المصدر: قراءات
على امتداد شهري سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) من عام 2016، قدم أستاذ الإيكولوجيا البشرية »ألف هورنبورج«، لطلاب ماجستير الجغرافيا البشرية بجامعة لوند في السويد، سلسلة محاضرات مهمة، وفي الحلقة الأولى استعرض هورنبورج مجموعة من أفكاره شديدة الالتصاق بواقع الحياة اليومية، وإزاحة اللثام عن تعقيداتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية، يلقي هذا التقرير أضواءً على بعض منها.
التاريخ البيئي: وجه لانعدام المساواة بين البشر
التاريخ البيئي في نظر ألف هورنبورج، هو رؤية العلاقات القائمة بين ما يحدث للبيئة في زمان بعينه، وأثره على مكان بعينه؛ وهو بذلك مقاربة الصلات وتفسيرها بين زمان ومكان بعينهما.
يسخر هورنبورج من الفكرة القائلة بأن الإنسان دمر الكوكب وخرب بيئته، فلا يوجد كيان موحد اسمه الإنسان الذي خرب الكوكب، من وجهة نظره، فالبشر ليسوا في مركب واحدة، وإنما هم في مركبين، ومركب النخبة هي التي تكاد تغرق المركب الثانية، وهي التي تتخذ القرارات عمومًا بشأن البيئة والاقتصاد، فمن الجنون بالنسبة لهرونبورج التحدث عن ذنب جماعي للبشر، في ظل انعدام المساواة المتجلي في عالمنا.
ينطلق هورنبورج في أطروحته، من أن الأرض في أوروبا وفي أمريكا الشمالية لا تشكل ركيزة في الاقتصاد، ولا تمتلك نفس الأهمية التي تحظى بها في مناطق أخرى في العالم، وفي حين تتواجد مساحات شاسعة ورخيصة في أوروبا وأمريكا الشمالية، ففي مناطق أخرى من العالم، تعيش 50 أسرة على 50 فدانًا.
في الواقع اختلفت نظرة المواطن الأوروبي والأمريكي للأرض، عما كانت عليه نظرة الأجداد من حيث أهميتها، وهذا يرجع بالأساس للوقود، فحين تصبح قادرًا على استخراج الوقود والطاقة اللازمة للحياة، من باطن الأرض فلن نمتلك نفس المخاوف إزاء سطح الأرض نفسه.
منذ 200 عام فقط، كانت الأرض كلها لا تتمثل للإنسان إلا في سطحها، وغذاء الخيول التي كانت تمثل المصدر الأساسي للطاقة، من أجل حرث الأرض، كان غذاؤها على سطح الأرض أيضًا.
الآن نحن نستعمل الجرار الزراعي، الذي يستمد طاقة حركته، من الإيثانول، وهو وقود حيوي، يصنع من محاصيل زراعية، تزرع بصورة مكثفة بشكل يدمر البيئة في البرازيل، حيث لا يبقى في النمط العام الحالي سوى خيارين، إما تدمير موارد الأجيال القادمة في أوروبا، أو الأجيال الحالية في مكان آخر مثل البرازيل.
بالنسبة لهورنبورج، فكي نفهم الصلات في التاريخ البيئي، علينا استخدام نظرية النظام العالمي، التي وضعها ولرشتاين، وفكرته تتلخص في أن المجتمع العالمي هو عبارة عن نظام عالمي، وكل الوحدات السياسية (الدول والأقاليم) هي جزء من مجتمع أكبر اسمه النظام العالمي، وهو أكبر من (الدول الأمم).
بين تلك الوحدات توجد علاقات قوة وتبادلات غير متساوية، وغير متعادلة، ويوجد دائمًا من يجمع الموارد على حساب وحدات أخرى. بريطانيا في القرن الـ19، جمعت رأس مال عن طريق تبادلات غير عادلة مع مناطق أخرى من العالم، وهو نفس الحال الآن مع المركز العالمي الحالي المتمثل في اليابان، والولايات المتحدة، وأوروبا، وهو المركز الذي تصب فيه رؤوس الأموال، أما الهامش فهو الذي يتسم برخص العمالة والأرض والموارد.
هل تختلف المشاكل البيئية بين المركز والهامش؟
الإجابة تكمن عند هورنبورج في مفهوم إزاحة العبء البيئي، ويعني هذا المفهوم، أن تحافظ على بيئتك وتنقل أعباء ضغطك على البيئة إلى مناطق أخرى في العالم، فالسيارات التي تسير في شوارع أوروبا بالإيثانول، والسيارات »البيوفويل« الصديقة للبيئة، تأتي على حساب تدمير الزراعة في البرازيل، حيث يتم استخدام مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في البرازيل، للمحاصيل التي يستخرج من خلالها الإيثانول، بذلك يأتي الحفاظ على البيئة في أوروبا على حساب البشر والنظام البيئي في البرازيل، وهو ما يسمى بإزاحة العبء البيئي، فلكي يركب المواطنون سيارات صديقة للبيئة في أوروبا يتم تدمير البيئة في البرازيل.
إزاحة العبء البيئي، جرت منذ فجر التاريخ، فحضارات ما بين النهرين ومصر الفرعونية، استوردت باعتبارها إمبراطوريات كبرى موارد معينة من الهامش، الذي لم يكن بالبعد الحادث بين أوروبا والبرازيل الآن، نظرًا لتطور النقل وتحول العالم إلى قرية صغيرة. تظهر الكشوف الأثرية بوضوح أدلة على أنشطة استخراجية للمركز في الهامش، مثل تقطيع الغابات، وتآكل التربة. بهذا فقد كانت المراكز الحضرية القديمة تترك بصمات إيكولوجية وبيئية واضحة على مناطق تتجاوز مساحتها السياسية، وكانت تزيح عبئها البيئي على مناطق الهامش.
وفي العصور الوسطى كانت إسكندنافيا تمثل الهامش لأوروبا، وعلى جانب آخر وهو ربما يكون مدهشًا للبعض في القرن الـ21، كانت السويد تمثل هامشًا للهند، فقد كان إنتاج الحديد في الهند قديمًا يعتمد على إنتاج المادة الخام للحديد في السويد، وكانت الغابات الشاسعة في السويد تطوع لهذا الغرض، ليتم تصنيع الخام في الهند.
هنا نلتفت إلى شيء شديد الأهيمة، فالأمر لا يتعلق فقط بمجرد مزارع سُخرت في الهامش لصالح المركز، بشكل يضر ببيئتها المحلية، فالأمر يحتوي بداخله أيضًا على خام وأخشاب وساعات عمل سُخرت أيضًا، فداخل السلعة توجد طاقة عمل مسخرة، فالكرسي على سبيل المثال يمتلك تاريخًا شخصيًّا، متمثلًا، في كل ساعات العمل، وفي كل مساحة الأرض التي سخرت لتصنيعه، وكلها أشياء مغروسة بداخله، ولكي ننتج طن حديد فنحن نحتاج 12 فدانًا من الغابات (خشب الأشجار المستخدم كحطب لتسخين الحديد).
خريطة التجارة العالمية هي خريطة دمار الموارد الطبيعية
في القرن الـ15، كانت توجد خريطة كبيرة لطرق التجارة شاملة العالم كله، تتسم بترابط قوي في الاقتصاد العالمي، وكان لتلك العلاقات التجارية تأثير كبير في البيئة، ففي الصين كان معروفًا أن هناك طلبًا كبيرًا على الحرير في أوروبا، والصين تطلب مقابل ذلك فضة لتبيعها؛ بالطبع نتج عن ذلك، زراعة مكثفة لأشجار التوت من أجل إنتاج الحرير، بالإضافة إلى زراعة الشاي لتصديره أيضًا، وهو ما يعني عدم إمكانية زراعة محاصيل أخرى في نفس مساحة الأرض.
في الواقع العلاقات التجارية الاقتصادية لها تأثير قوي في المناطق التي تتحرك عليها التجارة، فالتجارة لها أثر بيئي، وليس مثيرًا للدهشة أن خريطة انتشار طرق التجارة تتطابق تمامًا مع خريطة اختفاء الغابات على مدار السنين.
السوق العالمية تطلب، والطبيعة تلبي، وتنقسم الطبيعة حسب طلب التجارة العالمية، فالتجارة خلقت البيئة العالمية، وخلقت اختلافات بين مناطق النظام العالمي من حيث الضرر الذي تتعرض له كل منطقة.
يحيلنا هنا مفهوم إزاحة العبء البيئي إلى مفهوم رأس المال الأرضي، واستثمار الطاقة البشرية في الأرض، يعني ذلك أنه حدث تعديل على الأرض لزيادة إنتاجية الفدان، وهذه التعديلات غير قابلة لعزل أرض عن أرض، بالتالي هي تغيرات دائمة للأرض وتضاريسها، ومن الأمثلة على ذلك، قنوات الري، وقنوات الصرف، وإخلاء الغابات من أشجارها للزراعة كما حدث في أوروبا، وإخراج الحجر من الأرض، وتسميد الأرض بفضلات الحيوانات.
حين كان كارل ماركس على خطأ
تاريخيًّا، ارتبطت التحسينات للأرض بتركزات البشر في الأماكن، بما يشمل تشكل المدن، فكلما ازداد عدد البشر وجدت الضرورة لتكثيف الزراعة حول الأرض المليئة بالبشر، وهي حلقة مفرغة، فإذا أخذنا مثال من الأمازون، سنجد أن القرى تضخمت في الحجم؛ لأنها كانت قادرة على جذب الناس، وربما لأن كان بها زعيمًا قادرًا على جذب الناس للحفلات.
في مناطق كثيرة من العالم كانت الجعة مصدر من مصادر سعادة البشر، ولاستيعاب بشر جدد للقرى المتضخمة، تم تكثيف الزراعة بالتسميد وغيره من الوسائل، ومن ثم أصبحت الأرض جاذبة للجيران أيضًا؛ أصبحت مورد يرغبه الجميع، من ثم تشكلت الحاجة لجيش يحمي الأرض من الراغبين في انتزاعها من الخارج، والجيش يحتاج إلى الغذاء، وهو ما يحتاج بدوره لتكثيف الزراعة، وهو ما تسبب فيما بعد بالتتابع في تشكيل التمدن والمدن، وكان ديفيد جريبر قد بين في كتابه تاريخ الاستدانة كيف كانت الجيوش سببًا في خلق الأسواق.
كان رأس المال الأرضي بهذا الشكل، مفيدًا للتطور بشكل ما، وهناك مصاطب زراعية في أمريكا الجنوبية ما زالت قابلة للزراعة بعد 4000 عام، لكن في حالات أخرى كثيرة، أدت هذه التطورات لملوحة الأرض، لا سيما في الشرق الأوسط، لأنك حين تُصعد المياه بالري، تأتي بالأملاح من باطن الأرض، وهذا يعني انحصار أنواع النباتات الممكن زراعتها على هذه الأرض، فليست كل المحاصيل قابلة للزرع في أرض ذات ملوحة متزايدة، يعني ذلك أنه تم القضاء على مزروعات بعينها في سبيل تكثيف وتكرار زراعات معينة.
بالنسبة لهورنبورج، فإنه تم التوصل بناءً على ذلك لتعريف عابر للثقافات لمفهوم رأس المال، وبالنسبة له تراكم رأس المال لم يبدأ من القرن الـ19 كما قال كارل ماركس، ليس في أوروبا الصناعية بمعنى أدق، ولكي يصل لذلك كان يحتاج لتعريف عابر للثقافات لتراكم رأس المال. نرى على سبيل المثال تراكم رأس المال في بيرو في القرن الـ15، وإنجلترا في القرن الـ18؛ البنية التحتية للإنتاج كانت مصاطب زراعية في بيرو، ومصانع نسيج في إنجلترا.
تغييب الوعي الثقافي لتمرير التبادل غير العادل كان كالتالي: توزيع جعة الذرة على الفلاحين، في شعائر مقدسة، وتوزيع الإمبراطور للجعة في الشعائر الدينية، وكان الأغنياء من «الإنكا» في بيرو يقيمون حفلات «تشيتشا»، وهذا هو اسم جعة الذرة في بيرو، وكانت العملية تدور على نحو أن يعمل الفلاح البسيط في أرض الأرستقراطي مقابل حفل الجعة الذي يشرب فيه، ويسعد وينسى كثيرًا، وفي نفس الوقت يعمل كثيرًا طوال العام في علاقات غير عادلة.
نستطيع أن نحسب كمية الذرة الموجودة في الجعة التي شربت، ونقارن تلك الكمية بالكمية التي زرعها الفلاحون بأيديهم، وسنستطيع حينها أن نرى بوضوح حجم المكسب الضخم الذي حققه الأرستقراطي أو الإمبراطور، وهذا هو الشكل الذي يعتمده هورنبورج في تعريف التبادل غير العادل: كمية الموارد التي تم استثمارها، وكمية الموارد التي تم منحها. وسنجد أن العملية الإنتاجية هنا تمت في سياق تعمية ثقافية، قُدمت للمشاركين على نحو أن هذا تبادل عادل، فالأرستقراطي الكريم يقدم لهم كل ما يملكه من جعة، ومن ثم تخلق حالة من الرضا العام، وتخلق بالتالي في ظل تلك العلاقات غير العادلة كميًّا، أيديولوجيا تبرر لعدم المساواة، وتبرز الاعتقادات الدينية القائلة بأن الله خلق البشر في الدنيا طبقات، وأنه لا يريد للمساواة أن تتحقق بين البشر.
حين نأخذ هذه الرؤية ونطبقها على الرأسمالية الحديثة، سنجد أن كلمات من قبيل الأجر الشهري والمكافأة، هي كلمات محملة بعوالم ثقافية، وهي لا تختلف في شيء عن التعمية الثقافية التي مورست عبر الجعة في بيرو.
يرى هورنبورج هنا أننا لو نظرنا إلى أنفسنا سنجد أن نفس الأمر يعاد، خاصةً إذا تأملنا في عالمنا المعاصر العلاقة بين الأجر، والسعر. بالنسبة له فإن النظرية الاقتصادية النيوكلاسيكية، هي نفسها شعائر التعمية التي مورست في بيرو، فهي التعمية المعاصرة، ولا شيء يهم الاقتصادي الحديث غير السعر، فالاقتصاد التقليدي الحالي هو الطبعة الحديثة من شعائر التعمية، لكنه أكثر تعقيدًا بحسب هورنبورج، وأكثر حصانة.
هناك تدفقات مادية كبيرة في النظام العالمي الحالي، فمثلًا إذا نظرنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية فيما يخص، وقت العمل المستثمر في السلع الصادرة والواردة، سنجد أنها تستورد سبعة أضعاف ما تصدره من وقت العمل، والاتحاد الأوروبي يستودر خمسة أضعاف وقت العمل ومساحة الأرض التي يصدرها، هنا تظهر مقاييس أخرى للتبادل غير النقود، لا يتم ذكرها كثيرًا.
إذًا لو حاولنا مقاربة تعريف مجرد لتراكم رأس المال سيكون على النحو التالي: تراكم رأس المال هو علاقة جدلية بين نوع من البنية التحتية التكنولوجية، وقدرة ونفوذ معنوي يسهل استغلال موارد أطراف أكثر هامشية.
هذا لا يعني أن هؤلاء المستغلين أشرار من وجهة نظر هورنبورج، فالإمبراطور في بيرو كان يظن نفسه نجل رب الشمس، وكان مصدقًا لذلك، كذلك دونالد ترامب بحسب هورنبورج ربما يكون مصدقًا لما يطرحه، وخبراء الاقتصاد مصدقين ومؤمنين بما يسوقوه تحت ظلال العلم.
الأمر بالنسبة لهورنبورج أكبر من تقسيم البشر إلى أخيار وأشرار، الأمر ينطوي على رؤية مدمرة للعالم على المدى البعيد، ولا يعني هذا بالضرورة أنها تتضمن قصدية التدمير والاستغلال.
علامات
editorial, استغلال نالتعمية, البيئة, الزراعة, المحاصيل, النظام العالمي, خطأ, كارل ماركس, ماركس, هورنبورج