على مدار عقود أصبح السياسي منصور عباس، نائب رئيس الحركة الإسلامية في إسرائيل، أكثر الشخصيات السياسية إثارة للجدل في مجتمع «عرب 48»، فلا يكاد يمر أسبوع دون أن يصدر من عباس، أو حزبه في الكنيست «القائمة العربية الموحدة» مواقف تخالف التيار الرئيس السائد في الخطاب السياسي العربي، ورغم ذلك، لا يمل منصور عباس من الدفاع عن مواقفه، معتبرًا أن ذلك هو السبيل الوحيد لتوفير الخدمات للمجتمع العربي الفقير داخل إسرائيل.

طريق عرب 48 إلى الكنيست

يبلغ تعداد العرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، والذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، نحو مليون ونصف المليون نسمة، ويمثلون نحو 17% من مجمل السكان، وهؤلاء هم الفلسطينيون الذين بقوا في أرضهم عند إعلان دولة إسرائيل عام 1948، ويحق لهم التصويت في انتخابات الكنيست الإسرائيلي، وإن كانوا لا يخدمون في الجيش أو المؤسسات الأمنية، باستثناء أبناء الطائفة الدرزية.

ويعاني المجتمع العربي داخل إسرائيل عمومًا من الفقر والتهميش، فعلى الرغم من زيادة أعداد العرب الحاصلين على تعليم جامعي أو أكاديمي، فإن الفجوة بينهم وبين اليهود لا تزال كبيرة للغاية، ففي سوق العمل يعمل معظم العرب في القطاعات التي تتميز بأجور متدنية، مثل قطاع البناء، بينما تنخفض نسبتهم في القطاعات الرائدة، فتصل نسبتهم في قطاع الاتصالات والمعلومات مثلًا إلى 1%، وقد اعترفت المحكمة العليا في إسرائيل في حكم صادر في يوليو (تموز) 2000 بأن المكون العربي في إسرائيل يعاني من التمييز وبخاصة في مجال التوظيف.

Embed from Getty Images

منصور عباس نائب رئيس الحركة الإسلامية في إسرائيل

ولم تشهد الساحة العربية في إسرائيل ظهور أي أحزاب سياسية تشارك في انتخابات الكنيست، فرغم تأسيس «الجبهة العربية الشعبية» ذات الاتجاه العربي الناصري عام 1958، و«حركة الأرض» ذات الاتجاه القومي عام 1964، فإن كلا الحركتين تعرضتا للاستهداف من طرف السلطات الإسرائيلية التي عدت برنامجيهما «تهديدًا وجوديًّا لإسرائيل».

لكن في عام 1988، تأسس أول حزب عربي صرف لم يتعرض للحظر من طرف السلطات الإسرائيلية؛ وهو «الحزب الديمقراطي العربي»، ما فتح الباب للعديد من الأحزاب السياسية العربية التي شاركت في انتخابات الكنيست.

وفي مارس (آذار) 2015، خاضت الأحزاب العربية انتخابات الكنيست العشرين بقائمة موحدة لأول مرة في تاريخها هي «القائمة العربية المشتركة»، استجابةً للضغوط العربية الداخلية، والتحديات الصهيونية الخارجية في محاولة لاستغلال النافذة الوحيدة المتاحة لـ«عرب 48» لتحسين أوضاعهم المعيشية والدفاع عن مصالحهم في ظل الجو العنصري، الذي يزداد يومًا بعد يوم في المجتمع الإسرائيلي.

وفي انتخابات الكنيست الثالثة والعشرين في مارس 2020 ارتفع حجم التصويت العربي ليصل إلى  65%، لتحصل «القائمة العربية المشتركة» على 15 مقعدًا، وتصبح الكتلة البرلمانية الثالثة في البرلمان بعد أحزاب «الليكود» وقائمة «أزرق أبيض».

«الحركة الإسلامية» داخل إسرائيل.. نظرة تاريخية

أوائل سبعينيات القرن الماضي، وفي إثر هزيمة يونيو (حزيران) 1967، ظهرت بوادر صحوة دينية داخل مجتمع فلسطينيي 48؛ إذ حمل العديد من الشبان توجهًا إسلاميًّا حركيًّا، كان من أبرزهم عبد الله نمر درويش، الذي أسس ما عُرف باسم «الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر».

