«كنت تاجر إبل، وليس لديَّ علاقة بالقتال، ولا الحكومة، ولا السياسة». *الفريق أول حميدتي
منذ الإطاحة بالرئيس السوداني المخلوع عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) الجاري، والمشهد السياسي لا يُحركه سوى هتافات المتظاهرين المعتصمين في الخارج أمام القيادة العامة للجيش، وقرارات الداخل التي جاءت جميعها حتى الآن في صالح قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي أضحى الرقم الصعب في المعادلة السودانية. فالرجل كسر شوكة النظام قبل سقوطة بنحو 100 يوم حين أعلن عصيانه على البشير بالانحياز للمتظاهرين، والمفارقة التاريخية في مسيرة «تاجر الإبل» أنّ أعداءه الذين حاربوه طيلة 15 عامًا، وحاولوا نزع زيه العسكري، طالبوه بالانضمام للمجلس الانتقالي في محاولة لإضفاء شرعية على مثلث الحرس القديم المتمثل في (وزير الدفاع ابن عوف، ورئيس الأركان كمال معروف، ومدير المخابرات صلاح قوش)، لكنّ حميدتي أعلن رفضه ثانية؛ ليتسبب بعدها فيما عُرف بالسقوط الثاني للنظام.
وبعدما ترأس الفريق أول عبد الفتاح البرهان المجلس الانتقالي بديلًا عن ابن عوف، أصبح حميدتي – الذي تجمعه بالبرهان صداقة قديمة – نائب رئيس المجلس بدلًا عن كمال معروف، ثم أصبح بعدها الوسيط بين النظام والولايات المتحدة، وهو الدور القديم الذي صنع نفوذ صلاح قوش.
«وجوه عادية أسقطت ديكتاتورًا».. تعرّف إلى أبرز «أيقونات» ثورة السودان
حميدتي.. عدو الجميع الذي خان البشير ثلاث مرات
على غير العادة نسج قائد قوات الدعم السريع قصة صعودة المعقدة في السُلطة بعيدًا عن الجماعة الإسلامية، والجيش، وأضواء العاصمة؛ إذ يقول عن نفسه: «أنا محمد حمدان دقلو موسى، من مواليد عام 1975، وأبناء شمال دارفور، انقطعت عن الدراسة في العام 1991، و(حميدتي) مجرد لقب.. كنت أعمل في تجارة الإبل وتصديرها إلى ليبيا، وجلب القماش، واستمر هذا الأمر حتى العام 2003»، والتاريخ الأخير هو الذي سيدفع التاجر الطموح لمقاليد الحُكم فيما بعد.
ينحدر حميدتي – 43 عامًا – من قبيلة الرزيقات، إحدى أكبر القبائل العربية في إقليم دارفور التي تشكلت منها قوات «الجنجويد» التي قامت الحكومة ـ بحسب اتهامات دولية ـ بتسليحها، ضمن سياسة القتال القبلي لطرد العنصر الأفريقي من إقليم دارفور، وقامت تلك القوات بانتهاج سياسة القتل الجماعي وحرق قرى المتمردين، في الحرب التي اعتبرت واحدة من أبشع مجازر القرن، والتي خلفت وراءها نحو 300 ألف قتيل، وأكثر من 3 مليون مشرد أصبحوا بلا مأوى.
تجارته بين دارفور وتشاد وليبيا ومصر بائعا للإبل إضافة لعمله حاميًا للقوافل أدر عليه ثروة كبيرة، بالإضافة إلى الميليشيا التي شاركت عام 2003 في حرب دارفور ضد المتمردين، وحميدتي الذي كان يبلغ وقتها 28 عامًا نجح في حشد القبائل العربية للقتال إلى جانب الحكومة التي دعمته بالمال والسلاح، ليبرز الشاب بعدها القوة الضاربة في الأرض التي لفتت انتباه البشير. يحكي الرجل قصة أول لقاء مع الرئيس السوداني المخلوع عام 2006 قائلًا: «طلبت منه ثلاثة مطالب: المشاركة في السُلطة، ومنح قواتي رتب عسكرية، وإعطاء الضوء الأخضر لقبيلتي بالتنمية».
اللافت أن حميدتي سبق أن خان البشير ثلاث مرات، فقبل انحيازه للمتظاهرين أواخر ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي، سبق وأن انسحب بميليشياته مرتين من القتال لصالح الحكومة، واعتصم في دارفور، كما أنه حاول الانضمام لقوات التمرد بعد خلافات مع الرئيس السوداني بسبب تقنين أوضاع الميليشيات. ويُتهم النظام السوداني البائد باستحداث ولايتين جديدتين في دارفور لإرضاء قبيلة «الرزيقات» التي ساعدتها في القضاء على التمرد، وهو ما كان سببًا لاندلاع الحرب الأهلية في الإقليم عام 2015 بين قبيلة حميدتي وقبيلة المعاليا التي اتهمت نائب البشير بمساعدة القبيلة العربية بالمال والسلاح.
وبينما منح البشير اسم قوات حميدتي لقب «حرس الحدود»، ومنحهم زيًا عسكريًا تابعًا للقوات المُسلحة، فإنّ صعود حميدتي اللافت وقُربه من دوائر النفوذ كان سببًا قي العداء الذي لاحقه من المؤسسة العسكرية التي اعتبرته دخيلًا عليها خاصة بعدما منحه البشير ترقية استثنائية برفعه إلى رتبة لواء، ثم فريق؛ لكنّ الرجل الذي اعتاد الحديث عن نفسه بأنه لا علاقة له بالقتال، ولا الحكومة، ولا السياسة، مثّل وجوده امتدادا لقوات الدفاع الشعبي التي تشكلت من الإسلاميين – على غرار الحرس الثوري الإيراني – لتكون قوة رادعة لحماية المشروع الإسلامي من انقلاب الجيش، وتحسبًا لخيانة صلاح قوش من جهة، والقوة الضاربة في الأرض التي يخشاها المتظاهرون من جهة أخرى.
رجل الإمارات الذي أطاح بكل أعدائه
في عام 2014 استجاب البشير لحميدتي، ووّحد ميليشيات «الجنجويد»، وأطلق عليها قوات الدعم السريع، وهو ما أثار حفيظة كبار قادة الجيش الذي رفضوا انضمام تاجر الإبل إليهم، لذا ألحق البشير تلك القوات بجهاز الأمن، وفي نهاية العام قاد الحزب الحاكم مشروع قانون لتعديل الدستور الانتقالي، والذي أصبحت تلك القوات بموجبه قوة نظامية إلى جانب الجيش والشرطة.
(حميدتي يلتقي القائم بأعمال السفارة الأمريكية في السودان – المصدر: الجزيرة)
اللافت أنّ قائد قوات الدعم السريع سبق أن تعرض لوشاية أطاحت به من منصبه كمستشار للأمن في ولاية جنوب دارفور، إلا أنه نجح في العودة أقوى مما كان، يقول عن نفسه حين فوجئ بقرار إقالته: «أنا إنسان حرّ، لديّ جيشي وإمكاناتي، ولا يستطيع أن يقلّص الوالي صلاحياتي»، والمفارقة أنّ حميدتي غير موجود على قوائم الإرهاب الموجود فيها حاليًا كل من رئيس المجلس الانتقالي عبد الفتاح البرهان، والبشير وقوش وعدد من رموز النظام القديم، رغم أن قواته مُتهمة باستقطاب عناصر «الجنجويد» التي قمعت حرب دارفور، وبينما تنفي الحكومة تلك الاتهمات، تصف منظمة «هيومان رايتس ووتش» حميدتي بأنه رجل بلا رحمة.
جانب خفي من قصة تاجر الجمال يكشفها مُصدر مطلع لـ «ساسة بوست»: «البشير لعب على التناقضات العائلية بين قائد قبيلة المحاميد موسى هلال الذى كان يسيطر على ذهب جبل عامر لمصلحته الشخصية، ويحتمي بالرئيس التشادي زوج ابنته، وبين حميدتي الشاب الطموح»، يُضيف المصدر: «اشترط البشير على حميدتي إثبات ولائه أولًا قبل أن يمنح قواته شرعية حمل السلاح، وتمثلت الصفقة حينها في أن يخوض الشاب الطموح أصعب اختبار متمثل في القبض على ابن عمه زعيم قبيلة المحاميد»، يحكي حميدتي الجزء المُعلن من القصة حين قاد ابن عمه مُكبلًا بالحبال: «موسى هلال عارض قرارات جمع السلاح، وللأسف أي جبروت وطغيان نهايته تكون صعبة، هلال كان بؤرة لتجمع المتفلتين والحرامية، وهو مشهور بالغدر والخيانة».
الدور الأبرز الذي لعبه حميدتي كان في حرب اليمن، فبينما طلبت السعودية والإمارات من كلٍ من مصر وباكستان والمغرب وتركيا وبنجلاديش، المشاركة بقوّات عسكرية بريّة قوبل طلبهما بالرفض؛ لأن حرب اليمن ليست معركة جيش نظامي، كما أنّ تعدد أطراف النزاع بين تنظيم «القاعدة» و«الحوثيين» جعلها حرب عصاباتٍ بامتياز، لذا فالصفقة التي عقدها البشير من الدول الخليجية تمثلت بالدفع بقوات الدعم السريع صاحبة الخبرة الطويلة في حرب العصابات مقابل الحصول على منح اقتصادية سخية، وسُرعان ما تمت الصفقة، وبحسب التقديرات غير الرسمية فإن عدد القوات يتجاوز حاليًا 10 آلاف جندي. بالإضافة إلى عشرات الآلات الثقيلة والمدرعات العسكرية.
اكتسب حميدتي بسبب قواته بُعدًا إقليميًا مكّنه من التقارب مع ولي عهد الإمارات الأمير محمد بن زايد، بالإضافة إلى الصداقة التي جمعته مع الفريق أول عبد الفتاح البرهان المشرف العام على القوات السودانية في اليمن الذي يرتبط أيضًا بصلات مع السعودية والإمارت، ليجتمع الرجلان بعدها في أروقة السُلطة بعدما عرف كل واحدٍ منهم مدى نفوذ الآخر.
سقوط «حليف الجميع».. قوى عربية ودولية تضررت من الإطاحة بالبشير
الرقم الصعب في المعادلة السودانية
لا يتعامل حميدتي منذ أيام البشير على أنه مسئول في يد الدولة يمكن عزله والإطاحة به، فالشاب الطموح الذي لم يُخفِ تمرده على السُلطة سُرعان ما خاض صراعات علنية تدخل فيها البشير بشكل مباشر لصالحه، فقبل عامين كان وزير الداخلية السوداني يرسل استغاثته داخل البرلمان إلى الجيش، لمطالبته بالتدخل لإخلاء منطقة جبل عامر الغنية بالذهب التي يسيطر عليها حميدتي بمساعدة 3 آلاف عنصر أجنبي، لتتدخل رئاسة الجمهورية بعدها لصالح الرجل الذي يقود القوة الضاربة، وتنتهي القصة باستقالة وزير الداخلية، وهو ما اعتبر إشارة حينها لجميع رجال السُلطة بأن المساس بحميدتي جريمة لا تغتفر.
مرة أخرى دخل حميدتي في خصومة علنية مع والي ولاية شمال كردفان أحمد هارون، المقرب من البشير والمطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية، وهو اختبار صعب آخر اجتازه الرجل بنجاح حين وقف البشير موقفًا محايدًا بين صديقه المقرب وبين حُصانه الأسود الذي يحمي نظامه من المعارضين.
وفي عام 2014 فوجئت المعارضة بقرار جهاز الأمن والمخابرات نشر 3 آلاف عنصر من قوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، وهو ما اعتبر حينها بأن النظام الذي قتل نحو 200 معارض – وفقًا لمنظمة العدل الدولية – في احتجاجات عام 2013، يكشر عن أنيابه باستدعاء تلك القوات داخل العاصمة، وتزامن القرار حينها مع دعوات الاستنفار التي أطلقها «حزب الأمة» المعارض عقب اعتقال رئيسه الصادق المهدي، على خلفية توجيهه نقدا لقوات الدعم السريع واتهامها إياها بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين في إقليم دارفور.
حميدتي الذي ظل حامي عرش البشير نحو 15 عامًا؛ توّج عام 2017 حين أصدر البشير قرارًا بترقيته لرتبة فريق، ومنح قواته الحق في التدخل الفوري لحسم أي شغب متمثل في انقلاب أو تظاهرات، والمفارقة أنّ الحصان الأسود الذي نمّاه البشير وجعله الرقم الصعب في المعادلة السودانية كان هو الذي أطاح بالبشير من على الحُكم حين انحاز للمتظاهرين، ليتوّج بذلك الانحياز الخيانة الثالثة والأخيرة.
ذكاء حميدتي في التعاطي مع الأحداث الأخيرة مهّد له أن يكون همزة الوصل بين العسكر والمعارضين الذين اتهموه بالأمس بانتهاكات لصالح النظام، أمّا داخل المجلس الانتقالي، فعبد الفتاح البرهان توصل إلى اتفاق تاريخي مع قائد قوات الدعم السريع الذي رفض الانضمام للمجلس العسكري الذي كان يطمح في أن يكون رئيسه بحسب تسريبات. من جانب آخر فالتقارب الأيديولوجي، الذي جمع حميدتي والبرهان باعتبارهما رجلي الإمارات، مهّد للإطاحة بمثلث الحرس القديم المتمثل في: وزير الدفاع ابن عوف، ورئيس الأركان كمال معروف، ومدير المخابرات صلاح قوش؛ ليتصدر حميدتي بعدها المشهد السوداني برمته عبر تصريحاته المطالبة بتقليص الفترة الانتقالية من عامين إلى ستة أشهر، ومطالبة الجيش بتشكيل حكومة مدنية.
ويبدو أنّ حميدتي بات يرسم لنفسه طموحًا جديدًا باعتباره المحرك الرئيس للأحداث؛ فبخلاف أنه كان أول من قابل القائم بأعمال السفارة الأمريكية بالخرطوم، باعتباره نائب رئيس المجلس الانتقالي، إلا أنّه طرح باعتباره قائد قوات الدعم السريع استفتاء عبر الصفحة الرسمية لقواته، بشأن القوات السودانية المشاركة في التحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن، في خُطوة عبّرت عن ذكاء الرجل الذي يعرف كيف يصوّغ هتافات الشارع لصالحه، وهو ما قد يجعله باقيًا في المشهد لفترة أطوّل باعتباره الفائز الوحيد – حتى الآن – من سقوط البشير.
علامات
البشير, الجيش, السودان, القوات المسلحة, المعارضة, جنجويد, حميدتي, دارفور, قبائل, قوات الدعم السريع