في نهاية فيلم «500days of summer» تجلس سمر بجانب توم، ويقول لها توم بكل أسى: «تعرفين ما أكثر شيء مقرف؟ هو إدراك أن كل ما تؤمنين به هراء تمامًا. القدر وتوأم الروح، والحب الحقيقي والحكايات الخيالية التي كنا سمعناها في طفولتنا».
يُعتبر توم في الفيلم هو ممثل الحب العفوي الحالم الخالي من الخطط المستقبلية والذي يتجاوز ذاته ويعطيها لمن يحب، ذلك الحب الذي وصفه أفلاطون في كتاب المأدبة «إنه عاطفة مقدسة تُشعل في النفس الحاجة إلى إنكار الذات والتضحية»، وعلى الجانب الآخر كانت سمر التي تمثِّل مساحة الخبرة في العلاقات واللصيقة بالشكّ في أن يحدث لها أن تقع في الحب بسهولة والتي تميل إلى الصبر وتقييم العلاقة وعدم الانجراف في تيار حميمية المشاعر، على عكس توم الذي يحمل الحب المتهور العفوي.
يقول جوسيف جوردون – ممثل شخصية توم- عن الفيلم: «المشاهدون يميلون إلى قول: لماذا لم ينته بها المطاف إلى أن تبقى معه فهو لطيف جدًا؟ لكنِّي أعتقد أنه كان مذنبًا حقًا بإسقاط خياله على هذه الفتاة التي لم تكن تستحقه بالضرورة، وأنه بصراحة، كان سجين وجهة نظره الأنانية، أنا متأكد من أنني قد فعلت الشيء نفسه، ونحن جميعًا نفعل ذلك بنسبة ما في كل علاقة».
أقرأ أيضًا: «The Lobster».. ديستوبيا الباحثين عن الحب
الخوف من الارتباط
تقوم «د.ليسا فيرستنون»، الباحثة الأكاديمية في The Glendon Association، بالتفرقة بين الخوف الطبيعي الذي نشعر به في أي علاقة جديدة لأنها تكون منطقة مجهولة لدينا، ومعظمنا لدينا مخاوف طبيعية من المجهول، لأنه يتطلب منا أن نضع قدرًا كبيرًا من الثقة في شخصٍ آخر مما يسمح له أن يؤثر فينا، وبين الخوف الذي يمنعنا من خوض التجربة من الأساس.
إنّ الخوف من الارتباط يأتي بالأساس من الخوف من الانفصال والابتعاد عمن نحب، يقول عالم النفس والفيلسوف الألماني «إريك فروم» في كتاب «The art of Love»: «أن البشر من مختلف العصور والثقافات ينشغلون بالبحث عن جواب للسؤال نفسه: كيف يمكن التغلب على الانفصال؟ كيف يمكن تحقيق الوصال؟ كيف يمكن العلو فوق الحياة الفردية الخاصة وتحقيق الوئام والتوحد؟».
يرى الفيلسوف الدنماركي نود لوغستروب في كتاب «The Ethical Demand» إن نتيجة للخوف من الانفصال يأتي نزوع المحب إلى التملك وأن يكون الطرف الثاني مثله ومُستنسخ منه، وذلك لطرد شبح الانفصال، لأن الانفصال يعني الألم وذلك ما نتجنب حدوثه.
إنّ تعدد الاختيارات من حولنا والتغير الدائم والسريع لمُجريات الحياة خلقت أيضًا الخوف من الارتباط الدائم والعلاقات طويلة المدى، يقول زيجمونت باومان في كتاب «الحب السائل»: «إن الرجال والنساء مشتاقون إلى الأمن الذي يكفله التضامن وقت الشدة، ويستميتون في طلب الارتباط، لكنهم حذرون من الارتباط الدائم الأبدي، فهم يخشون أن يجلب ذلك الارتباط أعباءً ويسبب ضغوطًا لا طاقة لهم بها».
أقرأ أيضًا: السيولة وظواهرها.. نافذة على فكر باومان
روابط هَشة وزمن اللايقين
على مسرح الفلكي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، عُرضت مسرحية بعنوان «نهاية الحب» للكاتب والمخرج المسرحي الفرنسي باسكال رامبير، والمسرحية عبارة عن مونولوج منفرد لزوجين تلفظ علاقتهم أنفاسها الأخيرة، وكانت الزوجة تقول لزوجها الذي قال لها إن حبهم قد مات «اللي مات تصور أهبل عندك للحب»، تبرز المسرحية هشاشة الروابط الإنسانية التي بُنيت على حقائق غير متماسكة وأظهر باسكال ذلك بإبراز تهتك العلاقة على المسرح.
لم ينجح المجتمع الحديث بأدواته أن يُشعر الفرد بالأمان، بالرغم من إمكانية الإعلان في التلفاز عن «جلب الحبيب في ساعات»، و«اطلب مواصفات شريك حياتك ويأتيك أينما كنت!». فلم يكن ذلك إعلانًا لتوفير مجهود البحث عن شريك الحياة مقابل المال، بل هو إعلان عن نهاية العلاقات التي تنشأ بصورة طبيعية، وتحول العلاقات الإنسانية إلى سلعة يمكن عرضها وبيعها في الأسواق، ولذلك تقول أدريين بيرجس في كتاب «will you still love you tomorrow»: «إن الارتباط يصدر عن عوامل مثل: مدى رضانا عن علاقتنا، ومدى رؤيتنا لبديل عملي، ومدى خسارتنا لأشياء عن الإقدام على ذلك مثل الوقت والمال والملكية المشتركة».
عندما كتب نجيب محفوظ في رواياته عن مصر في عصر الاحتلال الإنجليزي ودولة الخديوية، كان محفوظ يرسم ملامح الأسرة المصرية على أنها الأسرة الممتدة المتماسكة التي تعرف جذورها ويسرد حدود القرى الصغيرة التي تحفظ أعرافها ولا تتماهى مع أي دخيل عليها، وبعد تطور المجتمع وتفكك لحمته أصبح مفهوم الأسرة متماهيًا ولا نستطيع أن نُعرف الأسرة بشكل واضح.
ترى دكتورة العلوم السياسية بجامعة القاهرة هبة رءوف عزت أن تفكك الروابط ذلك عائد إلى تفكك نواة المجتمع (الأسرة) وتشير إلى ذلك قائلة: «إن الفرد لا يمكنه التعويل على دعم الأسرة الممتدة نظرًا لتفكيك الروابط، وتباعد المسافات، والتمحور حول نواة الأسرة الصغيرة، وذوبان معنى الالتزام تجاه المجموع».
كان المثقفون والعوام العرب يصفون أهل الغرب عادةً بأنهم يعانون من الفردية، التي تجعل الشاب الذي يصل إلى سن 16 عامًا يبحث عن منزل ويدبر أمور معيشته، لأنه الآن أصبح قادرًا على أن يتحمل مسؤولية نفسه، والعائلة سوف ترفض الإنفاق عليه، وذلك الرجل الكهل الذي يجب عليه أن يبحث عن ملجأ لأن أبناءه لن يستطيعوا تحمل مسؤوليته، ولكن أصبح يوجد الآن الكثير من منظمات المجتمع المدني حتى في مجتمعنا العربي تسعى لسد الفجوات التي أحدثها المجتمع من تفكك وانصهار في الفردية وتحقيق الذات.
ذلك ما أطلق عليه ديفيد ريسمان في كتاب The Lonely Crowd «التجمع المكون من أفراد يعانون من الوحدة»، وما حاول أن يفسره أندرسون في كتاب «الجماعات المتخيلة» بالحديث عن سر التماهي مع فئة كبيرة من الغرباء المجهولين الذي يعتقد الشخص أنه يشاركهم شيئًا ويتحدث بإستخدام الضمير (نحن) عندما يتحدث عن نفسه.
على جانب آخر، كتب بيير بورديو ورقة بحثية بعنوان «فقدان الاستقرار في كل مكان هذه الأيام»، ويتناول فكرة الخطر الذي يحيط بمكانة المرء، وعدم اليقين في استمرارية الامتيازات التي لديه واستقرارها في المستقبل، وذلك ما يخلق الرهبة من الالتزام تجاه العلاقات أو الأشياء من حولنا وذلك ما وصفه باومان في كتاب «الأزمنة السائلة» بانهيار التفكير والتخطيط والفعل طويل المدى، واختفاء أو إضعاف الأبنية الاجتماعية التي يمكن أن تترسخ فيها عمليات التفكير والتخطيط والفعل.
مناقشة د. هبة رءوف لكتاب «الحياة السائلة» في معرض الكتاب العربي في إسطنبول
اعترافات زوج
منذ سنوات أنشأ شباب مجموعة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، أطلق عليها «Confessions of married men» وهي مجموعة يحكي فيها الرجال مشكلاتهم الزوجية عبر إرسال رسائل لحساب مجهول ينشر مشكلاتهم دون ذكر الأسماء، تنفرد المشكلات الجنسية بالنصيب الأكبر على المجموعة، وتبدو المنشورات هزلية وتستهدف الضحك ولكنها أيضًا تُبدي تصور معنى العلاقة الزوجية والأرق الذي يصيب الأزواج نتيجة مشكلاتهم الجنسية التي تمثل للبعض جوهر العلاقة.
يطلق زيجمونت باومان على الإنسان الجنسي الذي يسعى لاغتنام النشوة الجنسية من العلاقات بأنه يتيم ومحروم، ويقول: «لقد حُرم الإنسان الجنسي من المستقبل وقد هجرته الغيب التي اعتادت أن تحف اللقاءات الجنسية، وتبارك الاتحاد الجسدي بهالة من أسرارها».
ويقول عالم الاجتماع أنتوني غيدنز: «أن الجنس هو النموذج المهيمن على العلاقة بين الرجل والمرأة، وهكذا يتوقع أن يستمد مرجعيته وبقاءه من داخله، وأن يحكم عليه بمقدار الإشباع الذي يحققه بنفسه»، عندما يتحول الجنس من تجربة حسية ترتبط بالأساس بالحب والخلود عبر استخلاف الذرية إلى لذة فسيولوجية فقط، فإنه يضع على الجنس آمالًا ليس بوسعه تحقيقها.
في نوادي باريس يقوم الزوجين بعملية « تبادل العشاق» والتي وصفها باومان بأنها تسمح بإشباع الرغبة دون انتظار، وتقصر المسافة بين الحاجة وإشباعها وتساعد على الانتقال من رغبة إلى أخرى في وقت أسرع وجهد أقل.
يصل اللايقين وتفكك العلاقات والصلات العابرة حد المشاع، وتلك المرحلة التي تصفها هبة رءوف في مقدمة كتاب «الحب السائل»: «أن عالم الصلات العابرة يخفف من المسؤوليات ولا يحرم نفسه من فرص تظهر وآفاق تستجد»، تلك اللحظة التي يتحول فيها الحب الذي يسعى لإدامة الرغبة بين الطرفين إلى تعدد الرغبات وسهولة الاستبدال.
في كتاب «المأدبة» لأفلاطون يدعو إلى تخطي العاشق للجسد ليصل إلى عشق النفس، ثم يرقى بعد ذلك إلى عشق الجمال في ذاته ولذاته إلى أن يصل إلى الفضيلة والحكمة، وتحقق الخلود والسعادة الأبدية، ويُثني على الحب قائلاً: «أن الحب من بين الآلهة هو الأقدم والأكثر استحقاقًا للاحترام، وأنه صاحب الكلمة الأخيرة في تحقيق السعادة والفضيلة للبشر سواء في حياتهم أو بعد مماتهم».