وكانت الحركة أقرب إلى فكر عمل جماعة «الإخوان المسلمين» ونمطهم، وإن لم ترتبط بها بشكلٍ مباشرٍ، إذ اهتمت بالتنظيم الديني والتربوي، والعمل الاجتماعي من خلال جمعيات ومؤسسات لا تتعارض مع القوانين الإسرائيلية.

وبعد سنواتٍ قليلةٍ، قرر نمر درويش مع بعض رفاقه، التحول إلى العمل المسلح، فأسسوا «أسرة الجهاد» التي أعلنت الجهاد المسلح والحرب الاقتصادية على الاحتلال الإسرائيلي، وفي إثر ذلك قضى نمر درويش ثلاث سنوات في السجون الإسرائيلية، وبعد خروجه تركز نشاط «الحركة الإسلامية على العمل الاجتماعي»، والأنشطة الخدمية في المجتمع المحلي العربي، ما مكَّن الحركة من تحقيق فوز في الانتخابات البلدية التي جرت في عام 1989.

عربي

منذ 3 سنوات
كانت تراهم عملاء لإسرائيل.. لماذا سمحت الرياض لـ«عرب 48» بالعمل في أراضيها؟

كان عام 1996 فارقًا في تاريخ «الحركة الإسلامية»، فقد أدى الخلاف حول اتفاقية أوسلو، والمشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي من عدمه إلى انقسام الحركة إلى جناحين: جناح شمالي، يقوده الشيخ رائد صلاح، وقد رفض هذا التيار المشاركة العربية في الكنيست، وعدَّها اعترافًا بالاحتلال وشرعنة لسياساته.

وجاهر هذا التيار بتأييده حركات المقاومة في غزة والضفة، كما ركَّز على العمل الخدمي والدعوي، كما حاول التركيز على نموذج «المجتمع العصامي»، لزيادة اعتماد العرب داخل إسرائيل على أنفسهم، بشكلٍ يتحدى مفاهيم السلطة المركزية في إسرائيل.

أما الجناح الجنوبي للحركة الإسلامية، والذي تزعمه نمر درويش، فقد تبنى خيار المشاركة في انتخابات الكنيست، والعمل من خلال المنظومة السياسية والقانونية في إسرائيل، وعدَّ هذا هو السبيل الوحيد، والوسيلة لتحسين أوضاع السلطات المحلية العربية، والسعي إلى الحصول على ميزانيات مناسبة لتطوير المجتمعات العربية أسوة باليهود، وقد حصلت «الحركة الإسلامية- الجناح الجنوبي» على مقعدين في الكنيست في كل من انتخابات 1996 و1999.

وظل «الجناح الجنوبي» يتحرك داخل إطار «المسموح به» من طرف المؤسسة السياسية الإسرائيلية، وهو ما أعطاه حرية حركة نسبية، مقارنة بـ«الجناح الشمالي» بقيادة رائد صلاح، الذي تعرض لموجات متعاقبة من القمع الأمني.

حتى جاء شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، والذي قررت فيه الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو رسميًّا حظر الحركة وإغلاق مؤسساتها بدعوى أنها «تشكل تنظيمًا متطرفًا لا يعترف بمؤسسات الدولة وينكر حقها بالوجود ويسعى إلى إقامة خلافة إسلامية بدلًا منها»، وجاء في بيان الحظر أيضًا أن الحركة «تنتمي للتيار الإسلامي المتطرف وهي جزء من حركة الإخوان المسلمين العالمية، وتتبنى أيديولوجية تهدف لتدمير إسرائيل».

منصور عباس.. الإسلامي الذي يلاعب نخبة إسرائيل

ربما ليست هناك شخصية مثيرة للجدل في المجتمع الإسرائيلي حاليًا أكثر من منصور عباس، وعباس هو طبيب أسنان وُلد في قرية المغار عام 1974، وتخرج في الجامعة العبرية في القدس، بدأ عمله السياسي عندما كان طالبًا، إذ انضم إلى «الحركة الإسلامية – الجناح الجنوبي»، ثم صار أمينًا عامًا لها عام 2007، وفي عام 2010، انتُخب نائبًا لرئيس الحركة، وهو المنصب الذي لا يزال يحتفظ به حتى الآن.

انتُخب عباس نائبًا في الكنيست عن حزب «التجمع الإسلامي» ممثل الحركة الإسلامية في انتخابات الكنيست 23 في مارس 2013، وهي الانتخابات التي شهدت أكبر حضور  للعرب تمثَّل في 15 مقعدًا، عبر ما عُرف بـ«القائمة المشتركة».

Embed from Getty Images

منصور عباس نائب رئيس الحركة الإسلامية في إسرائيل

حاولت القائمة المشتركة في ذلك الوقت لعب دور فعَّال في إطاحة نتنياهو عبر دعم «بيني جانتس» رئيس الأركان السابق، لكن رهانات «القائمة المشتركة» فشلت، بعدما انفصل جانتس نفسه عن تحالف «أزرق أبيض»، وقرر الانخراط في تحالف يميني مع نتنياهو لتشكيل الحكومة.

في إثر تعقد المشهد السياسي في إسرائيل، وانهيار التحالف الحاكم بقيادة نتنياهو، أجريت انتخابات مبكرة في مارس 2021، وهي الانتخابات التي قرر فيها منصور عباس الانفصال بحركته عن «القائمة المشتركة»، ليشكل «القائمة العربية الموحدة».

وأعلن منصور عباس أنه على استعداد للتحالف مع أي حزب إسرائيلي «بشروط صحيحة»، ملمحًا بذلك إلى إمكانية التحالف مع نتنياهو نفسه، إذا كان هذا التحالف يضمن مكاسب اجتماعية وخدمية للأقلية العربية في إسرائيل.

في النهاية فشل نتنياهو في تأمين الأغلبية البرلمانية اللازمة لتشكيل الحكومة، بسبب رفض الأحزاب الصهيونية المتطرفة المتحالفة معه المشاركة في حكومة يدعمها العرب، فانتقلت دفة المفاوضات إلى خصوم نتنياهو، الذين شكلوا تحالفًا فضفاضًا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لا يجمع بينهم سوى الرغبة في إزاحة نتنياهو نفسه، ولتأمين المقاعد اللازمة، كان لا بد للحكومة التي شكلها نفتالي بينيت (وهو يميني محافظ قد لا يقل تطرفًا عن نتنياهو نفسه) أن تستعين بالمقاعد الأربعة لقائمة منصور عباس.

الطريق إلى الكنيست مليء بـ«التنازلات»

شكل دخول قائمة منصور عباس إلى الائتلاف الحكومي في إسرائيل سابقة هي الأولى من نوعها، فلم يسبق لحزب عربي في الكنيست أن يكون فاعلًا في تشكيل الحكومة أو إسقاطها، بل كان دور المكون العربي يقتصر على تشكيل غطاء سياسي للصوت العربي (الفلسطيني)، ودعم الفعاليات الاحتجاجية في المجتمعات العربية، لكن بدون أي تأثير يذكر في مسار الأحداث.

Embed from Getty Images

منصور عباس

وعلى الرغم من أن مشاركة العرب في الكنيست اتسمت تاريخيًّا بـ«الحذر»، وظل الخطاب العربي عمومًا يُركز على رفض السلوكيات الاستيطانية للاحتلال، ويدعم القضايا الفلسطينية الوطنية، فإن منصور عباس لم يخجل من قطع أشواط بعيدة عن هذا الخطاب، بل تماهى مع السياسة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في كثير من الأحيان، معتبرًا أن تلك هي «المقاربة الأكثر واقعية» لخدمة مجتمع «عرب 48»، بعيدًا عن «طنين الشعارات البالية» حسب تعبيره، التي لم تحقق إنجازًا يُذكر على مدى عشرات السنوات.

مقاربة عباس «الواقعية» تلك، كانت تعني ببساطة التخلي عن التركيز عن القضايا الوطنية الفلسطينية، فعلى مستوى تشريعات الكنيست مثلًا، وافقت «القائمة العربية الموحدة» على مشروعات قوانين تسمح بزيادة أعداد الجنود في مصلحة السجون الإسرائيلية، بهدف تضييق الخناق على الأسرى، وقوانين تتيح للشرطة الإسرائيلية طلب العون من قوات الجيش، في حال اندلاع مظاهرات لا يُمكنها السيطرة عليها (كما حدث في البلدات العربية في مايو/ أيار 2021)، وقانون ثالث يطلق يد الجيش والأمن لاقتحام البيوت العربية وتفتيشها دون إذن من المحكمة.

لم تحرك كتلة منصور عباس ساكنًا تجاه هذه القوانين، لكن زعيم «القائمة العربية» كشر عن أنيابه فقط حين حاولت حكومة نفتالي بينيت تهجير بعض بدو النقب، والبدء في تشجير أراضيهم تمهيدًا لمصادرتها، حينها هدد منصور عباس بأن حزبه سيتوقف عن التصويت للائتلاف الحاكم، ما أجبر الحكومة على وقف المشروع.

إذ تمثل «صلابة» موقف منصور عباس أمام هذه الإجراءات، في مقابل «تسامح» حزبه مع القوانين الاستيطانية، وتشديد الإجراءات الأمنية بحق فلسطينيي الضفة وغزة، تلخيصًا للإستراتيجية التي يتبعها والتي تركز على الخطاب المطلبي.

«نحن شركاء متساوون على طول الطريق، وجزء من التحالف لأول مرة في دولة إسرائيل. نحن نساوم لحل مشاكل المجتمع العربي» *منصور عباس في تصريحات لموقع إخباري إسرائيلي

وخطا منصور عباس خطوات أكثر جرأة، وغرد بعيدًا عن السرب العربي حين ذكر في خطاب له خلال أحد المؤتمرات أن  «دولة إسرائيل وُلدت دولة يهودية وهكذا ستبقى»، مضيفًا «نحن واقعيون ولا أريد أن أوهم أي أحد. والسؤال ليس ما هوية الدولة وإنما ما مكانة المواطن العربي فيها؟»، وهي التصريحات التي أثارت استنكارًا واسعًا بين أوساط المجتمع العربي والفلسطيني، وعدها البعض «رضوخًا لفوقية اليهودي»، ونتاجًا طبيعيًّا للمسار السياسي والخطابي الذي يتخذه منصور عباس.

«انحياز للصهيونية» أم «براجماتية مقبولة»؟

براجماتية منصور عباس كانت مثار جدل كبير في المجتمع العربي والفلسطيني طيلة السنوات القليلة الماضية، فبالنسبة لمؤيديه فإن ما يفعله حزب منصور عباس ليس سوى «تحول تكتيكي سياسي» لا يلامس الأيديولوجيا التي تعترف بالحق الفلسطيني، وليست تصريحاته ومواقفه سوى «مناورات سياسية» تستهدف استخلاص أكبر قدر من المنافع للأقلية العربية، وعلى حد تعبير منصور النصاصرة المحاضر في العلاقات الدولية والعلوم السياسية: «ها التكتيك ينطلق من خصوصيَّتنا كفلسطينيين أو كحركة إسلامية في الحيِّز الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي».

ويجادل أصحاب هذا الرأي بأن منصور عباس، تمكن عبر ولوجه إلى الائتلاف الحاكم من تخصيص أكثر من 53 مليار شيكل (16 مليار دولار) لتحسين البنية التحتية والتصدي لجرائم العنف في المدن العربية، كما ساهم في تجميد هدم البيوت التي بنيت دون ترخيص في قرى عربية.

Embed from Getty Images

ويقتضي اتفاق عباس-بينيت منح بلدات البدو في صحراء النقب وضعًا رسميًّا، ومد شبكة الكهرباء إلى آلاف المنازل المبنية بشكل غير قانوني، وهي كلها «مُنجزات» لم تُفلح سياسة الأحزاب العربية السابقة في تحقيقها.

في المقابل، فإن تحركات منصور عباس، وتصرفاته لا تزال تثير الغضب والاستنكار لدى شرائح واسعة من الرأي العام الفلسطيني والعربي، وتحفل الصفحات العربية بالنقد اللاذع لمنصور عباس، إلى حد وصف البعض له بـ«المتصهين»، إذ يرى أصحاب هذا الرأي أن عباس «اختار نهائيًّا الانصهار في بوتقة تحالف صهيوني يميني متطرِّف، وهذا أمر غريب جدًّا على شخص يصف نفسه بالإسلامي».

ويتعرض منصور عباس للهجوم من مختلف الأطياف الفلسطينية داخل الخط الأخضر وخارجه، بسبب مواقفه تلك، فقد اتهمته «حركة المقاومة الإسلامية (حماس)» بـ«الانحياز الفاضح للرواية الصهيونية»، كما اعتبرت السلطة الفلسطينية أن منصور عباس «لا يمثل الشعب الفلسطيني».

كما اعتبر أحمد الطيبي، النائب العربي المخضرم في الكنيست عن «القائمة المشتركة»، أن منصور عباس «يتحمل المسؤولية عن كافة تصرفات الحكومة الإسرائيلية، بما فيها المستوطنات في الضفة الغربية» بوصفه عضوًا في الائتلاف الحكومي وداعمًا له.

المصادر

تحميل المزيد