مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الفرنسية في أبريل (نيسان) 2022، يتبع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون معادلة سياسية مفادها مراقبة أسباب دعم الفرنسيين للمرشحين الجدد في استطلاعات الرأي المختلفة، ثم يدَّعي التمتع بكافة مزاياهم، ليجعل نفسه المرشح الأمثل لكل التوجهات السياسية في الداخل، مع إظهار نفسه سياسيًّا صاحب الكاريزما والتأثير في الخارج.

ففي أول لقاء له مع المستشار الألماني الجديد، أولاف شولتز، في العاشر من ديسمير (كانون الأول) 2021 بباريس، وهي أول زيارة خارجية لشولتز منذ توليه منصبه، حاول إيمانويل ماكرون إظهار وجود «تقارب وجهات النظر» بينه وبين قائد ألمانيا، فخاطبه بلهجة حميمية وغير رسمية، وسعى لتأكيد ذلك أمام المراسلين، مؤكدًا وحدة أهدافهما، فيما أظهر شولتز في المقابل تحفظًا على ذلك «التقارب المفترض»، إما برفض الإجابة عن الأسئلة المباشرة، أو توضيح الفارق بين رغبة ماكرون في أوروبا «المسيطرة» إستراتيجيًّا، وبين رغبة ألمانيا في أوروبا «عاملة».

وأعاد اللقاء إلى الأذهان ذكرى اللقاء الأول بين دونالد ترامب وإيمانويل ماكرون، حينما أظهرا اتفاقًا شكليًّا حول الأهداف، لكن اللقاء تحول لساحة لإثبات الهيمنة في ختامه؛ واليوم مع انسحاب ميركل صاحبة النفوذ الهائل على الاتحاد الأوروبي، وانفصال بريطانيا عن الاتحاد، رأى ماكرون في هذا التحول فرصة لتأكيد أن فرنسا مركز النفوذ الجديد في أوروبا، عبر التدخل في القضايا السياسية والمطالبة بلعب دور أكبر في النزاعات العالمية، وهو دور تخلت عنه فرنسا منذ الرئيس نيكولا ساركوزي، لكن أليس من الصعب أن تكون قائدًا مؤثرًا على المسرح العالمي، وأنت تكافح من أجل البقاء على صلة بالسياسة في وطنك؟

مال سائب.. يد ممدودة إلى كعكة النفط

عاد إيمانويل ماكرون من الخليج بعقد لبيع طائرات مقاتلة فرنسية للإماراتيين، تبلغ قيمته 18 مليار يورو، ويمثل أكبر عقد تصدير أسلحة فرنسي على الإطلاق، من شأنه أن يعزز صناعة السلاح الفرنسية، بعد انهيار عقد بقيمة 58 مليار يورو لأستراليا لشراء 12 غواصة فرنسية، ومكسبًا سياسيًّا توقعه ماكرون، وناله، من القيادات السياسية الخليجية ذات الوزن الثقيل، ليقدم فرنسا قوةً أوروبية كبرى في الخليج والشرق الأوسط، وتحقيقًا لرغبته في أن يكون في دائرة الضوء، لقيادة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي. 

كان لوجوده لساعاتٍ قليلةٍ في كلٍّ من السعودية والإمارات وقطر نبرة اقتصادية واضحة، فبكثير من عقود الطائرات والمروحيات، ملأ إيمانويل ماكرون جداول طلبيات خزائن شركات الطيران والدفاع التابعة له، وشغل 400 شركة فرنسية كبيرة ومتوسطة وصغيرة في سلسلة التوريد، وضَمِن آلاف الوظائف الجديدة في قطاعي الإنتاج العسكري والنقل، مما يعني أن صادرات الأسلحة الفرنسية في عام 2021 ستصل إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق، لتحقيق مكسب سياسي قبل الجولة الأولى من الانتخابات، مع تجاهل انتقادات جماعات حقوق الإنسان بشأن تورط الإمارات في الحرب المستمرة منذ سنوات في اليمن.

Embed from Getty Images

إيمانويل ماكرون ومحمد بن سلمان

ووضح أحد مستشاري إيمانويل ماكرون لصحيفة «فرانس 24» أن فرنسا تقدم نفسها بوصفها «قوة توازن من خلال تعزيز الحوار مع مختلف القادة وبينها في المنطقة، وشريكًا أساسيًّا وموثوقًا»، وهو الرأي الذي اتفقت معه صحيفة «بلومبيرج» إذ أكدت رغبة ماكرون في لعب دور القائد العالمي، دون النظر إلى ملف حقوق الإنسان في السعودية.

وقال مسؤول كبير في الرئاسة الفرنسية لصحيفة «الإندبندنت» شريطة عدم الكشف عن هويته، إن إيمانويل ماكرون «سيواصل دفع ودعم الجهود التي تسهم في استقرار المنطقة، من البحر الأبيض المتوسط ​​إلى الخليج، وسيحيي المحادثات بشأن الاتفاق النووي الإيراني مع القوى العالمية».

من ناحيةٍ أخرى جعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون محنة لبنان مسألة شخصية بالنسبة له في تلك الرحلة، كي يتجنب الاعتراف بفشل مبادرته حين تدخل عام 2017 لحظة استقالة رئيس الوزراء آنذاك سعد الحريري من منصبه أثناء زيارته للسعودية، وزار الرئيس الفرنسي بيروت مرتين بعد الانفجار الهائل الذي كاد أن يدمر ميناء المدينة، واستضاف مؤتمرًا دوليًّا لمساعدة لبنان، وجمع 370 مليون دولار.

وهكذا اعتبرت صحيفة «فاينينشال تايمز» زيارة إيمانويل ماكرون الأخيرة للخليج «مقايضة» بين أول زيارة لزعيم غربي للسعودية وإنهاء عزلتها الدولية منذ مقتل خاشقجي في 2018، مقابل إنهاء الخليج عقوباته على بيروت، بعدما استدعت السعودية سفيرها وطردت المبعوث اللبناني في أكتوبر (تشرين الأول) 2021 لانتقاد وزير الإعلام اللبناني، جورج قرداحي، حرب التحالف الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين في اليمن، كما حظرت السعودية الواردات عن لبنان، الذي يعاني أسوأ أزمة اقتصادية منذ عقود، وحذت دول خليجية أخرى حذوها في استدعاء مبعوثيها من بيروت.

وتأكدت أنباء «المقايضة» بإعلان قرداحي استقالته قائلًا إن فرنسا طلبت منه التنحي قبل زيارة ماكرون، وإعلان فرنسا والسعودية اتفاقهما على تقديم مساعدات للبنان، بشرط «حصر الأسلحة بمؤسسات الدولة الشرعية» في إشارة إلى سلاح حزب الله.

وفي غضون هذا قال مسؤول فرنسي لصحيفة «فاينينشال تايمز» إن اتفاق السعودية على إعادة التواصل مع لبنان كان مقابل زيارة رفيعة المستوى لزعيم غربي إلى السعودية، وقال مسؤول إقليمي إن فرنسا صعدت الضغوط على السعودية خلال الأسابيع القليلة الماضية، وكان من المهم بالنسبة لماكرون أن يحرز تقدمًا في هذا الملف مع الانتخابات الفرنسية المقبلة.

ومن ناحية أخرى أشارت صحيفة «لوموند» إلى خلل في النقاط الرئيسة التي ناقشها ماكرون وابن سلمان، ففي حين وصف ماكرون الحوار بـ«الفعَّال والمباشر والصريح حول قضايا حقوق الإنسان»، لم يُشر لحرب اليمن، بل أكد «التزام فرنسا التاريخي بأمن المملكة»، رغم أنه في اليوم السابق للرحلة جرى تقديم شكوى في باريس ضد القادة السعوديين والإماراتيين بتهمة ارتكاب «جرائم حرب» و«تمويل الإرهاب».

ماكرون ضد ماكرون.. ضد الرجل الأبيض واستعادة مجد الإمبراطورية

تولي فرنسا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي منذ بداية يناير (كانون الثاني) 2022، دعَّم من موقف ماكرون في سعيه للتحول إلى قائد دولي؛ إذ ستشهد الدورة تحديد ماكرون للأجندة الرسمية للاتحاد الأوروبي، بخطة واضحة أعلن عنها بداية شهر ديسمبر (كانون الأول) 2021، وهي بناء جبهة أوروبية مستقلة عن الجبهتين: الصينية والأمريكية. 

ولم يفوت ماكرون الفرصة وهو يضع جدول أعمال الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي بأن ينتقد حكومة بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، ويعلن عزمه إجراء محادثات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعدما تصاعدت التوترات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا على خلفية حشد موسكو لقواتها بالقرب من حدودها مع أوكرانيا.

وقال ماكرون إنه سيستغل رئاسة فرنسا التي ستستمر ستة أشهر لعقد قمة استثنائية لزعماء الدول الأعضاء في الكتلة البالغ عددها 27 دولة بباريس في مارس (آذار) 2022، أي قبل شهر واحد فقط من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، ما دفع المحللين بصحيفة «واشنطن بوست» للاعتقاد بأن خطته لرئاسة الاتحاد الأوروبي جزءٌ من حملته الانتخابية المستترة حتى اليوم للفوز بولاية رئاسية ثانية. 

ولم يفت ماكرون استغلال العداء لنزعة الاستعلاء لدى الرجل الأبيض في خطابه فقال: «يتم تطعيمك بأفضل اللقاحات في العالم لأنك أوروبي»، وأضاف أن أوروبا التي تحدد الكلمات التي يجب قولها أو عدم قولها ليست أوروبا التي يدعمها، في إشارة لمحاولة مسؤولي الاتحاد الأوروبي اختيار كلمات محايدة لاحترام التنوع الجنسي والعرقي والثقافي.

إخفاقات «المراجعة النهائية».. ما كل هذا العبث يا ماكرون؟

حكم ماكرون فرنسا عام 2017 بينما كان شابًا، يبلغ عمره 39 عامًا، وهزم المنافسة الشعبوية اليمينية المتطرفة، ماري لوبان، بوعوده بإصلاح اقتصاد السوق الحرة، وتخفيضات ضريبية، وسياسات اجتماعية ليبرالية، وتقوية الاتحاد الأوروبي، وسمى نفسه «قائد الجميع» وقال ذات مرة إنه يريد أن يكون «حاكمًا لكوكب المشتري» وقائدًا دون منازع، وأنه منفصل عن التفاهات، مثل إله السماء الروماني، غير أن التحديات العادية للحكم، وسلسلة من الزلات في العلاقات العامة، جرَّت السياسي المبتدئ بسرعة إلى الأرض.

Embed from Getty Images

ماري لوبان السياسية اليمينية الفرنسية

لا يكشف ماكرون عما يريد، حتى بعد أربع سنوات صاخبة مرت على بلده والعالم، ووصف تحليل صحيفة «نيويورك تايمز» ماكرون باللغز، حتى لشعبه، فبعد أن كان نصير اليساريين في عام 2017، صار اليوم يتمتع بمزيد من دعم اليمينيين، وإذا كان قد آمن في بداية ولايته بالاقتصاد الحر، فهو اليوم يؤمن بالهيمنة والقوة العسكرية في ظل مواجهة فرنسا أكبر أزمة اقتصادية واجتماعية وصحية منذ الحرب العالمية الثانية؛ فوفق تحليل صحيفة «نيويورك تايمز» انكمش الاقتصاد الفرنسي بنسبة 8.3% عن العام الماضي، وسُرِّح الملايين من وظائفهم، وتوفي أكثر من 87 ألفًا من جراء فيروس كورونا.

ربما يراهن ماكرون على قدرته على خوض الانتخابات الرئاسية القادمة وهو مستمر في تجاهل الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا، ورغم خشيته محاسبته على وعوده قبل أربع سنوات؛ فإنه استعاد جرأته بعد رحلة استغرقت يومين إلى ممالك الخليج، عاد بعدها إلى باريس ومعه عدة دفاتر شيكات في جيوب سترته بمليارات اليوروات.

دولي

منذ سنة واحدة
«خصيم المسلمين».. إريك زمور «نبي الكراهية» الذي قد يصبح رئيس فرنسا القادم

وكان من أهم علامات راحة ماكرون وشعوره بالإنجاز الخليجي ظهوره الإعلامي، والذي يُعد نادرًا للغاية، في مقابلة تلفزيونية مطولة، أُذيعت منتصف ديسمبر 2021، بعنوان «إلى أين تتجه فرنسا؟»، وعدها عديد من زعماء أحزاب المعارضة «تمرينًا تلفزيونيًّا فاشلًا في شكله ومضمونه».

ولعب ماكرون في مقابلته على وتر إنجازاته الأخيرة، وطموحاته الأوروبية، ورغبته في استعادة السيادة والسيطرة على الحدود، وتهرب إيمانويل ماكرون خلال اللقاء من الإجابة عن نيته الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، لكن بعض الصحف فسرت استعداده المفاجئ للانفتاح على وسائل الإعلام بعد سنوات من إبعاد الصحافيين عنه، بسبب المكاسب الأخيرة التي حققها بعض خصومه في استطلاعات الرأي الفرنسي عن المرشح الرئاسي الأفضل. 

وحاول إيمانويل ماكرون خلال اللقاء تغيير صورته المتعجرفة وإنكار كونه «رئيسًا للأغنياء»، مثلما فعل الرئيس الأسبق جاك شيراك عام 1995 قبيل إعادة انتخابه، لرسم صورة كاريكاتورية جديدة للرئيس العطوف، وإنهاء مزحة «ملك الآلهة» السخيفة، بل الاعتذار عما قاله عام 2017 بأن «هناك من سينجحون وآخرون سيظلون نكرة»، واعترف بأن كلماته كانت مؤذية، وأنه تعلم كيف يحب الفرنسيين بشكل أفضل.

وفي هذا الإطار نقلت صحيفة «لوموند» ردود أفعال سلبية عن أداء إيمانويل ماكرون، وتحدثه عن نفسه ونسيان 67 مليون فرنسي من خطابه، فوصفه جان لوك ميلنشون، أحد المرشحين الرئاسيين بـ«طاحونة تتحدث عن نفسها، لم ينطق كلمة عن الكارثة المستمرة في الخارج، لم يقل كلمة عن الأزمات الاجتماعية والبيئية، ولا الحرب الدائرة في مالي».

ويحاول ماكرون استغلال «بطاقة التعاطف» مؤخرًا بعدما اكتشف كم يكرهه الفرنسيون؛ فوفقًا لمسح IFOP، يقبل 33% فقط من الفرنسيين إيمانويل ماكرون، وهناك الكثير ممن يكرهونه، ما أنبت هامشًا جديدًا من الأصوات المستبعدة، بخلاف اليمين واليسار المتطرف، هامشًا أطلقت عليه صحيفة «لوموند» الفرنسية «هامش الكراهية».

رجل الكل رجل لا أحد

تسببت السلطة المطلقة التي حازها إيمانويل ماكرون خلال السنوات الأربع الماضية في كثير من الغضب والانقسام حول سياساته المتقلبة فور فوزه بالانتخابات الرئاسية عام 2017، في ظل شعور أعضاء البرلمان والأحزاب السياسية بالتهميش.

ففي تتابعٍ سريعٍ استقال وزير البيئة المشهور والناشط البيئي، نيكولا هولت، بسبب رفض ماكرون الحد من الاعتماد على الأسلحة النووية، ثم استقالة وزير الرياضة، وتنحى وزير الداخلية جيرارد كولومب، الحليف المقرب لماكرون، بعدما تحدث عن افتقار إيمانويل ماكرون للتواضع وأعرب عن أسفه للعديد من الأخطاء، لا سيما التعامل مع قضية تعدي حارس ماكرون الشخصي، ألكسندر بينيلا، على المتظاهرين في عيد العمال، ثم ترقيته، في محاولة للتستر والتخفيف من حدة جريمة الحارس، ثم رفض ماكرون مناقشة قراراته.

Embed from Getty Images

إيرك زمور المرشح للانتخابات الرئاسة الفرنسية القادمة

وينعكس تأرجح سياسات إيمانويل ماكرون بين الوسطية واليمينية على نتائج استطلاعات الرأي؛ فحتى لو وصلت نسب تأييده إلى 40%، وهي نسبة عالية لرئيس فرنسي، ولها أن تقلق خصومه، فإن هناك ما يقلق له ماكرون وهو ضبابية أيديولوجيته.

ففي تصريح لنائب المدير العام لمعهد «IFOP» كان واحد من كل فردين من اليمين يدعمون ماكرون، وواحد من كل ثلاثة من اليسار، ما دفع المحللين السياسيين لابتكار مصطلح «الماكرونية»، وهي «بونابرتية مدنية وديمقراطية، يعود فيها كل شيء للقائد، وسط مساعٍ للاضطراب والإصلاح، وفي فرنسا، بوصفه مجتمعًا محافظًا وثوريًّا في آن واحد، قد يكفي هذا الأسلوب لمنح الرجل الغامض خمس سنوات أخرى بين عاطفتين سلبيتين، هما الكراهية والخوف».

وهناك سبب آخر يكفي لإثارة قلق إيمانويل ماركون هو حقيقة أن حزبه لم يتمكن من النجاح في انتخابات رئاسة البلدية لعام 2020، وهو مؤشر واضح على هذا القصور، ما أثار شهية مرشحين محتملين للرئاسة من المعسكر اليميني المتطرف.

ويضمن إيمانويل ماكرون لنفسه جائزة أكثر الجوالة تحركًا قبل نهاية عام 2021، مع أقل من خمسة أشهر قبل الانتخابات الرئاسية، بأجندة دبلوماسية مثقلة بالأعباء، تعيد أمجاد فرنسا «البونبارتية»، في مغازلة واضحة لخصومه اليمينيين وعلى رأسهم إريك زمور وفاليري بيكريس، عبر تبني رؤيتهم خلال مقابلته التلفزيونية، وقلب سيناريو زمور المتشائم عن فرنسا الفريسة لتصير مفترسة مهيمنة على العالم على يد ماكرون، ورسم ذاكرة وطنية جديدة عن ماضيها الاستعماري.

وبينما يحاول إيمانويل ماكرون التوفيق بين ما لا يمكن التوفيق بينه (فرنسا الديمقراطية مقابل فرنسا المسيطرة)، بدأ بجولة لدول الخليج (الإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية) إلى محادثات متسلسلة حول أزمة المهاجرين في القنال وعلى الحدود مع بيلاروسيا في الأيام الأخيرة، ثم زيارة رسمية لكرواتيا وإيطاليا في الأسبوع السابق، ومشاركته في تنظيم منتدى باريس للسلام.

وقد حللت صحيفة «لوموند» ذلك برغبة إيمانويل ماكرون في إظهار التباين الكبير بينه وبين خصومه المحتملين في سباق الرئاسة، فلا أحد غيره يمكنه ادعاء قدرته على تعزيز قوة أوروبا ضد القوى الكبرى مع بداية العام القادم. 

ويكاد يكون من المستحيل الحفاظ على نظافة يد إيمانويل ماكرون من ميراث الاستعمار الفرنسي بعد العداوة التي تسبب فيها مع الجزائريين في فرنسا، فمع انجرافه خلف أهواء اليمين، واجه ماكرون ما لم يحدث قط منذ الستينيات، وهو إشعاله الصراع الجزائري الفرنسي وفتح مناقشات حول الجزائر الفرنسية، واختلطت ملفات حساسة كالهجرة والإسلاموية بالحنين للماضي الاستعماري وفرنسة الجزائر.

Embed from Getty Images

فقد تحول رأي ماكرون في الحرب الجزائرية الفرنسية عما كان عليه فور انتخابه، فبعدما كان «الاستعمار جريمة ضد الإنسانية» أصبح مؤخرًا يقول لأحفاد المحاربين والمهاجرين، الذين عاشوا ويلات ذلك الصراع، في آخر سبتمبر (أيلول) 2021، إن «الأمة الجزائرية بعد عام 1962 بُنيت على ذاكرة مشوشة هدفها كراهية فرنسا»، واتهم حكومات الجزائر بتشويه سمعة فرنسا. 

وتجدد الإنكار والدبلوماسية الرخوة عندما انحنى ماكرون أمام تذكار المتظاهرين الجزائريين الذين أُلقوا في نهر السين في أكتوبر (تشرين الأول) 1961، في إحدى المآسي الكبرى للحرب على الجزائر، مع تجنبه تحميل فرنسا أي ذنب عن تلك المجزرة، كما تجنب ذكر مسؤولية الشرطة في ارتكاب ما أسماه بالجريمة، لكن أحالها كاملة لقائد الشرطة آنذاك، موريس بابون، وحده» والذي جرت ترقيته لموقع المسؤول ليكون كبش فداء عن المأساة كاملة، وفق تحليل صحيفة «لوموند».

كانت خاتمة رحلة التودد لليمين الفرنسي باعتذار ماكرون، نيابة عن فرنسا، للـ«حراكيين» وهم الجزائريون المسلمون الذين قاتلوا إلى جانب الجيش الفرنسي خلال حرب الجزائر، ويشكلون اليوم وأحفادهم مجتمعًا منغلقًا في فرنسا، بعد أن رفض الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عودتهم للجزائر في عام 2000، لتواطئهم ضد بلدهم، ومن ثم ربح ماكرون رهانه على دعم اليمين الفرنسي الذي أشاد باعتذاره للحراكيين.

ولأن حيل إيمانويل ماكرون لاقتناص الفرصة الأخيرة قبل أبريل (نيسان) 2022 لا تنتهي، فقد أصبح من المستحيل التنبؤ باستقرار الوضع خلال الأشهر القادمة، أو كما جاء في ختام احتفاء مجلة «تايم» بتولي ماكرون الرئاسة عام 2017 «قد يستغرق الأمر سنوات قبل أن يعرف العالم القدرات الكاملة لإيمانويل ماكرون، وقد تبرز فرنسا قوةً عالمية أكثر أهمية بكثير مما كانت عليه منذ عقود، ويحقق طموحاته في تغيير العالم، أما إذا ثبت أن أفكاره خطأ وفشل أسلوبه في تحقيق الانتعاش الاقتصادي لفرنسا الذي وعد به، فإن ميزان القوة سيهبط لصالح الشعبوية الغاضبة التي حركت فرنسا في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، والتي أدت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي».

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد