي كان يحتمي به، ودفنت جثة ابن عمار قرب قصر المبارك، في موضع غير معروف، ولم تكتشف عظامه إلا بعد ذلك بـ20 عامًا.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد