«قائد أوروبا المستقبلي»، بهذه العبارة عنوَنت مجلّة «التايم» الأمريكية صفحتها الأولى التي توسّطتها صورة الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون بملامح جادّة ونظرات بعيدة توحي بطموح ليس له حدود بالنسبة للشّاب الفرنسي.
«لا أريد أن أكون قائد أوروبا الأوحد، بل أريد أن أكون أحد قادة أوروبا الذين يمثّلون الجيل الجديد»، هكذا أجاب الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون عن سؤال حول قيادة أوروبا، لكن ماكرون لا يمانع في لقاء الجميع ومصافحة الجميع دون شروط مسبقة، كما أنه لا يتمنّع عن الدخول في مستنقع الشرق الأوسط بمشاكله وحروبه، ومحاولة دفع المصالح الفرنسيّة في هذه البلدان إلى أقصى مدى، وإن عنى ذلك التعامل مع أنظمة متهمة بالقمع أو متورّطة في انتهاكات حقوق الإنسان.

ماكرون على غلاف مجلّة التايم الأمريكية. المصدر: التايم.
اقرأ أيضًا: قد يفوز ماكرون بالرئاسة.. فهل هذا يعني هزيمة اليمين المتطرف؟
وفي ظلّ تراجع دور قادة الغرب التقليديين؛ وجد ماكرون الساحة فارغة ليتمدّد بسياساته ويبسط نفوذه متى استطاع، فالمستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل المتراجعة في الانتخابات والقلقة لدخول اليمين المتطرّف (النازيين الجدد) إلى مبنى «البوندستاغ» (البرلمان الألماني) لأوّل مرة منذ الحرب العالمية الثانية؛ ممّا يشكّل صدمة لألمانيا كلّها، وبالتالي يضطرّها لترتيب بيتها الداخليّ أوّلًا.
وبريطانيا على الجانب الآخر غارقة في إجراءات خروجها من الاتحاد الأوروبي وانعكاسات هذا الخروج في شتى المجالات، والرئيس الأمريكي ترامب تعاني سياساته من التخبّط والتناقض بين ما يقرّره وبين ما تقرّره أجهزة الدولة ومؤسساتها التشريعية والأمنيّة.
ترك تراجع أدوار هذه القوى المحوريّة فراغًا بحجم العالم ليملأه الرئيس الفرنسيّ الشاب بنشاطه منقطع الحدود، الشاب النجيب إيمانويل يريد التوسّع في كلّ هذا الفراغ، وبرصيد سياسيّ عالٍ بوصفه رئيسًا جديدًا؛ فإنه يريد استعادة روح المبادرة التي غابت عن فرنسا وبريقها في عهد الرئيس السابق «فرانسوا هولاند».
سياسة ماكرون الخارجيّة: البراجماتيّة بدون تجميل
الشاب الفرنسي الذي يصرف 10 آلاف يورو شهريًّا على مواد التجميل من أجل الحفاظ على طلّته الشبابيّة البهيّة، لا يبذل الجهد ذاته في تجميل سياساته الخارجية أو تعاملاته مع أنظمة متّهمة بممارسة القمع، ففي لقائه مع الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي رفض ماكرون «تقديم دروس في حقوق الإنسان» لنظيره المصريّ الذي تتّهم مؤسّسات حقوقيّة عالمية نظامه بممارسة انتهاكات قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانيّة.
وأجاب ماكرون على سؤال أحد الصحافيين بأن هذه ليست مهمّته، وأن الرئيس السّيسي لديه تحدّ وحيد: مكافحة الإرهاب والتطرّف الديني.
سياسة ماكرون الخارجيّة «البراجماتيّة» اليمينيّة في تعامله مع الأنظمة المتّهمة بانتهاك حقوق الإنسان تبدو أكثر صراحة من سياسة سلفه فرانسوا هولاند، فبالرغم من عودة هولاند من مصر محمّلًا بغنائم كبيرة تمثّلت في صفقات مليارية تضمّنت طائرات «رافال» وفرقاطة حربية وصواريخ، وقد بلغت قيمة الصفقة حينها 5.2 مليار يورو، بالإضافة إلى صفقة طائرات رئاسيّة قدّرت بحوالي 300 مليون يورو، وبالرغم من حجم الصفقات الضخّم بالمقارنة مع الأوضاع الاقتصادية العسيرة التي تعيشها مصر، فإن هذا لم يمنعه من «إعطاء دروس» ولو شكليّة، عن أهميّة حقوق الإنسان، حيث انتقد هولاند في مؤتمر صحافي نشّطه مع الرئيس السيسي – ولو على استحياء – أوضاع حقوق الإنسان التي تشهدها مصر.
Embed from Getty Images
الرئيسان ماكرون والسيسي في مؤتمر صحافي بباري.
ماكرون يعي تمامًا أن فرنسا هي ثاني مصدر للسلاح المصري بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ومع وضع الاقتصاد الفرنسي الراكد؛ فإن زبُونًا بحجم مصر ضروريّ لتشغيل المصانع وملء خزانة الميزانيّة الفرنسيّة، تمامًا كما هو ضروريّ للنظام المصري الحصول على دعم بلد دائم العضويّة في مجلس الأمن بحجم فرنسا.
لا يوجد جنديّ فرنسيّ واحد فوق الأراضي السوريّة، لكن هذا لم يمنع الرئيس الفرنسي أن يطرح بكل ثقة مبادرة جديدة لحلّ الأزمة التي امتدّت سبع سنوات من خلال إنشاء «مجموعة عمل» تتكوّن من الدول دائمة العضويّة في مجلس الأمن، بالإضافة إلى الدول الفاعلة في الملفّ السوريّ.
الجديد في هذا هو أن ماكرون قد أعلن أن رحيل الأسد «ليس شرطًا» بالنسبة لفرنسا، عكس موقف سلفه هولاند الذي وضع شرط رحيل الأسد أساسيًّا لحل الأزمة السوريّة. ماكرون لا يتورّع في وصف الأسد بـ«المجرم الذي يستحقّ المحاكمة»، لكنه في الوقت ذاته يعي أين يكمن ميزان القوى حاليًّا، خصوصًا بعد سيطرة القوّات النظامية السورية بالتعاون مع القوّات الروسيّة والإيرانية على أغلب مساحة سوريّا، إذًا يجرّم ماكرون الأسد في موضع، ويحيّيه على تحرير مدينة الرّقة بالتعاون مع الطيران «التحالف الدوليّ» في موضع آخر، ويقول إنّه يريد انتقالًا سياسيًّا متفاوضًا عليه في سوريا.
إيران سعيدة بالتوجه الفرنسي الجديد بعيد «التشدّد» في المواقف الذي عُرفت به سابقًا بقيادة هولاند، ويبدو أن تصريح ماكرون بأنّ رحيل الأسد ليس شرطًا مبدئيًّا للحلّ وقع كالموسيقى على آذان الإيرانيين، فقد وصف مسؤولون إيرانيون سابقون نظرة ماكرون للملفّ السوري بـ«الأكثر واقعيّة» من سلفه هولاند الذي اعتبر الأسد «مسؤولًا عن مجازر كيميائيّة»، وأن رحيله ضروريّ لحلّ الأزمة.
وقد صرّح ماكرون في ندوة صحافيّة حول هذا الموضوع: «لقد تغيّرت النظرة الفرنسية تجاه القضيّة السورية حتى تكون متماشية مع شركائنا، وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية، هدفنا الأساسي هو: القضاء على الإرهاب، القضاء على جميع المنظمات الإرهابية مهما كانت مشاربهم. نريد حلّ الأزمة السوريّة عبر مسار سياسيّ، وفي هذا السياق لا أرى أن رحيل الأسد شرط مبدئي لحل الأزمة».
ويظهر في هذا الردّ تركيز ماكرون على الجانب الأمني من خلال مكافحة الإرهاب، دون إشارة واضحة للضحايا المدنيين السوريين الذين يسقطون يوميًّا تحت نيران الحرب الأهليّة السورية وضربات التحالف الدوليّ.
ماكرون والخليج: المال مقابل الصمت
في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي حطّت الطائرة الرئاسية الفرنسية في مطار أبو ظبي الدوليّ، ونزل منها الرئيس الفرنسي وزوجته ليفتتحا رفقة مسؤولي أبوظبي «متحف اللوفر-أبوظبي» النسخة الإماراتية للمتحف الأبرز في فرنسا الذي تقف فيه أشهر لوحة في العالم «الموناليزا».
استغلّ إيمانويل ماكرون افتتاح هذا المبنى الفنيّ الراقي ليتحدّث عن موضوعه المفضّل: ضرورة مكافحة الإرهاب والتطرّف الديني، في حضور حاكم إمارة دبيّ محمد بن راشد آل مكتوم، وقد اعتبر ماكرون افتتاح هذا المتحف نقطة تحوّل حاسمة بالنسبة لدور الإمارات العربية المتحدة باعتبارها ملتقى للحضارات الإنسانيّة.

صورة: متحف اللوفر-أبوظبي. مصدر الصورة: designboom.com
وقد اعترضت منظّمات حقوقية فرنسيّة وعالميّة على ظروف العمل السيّئة التي يُنجز فيها متحف اللوفر-أبو ظبي واعتبروها غير إنسانيّة، كما أن ناشطين فرنسيّين انتقدوا تعامل الحكومة الفرنسيّة مع متحف تاريخيّ له مكانته في الوجدان الفرنسيّ كـ«علامة تجاريّة» يتمّ بيعها ببساطة لمن يدفع أكثر، لكن ماكرون تجاهل كل هذه الانتقادات، وأصرّ على افتتاح المتحف.
افتتاح متحف اللوفر أبو ظبي ليس المغنم الوحيد الذي عاد به ماكرون من الإمارات العربية المتحدة، فقد افتتح بفضل هذه الزيارة استثمارات ضخمة في مجال التكنولوجيا الفرنسيّة قدّرت بحوالي مليار يورو، من شأنها أن تنعش هذا القطاع الهام في الاقتصاد الفرنسي الذي يحتاج بشدّة لـ«ضخّات أكسجين» كهذه في ظلّ الجمود الذي يعيشه. زيارة أخرى، ولا دروس عن حقوق الإنسان، بل مجرّد اختلاف بارد حول موضوع اليمن والتدخل العسكري «عاصفة الحزم» الذي تشارك فيه الإمارات العربية المتحدة.
لكن لا يمكن إغفال التوقيت الحسّاس لهذه الزيارة بالذات، فهي تأتي في ظلّ قطيعة خليجية بين السعودية والبحرين والإمارات من جهة ودولة قطر من جهة أخرى، وبعد أقلّ من أسبوع واحد من «المجزرة الأميرية» التي جرت في القصر السعودي، حيث اعتُقل 200 شخصٍ منهم أمراء ووزراء رفيعو المستوى في النظام السعودي.
اقرأ أيضًا: «ليلة بلا قمر».. ابن سلمان يطيح بباقي المعارضة في العائلة!
فبعد نهاية الزيارة المرتّبة إلى الإمارات، صعد ماكرون إلى الطائرة الرئاسية مجددًا ليجري زيارة غير مخطّطة استمرّت ساعتين إلى المملكة العربية السعودية استقبله خلالها وليّ العهد محمد بن سلمان، ليؤكّد على العلاقات الفرنسية السعوديّة المتينة، خصوصًا بعد استقباله في سبتمبر (أيلول) الماضي للأمير القطري حمد بن تميم في باريس، ولم يتأخّر ماكرون عن إعلان زيارة مقرّرة قادمة إلى طهران.
ماكرون يريد الحفاظ على علاقاته الخارجيّة مع جميع الأطراف المتنازعة من أجل إعطاء ريادة جديدة للدبلوماسية الخارجيّة، سواء كانت أطراف الأزمة الخليجية من خلال استقباله الأمير القطري في سبتمبر وزيارته الإمارات والسعودية في نوفمبر، أو طرفي النزاع السعودي الإيراني بزيارته لواحدة وتخطيطه لزيارة الأخرى، وقد أعلن وزير خارجيّته أيضًا أنه يخطّط لزيارة إيران في المستقبل القريب.
لا يبدو أن الرئيس الفرنسي الشاب يتورّع في دخول مستنقع الشرق الأوسط وتعقيداته ونزاعاته التي لا تنتهي، فبعد الأزمة التي فجّرها رئيس الوزراء اللبناني بتقديمه استقالته من السعودية وعبر وسائل إعلام سعوديّة، والتي أسالت الكثير من الحبر حيث اعتبر البعض أن الحريري قدّم هذه الاستقالة مُرغمًا من طرف السعوديين، بل إن البعض ذهب حد القول إنه أسير هو وأسرته في السعودية، تدخّل ماكرون مجدّدًا في هذا الملفّ بعرضه استقبال فرنسا لرئيس الوزراء اللبناني المستقيل لتكون هذه المبادرة مخرجًا للأزمة.
Embed from Getty Images
ماكرون يستقبل الحريري في قصر الإيليزيه.
لبنان بالنسبة لفرنسا يعني الكثير، فهي بلد فرانكفونيّ ومستعمرة فرنسيّة سابقة، بالإضافة إلى الكتلة الشعبيّة المسيحية أو «مسيحيّي الشرق» التي تعيش في لبنان، كل هذا يجعل الحضور الفرنسي في لبنان منذ سنوات طويلة قويًّا.
حتى في تعاملاته مع المغرب العربي، فإن ماكرون يضع المصلحة أولًا بعيدًا عن أي توازنات تقليديّة أو حسابات سياسيّة بعيدة الأمد، فقد أجرى زيارته الأولى وهو رئيس لدولة المغرب بدلًا عن الجزائر التي طالما زارها الرؤساء الفرنسيّون أوّلًا؛ لأن ماكرون يرى المصلحة الاقتصادية في الشراكة مع المغرب الذي يعيش اقتصاده ازدهارًا نسبيًّا مقارنة بالجزائر الغارقة في أزمة ماليّة خانقة بسبب تراجع أسعار النفط، كما أن ماكرون يفضّل الشراكة مع الزعماء الأقوياء الذين يمسكون بزمام الأمور ومقاليد الحكم فعليًّا، الأمر الذي لا يبدو كذلك مع الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة حاليًّا.
اقرأ أيضًا: 4 سيناريوهات مُخيفة.. ما مصير «سُنّة لبنان» بعد استقالة الحريري؟
وجه شاب لسياسات قديمة
ماكرون هو النجم الجديد في فضاء القادة الغربيين، وبالرغم من تسويقه لنفسه خلال الحملة الانتخابيّة بوصفه «مرشّحًا جديدًا» وسطًا بين اليسار واليمين التقليدي، وبالرغم من أنه ليس جديدًا جدًّا فقد تقلّد سنتين منصب وزير الاقتصاد في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند، إلاّ أنه قدّم الانطباع بتقديم خط سياسي جديد بعيد عن التجاذبات التقليدية بين اليمين واليسار.
لكن ماكرون بقي وفيًّا للخط اليميني، سواء في تعاملاته مع الأنظمة المتّهمة بانتهاكات حقوق الإنسان، أو اقتصاديًّا بتخفيفه للضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة حتى أعلنته الصحافة الفرنسية «بطل الأغنياء والميسورين»، أو موقفه من المهاجرين وطلبه منهم «العودة إلى بلدانهم»، ممّا قد يوحي بأنّ مُنافسته اليمينية «مارين لوبان» في الانتخابات الماضية، تقف أمام شاشة التلفاز، وهي ترى برنامجها الانتخابي يُحقّق على أرض الواقع، من قِبل وجه أكثر شبابًا ونضارة، ولعلّها تساءلت «من هو اليمينيّ اليوم؟»