لم تشتهر لو أندرياس سالومي بما كتبته في حياتها قدر شهرتها بتقمصها شخصية مصاص الدماء، تحلم أن تمص دم المحبوب، وتشربه حتى آخر قطرة كي تحتفظ بالذي تحبه، ويبقى بداخلها للأبد، وتكرهه إذا أفلت منها. وبالفعل حققت على مدار حياتها ما أرادته، فيكون من العجيب معرفة الأسماء التي وقعت في شرك حبها؛ ليس لقوتها ربما، بل لضعفهم وتعطشهم لتجربة مثل التي أتاحتها هي لعباقرة عصرها، حتى لا يبدو الحديث عنها مثيرًا لذاتها، بل مثيرًا بسبب من ارتبطت بهم وكيف تأثروا بها وظهر ذلك على صفحاتهم بكلمات مضطربة تمامًا بصراعات عاطفية حتى وإن بدت في ظاهرها تحليلات نفسية وأشعارًا ونثرًا.
كيف كان نيتشه قبل لو؟
دعم نيتشه لسنوات وجود اختلاف عميق بين الرجل والمرأة في التوجه والممارسة على صعيدي الجنسانية والحب. وارتكزت وجهة نظر الفيلسوف على عدم مساواة مبدئية غير قابلة للحل والعلاج؛ فالرجل يتملك، والمرأة تمنح نفسها، ولكن هذا المنح هنا هو «منح الذات لأَجَل»، غرض وهدف، ما يكفل للمرأة نوعًا من السيادة هي الأخرى. فتمثل المرأة نفسها كالزينة الهشة التي قد تتأذى بذرة غبار، وتدافع عن نفسها ضد الأقوى، رغم أن قوتها في طبيعتها الضعيفة، فهي قادرة على استعادة مكاسب كبيرة بفضل ممارستها الغواية، ودورها بوصفها أمًا، فالرجل بالنسبة للمرأة هدف، والنتيجة طفل، وقد كان هذا رأي زرادشت من قبل نيتشه، حتى أخذه الثاني عنه.
كان نيتشه يرى في مطالبة المرأة بالتحرر خطأ، متمثلاً في ما أسماه «نزق إرادة التخلص من القوة الممنوحة للمرأة بفضل ضعفها»، وأنها خلال محاولاتها كسب فضائل ذكورية، تباشر قدرتها على إثارة الرغبة، وتأثيرها النافع على الرجل؛ وأنه إذا كان أن نحب يعني أن نمنح ذواتنا، فإن الهبة لا ينبغي لها أن تكون امتهانًا للذات، وإلا فإنه السقوط؛ ففي حالة إلغاء الفارق بين الجنسين ستنتهي حرب شرسة ومثمرة في آن واحد بين الجنسين.
نيتشه: «عليّ ألا أبقى وحيدًا»
كانت تجربة نيتشه الإيروتيكية قصيرة للغاية، بدأت في أحد الأيام أثناء قضائه فصل الربيع في إيطاليا، حيث التقى إنسانة تقول عن نفسها إنها لا تعرف سوى نفسها وتتشبث بـ«الأنا» الصلبة لديها؛ فأصبحت بالنسبة له مثله الأعلى وملهمته الشيطانية. في عام 1882 تحرر نيتشه من التدريس في جامعة بازل بسويسرا لأسباب صحية وهو لم يبلغ الأربعين من عمره، وشرع الفيلسوف في عيش حياته كضال هارب، يتنقل بين فنادق متواضعة وبيوت عائلية بين نيس وروما وتورينو؛ بين الجبال والبحر والبحيرات في أعالي التلال؛ فكان يبحث دومًا عن الجو المناسب المسكن لآلام رأسه ومعدته، ومعه حلتان داكنتان وكتب وعقاقير مضادة لآلامه، واستغرق الأمر بضعة أشهر حتى استرد عافيته ونشر كتابًا وأشرف على الانتهاء من الآخر.

لو أندرياس سالومي
في هذا الوقت شعر نيتشه بأن عودته هذه خالدة، وأنه مستعد لمواجهة الوحش. وفي هذا الوقت تلقى دعوة للذهاب إلى جنوا، في روما، من زميله الناقد الأخلاقي بول ري، وصديقته القديمة مالويدا، وذلك من أجل مقابلة جوهرة روما، لو أندرياس سالومي، ووصفها الصديقين بأنها «كائن فوق العادة»، وأنها توصلت لاستخلاصات فلسفية تشبه ما توصل إليه نيتشه.
ولدت لو أندرياس سالومي في روسيا، عام 1861، لأب عسكري روسي من أصل فرنسي، وذلك بانتمائه إلى «الهوجونوت» الذين هربوا وتركوا فرنسا فترة الحروب الدينية مع الكاثوليك، حتى عاد إلى أوروبا ثانية مع سياسة روسيا التعسفية، خاصة وأنه ذو عقلية ليبرالية حرة محبة للفنون والأدب، وهو ما انتقل إلى ابنته لو عندما عاشت في أوروبا واطلعت على الحضارة والفنون وعاشت حياة ثقافية ثرية.
قبل أن تغدو شاعرة ومحللة نفسية معروفة، بدأت لو أولى كتاباتها وهي في سن المراهقة، وأولى عملياتها باعتبارها امرأة مغوية، عندما كانت في 18 من عمرها، وأفقدت القس جيلو الذي علمها الفلسفة واللاهوت عقله، حتى أنه شرع في ترك أسرته للبقاء معها والزواج بها، ولكنها رفضته بقسوة لرفضها الزواج وتفضيلها للاستقلال والاكتفاء الذاتي والسيطرة الكاملة.
كانت ترفض منح من تحبهم جسدها، لتظل عذراء لما بعد سن الثلاثين، رغم زواجها من المستشرق فريدريك كارل أندرياس وهي في سن السادسة والعشرين، والذي لم تمارس معه الجنس، حتى ذاقت النشوة الجنسية مع الشاعر الشاب -في ذلك الوقت- رينيه ماريا ريلكه لثلاث سنوات كاملة، بعد أن وقعت في حبه وهي تكبره بنحو 14 عامًا، وكانت لا تزال متزوجة حين قابلته عام 1897 عن طريق الروائي جاكوب واسرمان، ثم رفضت الزواج به رغم ذلك، وأثر رفضها في أشعاره بعد ذلك فأصبح الاقتراب والابتعاد أو الوصل والهجر يمثلان حالة جدلية في تجربته.
أطفئي عينيَّ، سأظل أراكِ/ صُمِّي أذنيَّ، سأظل أسمعكِ/ حتى بلا قدمين سأشقُّ دربي إليكِ/ وبلا فم سأذكر اسمكِ * جزء من قصيدة لريلكه ادعت لو في كتابها «حياتي» أنه كتبها لها، والصورة لهما في أمريكا.
مصدر الحب الكبير
ما مصدر العواطف المفاجئة، الجياشة، الحميمية، التي يبديها رجل لامرأة؟ إن الشبقية وحدها لا تشكل منها سوى السبب الأدنى، ولكن حين يجد الرجل الضعف، الحاجة إلى المساعدة، والزهو مجتمعة في امرأة واحدة فإن شيئًا يجري في كيانة وكأن روحه تكاد تطفح: يجد نفسه مذهولًا ومهانًا في ذات اللحظة، عندما ينبثق نبع الحب الكبير* نيتشه في كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته»
كان نيتشه متعطشًا لهذا النوع من البشر، ومستعدًا لأن يكون فريسة له، وكتب في ملاحظاته: «سأضع نفسي قريبًا لهذا النوع من الشرك، فأنا بحاجة إليه لما أعتزم فعله في السنوات العشر المقبلة. أما الزواج فهو فصل آخر تمامًا، وبإمكاني مواجهة زواج لمدة عامين فقط». بدا أن نيتشه يعرف ما يحتاج، امرأة ناعمة ومثقفة تساعده في معسكره من أجل القراءة وإعادة نسخ الكتب التي يعدل فيها، ولكن لم يكن يدرك بالضبط ما هو مقدم عليه.
في 26 أبريل (نيسان) 1882، وأسفل قبة كاتدرائية سان بيير في روما، قابل نيتشه لو للمرة الأولى، وذكرت لو في كتابها «حياتي» أنه قال لها: «من أي نجم سقط كل منا على الآخر؟» هذه العبارة الكافية لتذيب أية امرأة، إلا أن لو لم تكن من النوع الذي يسقط بسهولة، فهي المتعلقة بفكر كانط وسبينوزا منذ طفولتها، وتتمتع بذكاء حاد، ونظرة مغوية حقًا، وكانت قنبلة موقوتة؛ عذراء مميتة ومتصوفة لا أخلاقية أذابت الكثير من المفكرين قبل نيتشه دون أن يصله خبر أحدهم.
بعد بضعة ساعات من اللقاء الأول، ذاب نيتشه في تأثير الشابة العبقرية الماكرة، وعهد إلى صديقه بمهمة عرض طلبه عليها، «زواج قائم على حب أعلى وليس حب حيوانين يعمل كل منهما على فك أسرار الآخر» كما كان يُعرف «الزواج الجيد» من وجهة نظره، ففيه حب يشبه الصداقة، وثقة مطلقة متبادلة، واحترام مشترك، وهدف واحد يتفق عليه الاثنان ويسمح بتحققهما.
ولكن كان الخاسر هو نيتشه عندما رفضته لو، ولكن أول الأزمة عنده، فقد اعتاد في كل مرة باغته فيها الأمل والرغبة في الزواج أن يمارس تكتيكًا شديد التفرد في الغواية، وهو أن يطلب يد الفتيات للزواج بعد بضع ساعات فقط من الخروج معهن في المرة الأولى، ليكون طلبًا فريدًا من شخص فريد، ما كان يصيبهن بالمفاجأة والتشكك، وهذا بالضبط ما فعله مع كثيرات مثل ماتيلدا ترامبيدخ وناتالي هيرزن ولويزا أوت وغيرهن الكثير من النساء الكاملات في نظره من حيث العلم والثقافة والجمال. فهل ينبغي التأكيد على أن لو قد رفضت العرض هي الأخرى بسبب شكها في رغبته مثل السابقات؟
بدأت التراجيديا
يقترن كل حب كبير بالفكرة الفظة القاضية بقتل موضوع ذلك الحب ليحميه نهائيًا من التغيير الذي ينتهك الحرمات؛ لأن التغيير يرعب الحب أكثر مما يرعبه الإفناء* نيتشه في كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته»
في كتابها «حياتي» حكت لو عن رفضها الزواج من نيتشه وري، وعن خطتها التي كانت إهانة أخلاقية فظة، بأن توفر نوعًا من المعيشة الثلاثية الخاصة بالمثقفين، كندوة جادة ومرحة في نفس الوقت، ومقرها شقة ذات غرفتين، وسط الكتب والزهور، مقرها فيينا أو باريس، وكل منهم يذهب ويجيء.
قبل نيتشه وري الأمر، وهو ما تحقق في العام التالي، وبداخل كلا الرجلين أمل وثقة في قدرته على إغواء الشابة ليصبح عشيقها الوحيد الحقيقي، وكانت سعادة الثلاثة وهم سويًا تنبع من حب متبادل، مشبع بأنانية رائعة خالصة من كل الأطراف؛ طمع وحب، أو رغبة واحدة تحمل التسميتين وهي: حب جنسي يبدو واضحًا كرغبة في التملك، وأراد نيتشه وصمم على أن يكون تنينًا ملتفًا حول لو، وألا يدعها تفكر في الاستغناء عنه ليحقق رغبته.

صورة تجمع لو ونيتشه وريلكه
استطاعت لو أن تهزم الفيلسوف العظيم، بأن تمنحه آمالًا زائفة، وفي يوم عرضت عليه قضاء يوم كامل بمعزل عن ريلكه وأصدقائهما في مونت ساكرو، حيث كان يقضي الجميع إجازة الربيع، وفي كتابها «حياتي» لا تجيب لو عن سؤالها «هل لثمت شفاه نيتشه على المونت ساكرو؟» وتتركنا نخمن ما حدث، إلا أن نيتشه دون حول هذا اليوم بأنه: «الحلم الأروع في حياتي».
كان كل ما تفعله لو يدفع بنيتشه نحو مزيد من التمسك والتعلق بها والتصديق في احتمالية تحقق الحلم، حتى ليلة خر فيها جاثيًا على ركبتيه أمامها وهما في مدينة لوسرن بسويسرا، وكان رفضها الزواج للمرة الثانية هو السقوط الثاني، ليتركها ويرحل إلى جزيرة تريبشن، متألمًا وشارد الذهن، حتى قرر أن يصدم الوسط الثقافي الذي جمع نابغة العصر وغاويته بصورة لو الحقيقية وهي تمسك السوط وتعتلي عربة يجرها مفكران مسخران لها، وسجل هذا المشهد في كتابه «هكذا تكلم زرادشت».
الشفقة أمل زائف يقتل ببطء
ليس لكل أستاذ إلا مريد واحد، وإنه لن يظل وفيًا له؛ لأنه مرصود لأن يصير أستاذًا هو بدوره. *نيتشه- إنسان مفرط في إنسانيته
لم يكن مفهومًا له محاولات لو بعد هذا الرفض لترضيته، جاءته بعينين دامعتين تطلب منه قضاء 15 يومًا بمفردهما في بيت كاهن في حضن غابة توتنبرج الألمانية، وبالفعل قضوا ساعات من المحادثات التي لا تنتهي، والتي سجلتها في يومياتها لريلكه -غريم نيتشه- وقالت له فيها: « إن من يسمع محادثاتنا ربما يعتقد بأنها حوارات بين شيطانين». وسرعان ما انتهت هذه الأيام؛ وأصبحت فرصة الحديث مع لو بعيدة، فكتب نيتشه في خطابه الأخير لها في نهاية 1882: «أطلب شيئًا واحدًا عوضًا عن التخلي عن كل الحميمية التي كانت تجمعنا؛ أن نشعر أننا متحدان في كل ما لم تبلغه الأرواح»، لتقابل لو هذا الطلب بالرفض، وكتب نيتشه لمالفيدا صديقته القديمة: «يبدو أني لم أعن شيئًا بالنسبة لها أبدًا، مجرد برهان على الذوق الجيد».
أخذ نيتشه ينعزل أكثر فأكثر، وكان يتكلم لأشباح في خياله أكثر ما يتكلم مع أصدقائه، يعيش في غرفته الصغيرة، يحمل جرحه وحده. وفي خطاب إلى مالفيدا في منتصف عام 1888، قبل تدهور حالته العقلية، كتب نيتشه: «يتمثل الجرح في عدم سماع إجابة، ولا أقل زفرة من إجابة، وأن تحمل منفردًا، في وحدة مرعبة، الحمل الذي أردنا مشاركته، والذي طالما تمنينا أن نلقيه على آخرين».
رغمًا عن كل عيوبها يعترف نيتشه أنه إن كان لقاء لو في حياته هو الأكثر خطورة وإثارة للزوابع بين كل فصول حياته، فهو أيضًا الأكثر قيمة والأكثر إرباحًا له. فربما فقد نيتشه طبقة جلده الواقعية في هذا الصراع الهمجي، ولكن تكونت له طبقة أخرى أكثر رهافة وحساسية، عاش نيتشه وريلكه سويًا خمس سنوات بعد أن كان يدفعه دفعًا للخناق والمبارزة باعتباره غريمه في حب لو، وفي هذا الوقت أيضًا كتب نيتشه «هكذا تحدث زرادشت».
حتى فرويد لم يسلم من «مكرها»
لو هي امرأة اعتادت أن تغير عشاقها كما تغير بين أنواع الكتابة التي تنوي ممارستها، وكما تغير مكان سكنها الذي تعيش فيه. وبالفعل قابلت لو الطرف الأخير من عباقرة عصرها، سيجموند فرويد، وعرفت نفسها كثيرًا على أنها أحد تلامذته، تذهب وراءه في كل محاضرة، حتى التقته بنفسها وقد تجاوزت الخمسين من عمرها، وتجاوز فرويد الستين، وحقق إنجازاته في التحليل النفسي، ليبدأ الاثنان «علاقة ناضجة قائمة على المعرفة وخالية من المصالح الجنسية»، كما قالت لو في كتابها.
ربما لم يقع فرويد -كلية- في حب لو، ولكن كان إعجابه الشديد بها هو الذي شجع تلميذه الوفي فيكتور تاوسك على عشقها، وبالفعل نشأت بينهما علاقة غرامية قصيرة في فيينا حيث انتحر تاوسك، وكتب فرويد نعيًا رسميًا فيه: «لم يكن بمقدور أحد أن يفلت من انطباع مفادة أن هذا الرجل ذو أهمية، وأنه قد خلف كثيرًا في تاريخ التحليل النفسي وصراعاته الباكرة»، ولكن في الوقت نفسه بعث فرويد برسالة إلى لو وكتب فيها: «أعترف بأنني لم أفتقده (يقصد تلميذه) حقًا، منذ فترة طويلة وأنا أعتبر أن لا نفع منه، بل أنه بمثابة تهديد للمستقبل».