حتى إذا انتزع الملك سلمان ما تبقى من جذور أخيه الراحل الملك عبد العزيز في القصر الملكيّ، وظن ولي العهد السعوديّ الشاب أنه مقاليد الأمور قد استقرت في راحتيه، وأخذت السلطة زخرفها وازيّنت، واعتقد المراقبون أن المعركة حُسِمت في الداخل بعد الإطاحة برؤوس أكابر المنافسين، طفا على السطح صراعٌ مكتوم بين الأمير محمد بن سلمان، والقبائل النافذة داخل صفوف الحرس الوطني، وصل صداه إلى نشرة «إنتليجنس أونلاين» في فرنسا، لدرجة مطالبة العاهل السعودي شخصيًا بالتدخل لنزع فتيل الأزمة قبل انفجارها.

لم يتوقّع كثيرون أن تواتي القبائل – التي لا تزال متنفذة في الحرس الوطني – الجرأة للاعتراض على سياسات ولي العهد ذي السلطات الكاسحة، بعدما رأوا رأي العين الرؤوس التي اقتطفها جهرًا أو سرًا، والأسماء اللامعة التي دفنها في غياهب النسيان، والتغييرات الهيكلية التي أشرف عليها داخل الهيئات الأمنية والعسكرية، بدءًا من إعفاء قائد القوات البرية، وإنشاء مركز الأمن الوطني في أبريل (نيسان) 2016، وليس انتهاءً بإعفاء قائد القوات البحرية، والإطاحة بالأمير متعب بن عبد الله من رئاسة الحرس الوطني، في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017.

وكان مقصودًا في ذلك الحين أن تتصدر الأوامر الملكية بمهاجمة «ضعاف النفوس الذين غلَّبوا مصالحهم الخاصة على المصلحة العامة»، وأن تشير إلى ما «قرره علماء الأمة من أن حرمة المال أعظم حرمة من المال الخاص، بل عدّوه من كبائر الذنوب»؛ حتى تكون الضربة لائقة بحجم الأمير متعب، آخر شخص كان يحتفظ بمنصب رفيع في هيكل السلطة السعودية من فرع أسرته، بعد إعفاء أخويه الأمير مشعل من إمارة مكة والأمير تركي من إمارة الرياض عام 2015. ثم جاءت الصفعة الأخيرة باحتجازه لأكثر من ثلاثة أسابيع في فندق «ريتز كارلتون»، وعدم الإفراج عنه إلا بعد تسويةٍ كبدته أكثر من مليار دولار، بحسب ما أعلنته وكالة «رويترز»، نقلل عن مصادر سعودية.

الولاء قبل الخبرة.. الحرس الوطني في قبضة مساعد ولي العهد

ربما كان مستساغًا أن يخلُف الأمير متعب، خريج «كلية ساندهيرست» العسكرية، شخصية ذات خبرة في شؤون الحرس الوطني، مثل: خالد بن عياف، الذي كان وكيلًا للحرس الوطني لشؤون الأفواج في عام 2007، وكان والده عبد العزيز بن محمد بن عياف، وكيل الحرس الوطني سابقًا، وأحد مؤسسيه إلى جانب الأمير عبد الله بن فيصل الفرحان آل سعود.

لكن ما لم يكن متوقعًا أن يذهب خالد بن عياف بعد عامٍ واحد، ويحل مكانه الأمير عبد الله بن بندر بن عبد العزيز، مواليد السابع من أغسطس (آب) 1986، والذي تنحصر خبراته في «الولاء» للعاهل السعودي وولي عهده؛ إذ سبق وأن عمل في ديوان ولي العهد (الملك سلمان فيما بعد) في عام شهر رجب 1433 هجريًا، والتحق بالديوان الملكي بعد تولي الملك سلمان مقاليد الحكم، وخدم في مكتب الأمير محمد بن سلمان عندما كان مستشارًا خاصًا لأمير منطقة الرياض.

يبدو للمتابعين أن فترة رئاسة خالد بن عياف للحرس الوطني، لم تكن إلا مرحلةً انتقالية تُمَهِّد لانتقال «السلطة التشغيلية» من أيدي رجال الملك الراحل عبد الله إلى أيدي رجال العاهل الحالي وولي عهده. إذ لم يكن من المنطقي آنذاك أن يحل مكان الأمير متعب على رأس القوة العسكرية التي تضم 100 ألف رجل، وتشارك في حرب اليمن منذ أبريل 2015، شخص يفتقر إلى الخبرة. مع الوضع في الاعتبار أن تداعيات اغتيال جمال خاشجقي عجَّلت ببعض هذه التغييرات، دعمًا لولي العهد في مواجهة الانتقادات الدولية، والتكتلات الداخلية.

والحق يُقال إن الأمير عبد الله بن بندر كان عميق التصالح مع نفسه، شديد الصراحة مع شعبه، حين أعرب في أول تصريحٍ رسمي عقب تعيينه رئيسًا للحرس الوطني في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2018، وبعد قرابة شهرين من تصاعد سخط القبائل، عن «اعتزازه بالعمل مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز في إمارة الرياض وديوان ولي العهد (سابقًا) والديوان الملكي، والاستفادة من توجيهاته؛ مما كان له الأثر بما حصل عليه من خبرات في عمله، وما اكتسبه من مهارات، كانت هي العون له بعد الله فيما كلف به من مهام، وستكون منارًا ومرشدًا له بعمله في وزارة الحرس الوطني».

وأكد في التصريح ذاته على أن «تجربته الوظيفية في إمارة منطقة مكة المكرمة وتوليه بعض الملفات التي كلفه بها ولي العهد ستسهم في تحقيق رغبة ولاة الأمر في تطوير وزارة الحرس الوطني مسترشدا بتوجيهات الأمير محمد بن سلمان ومقتفيًا أثره فيما تحقق على يده في برنامج تطوير وزارة الدفاع».

«قصقصة ريش» القبائل.. هدوء مؤقت حتى مرور العاصفة

يتكون الحرس الوطني من مقاتلين يمثلون القبائل المركزية؛ التي كانت موالية لعائلة آل سعود الحاكمة منذ تأسيس البلاد؛ وتتمتع باستقلالية كبيرة عن أجهزة الأمن السعودية لسنوات. لكن بعد صعود الملك سلمان، صدرت أوامر باعتقال عدد من شيوخ القبائل، وإجبارهم على اتباع الخط الذي رسمه ولي العهد، وحرمانهم من الامتيازات التي اكتسبوها تحت ظلال الحرس الوطني.

بيد أن الحملة التي تهدف إلى السيطرة الكاملة على الحرس الوطني؛ حتى لا يصبح مرتعًا لمعارضي ولي العهد، أثارت غضب قبائل كثيرة، منها: مطير، وعتيبة، وعنزة، وبنو عوف، وغامد، وبني هلال، وصلت شكواها إلى القصر الملكي؛ ما تطلب تدخل الملك سلمان شخصيًا لتهدئة التوتر؛ وهو خير من يعرف أن تأمين التوازن بين مختلف القبائل في المملكة هو أحد الضروريات الرئيسة لتوطيد أركان حكمه.

هنا وجد ولي العهد نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ؛ إذا أوقف حملته الرامية لـ«قصقصة ريش» أي منافس محتمل؛ فإنه يقوي خصومه ويضعف نفسه بيديه، وإذا لم يتراجع فإنه يخاطر بانفجار السخط القبلي ويتجاهل وساطة أبيه الملك. وكان عليه أن يختار في النهاية الهدوء مؤقتًا حتى تمر العاصفة، لكنه في قرارة نفسه لا يزال مصممًا على كبح جماح القبائل.

رأس الحربة.. اللواء الهويريني من بلاط ابن نايف إلى خدمة ابن سلمان

رأس الحربة في الحملة ضد القبائل، وأذرعها داخل الحرس الوطني، هو اللواء عبد العزيز بن محمد الهويريني، المدير العام للمباحث العامة، ورئيس جهاز أمن الدولة السعودي الذي أنشأه الملك سلمان في يوليو (تموز) 2017، وضم إليه المديرية العامة للمباحث، وقوات الأمن الخاصة، وقوات الطوارئ الخاصة، وطيران الأمن، والإدارة العامة للشؤون الفنية، ومركز المعلومات الوطني، وكل ما يتعلق بمكافحة الإرهاب وتمويله والتحريات المالية.

واختيار رجلِ أمنٍ مُخَضْرَم مثل الهويريني لهذه المهمة الحساسة ليس خطوة عشواء، بل «خطوة ذكية»؛ لأنه كان حلقة الوصل الرئيسة في تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الولايات المتحدة والسعودية، كما تقول صحيفة «نيويورك تايمز».

صحيحٌ أن الهويريني تولى هذه المهمة تحت قيادة ولي العهد ووزير الداخلية السابق الأمير محمد بن نايف، لكن إعراب «وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)» عن قلقها من أن إقالة الرجلين، واحتمالية أن تعرقل تبادل المعلومات الاستخباراتية مع المملكة؛ كان كافيًا على ما يبدو لإخراج الرجل من إقامته الجبرية في منزله، بعدما تعهد بالولاء لولي العهد الجديد.

الهويريني كان يتمتع بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة، وبالتحديد مع «مكتب التحقيقات الفيدرالي (F.B.I)» ولديه «شعبية» في أوساط الرجال العاملين معه، و«يدير شبكة كبيرة من الجواسيس المحليين في أنحاء المملكة»، حسبما يقول مسؤولون أمريكيون طلبوا عدم الكشف عن هويتهم، وأكدته صحيفة «عكاظ» عن غير قصد حين تحدثت عن معرفته الوثيقة بالإرهابيين، باعتباره «الرجل الذي حمل العصا وهز أوكارهم حتى جعلوه عدوهم الأكبر؛ إذ تخصص في مطاردتهم منذ أواخر التسعينات، خاصة بعدما استعر لهيب جرائمهم في الفترة من 2003 إلى 2007».

الانقلاب على التقاليد الملكية الراسخة تعني المخاطرة بالعرش!

تتتمع العديد من القبائل السعودية بنفوذ قوي، ولها كلمة مسموعة ليس فقط داخل المملكة، ولكن حتى خارج حدودها، مثل قبيلة مطير المنتشرة أيضًا في الكويت وقطر، وقبيلة شمر التي تمتد جذورها إلى سوريا والعراق، وإليها ينتمي خالد بن عياف، أول من تولى قيادة الحرس الوطني بعد الإطاحة بالأمير متعب.

Embed from Getty Images

الملك سلمان وولي العهد

لكن تركيز السلطة في أيدي الملك سلمان ونجله الشاب خلق شكلا جديدًا من أشكال الحكم لم تعتده المملكة، أدى إلى عزل كثيرين ليس فقط في قطاع الأعمال، ولكن أيضًا داخل الأسرة الحاكمة.

وكان تسليم وزارة الحرس الوطني لشخص صغير نسبيًا ولا يتمتع بالخبرة الكافية ويدين بمنصبه حصرًا للأمير محمد بن سلمان، بمثابة «انحراف صارخ عن قيمة الأقدمية التي لطالما احترمتها عائلة آل سعود».

ولأن الحرس الوطني يضم العديد من القبائل القوية، التي تعتبر مفتاح توازن القوى المحلية، واكتسبت نفوذًا متناميًا بموازاة صعود نجم الحرس الوطني؛ فإن تطبيق أي إصلاحات جذرية يمكن بسهولة أن يصطدم بهذه القوى القبلية النافذة.

ومع تجريد معظم أفراد العائلة المالكة من نفوذهم الذي كانوا يتمتعون به في السابق، وتصاعد الحملة ضد القبائل حتى وصولها إلى معقلهم الأقوى دالخل الحرس الوطني، تركزت الجهود المضادة المبذولة حتى الآن على الشخص الوحيد القادر على كبح الأمير محمد؛ والده الملك.

تسلط هذه المظالم المرفوعة إلى الديوان الملكي الضوء على رغبة ولي العهد في فرض طوق مُحكَم حول الملك، لغربلة الراغبين في المثول بين يديه. ورغم أن الملك سلمان كانت توكل إليه في الغالب مهمة «الحفاظ على النظام والتوافق بين أفراد العالة المالكة»»، لكن مَن كان أميرًا للرياض في ذلك الحين أصبح اليوم ملكًا، يجد نفسه في كثير من الأحايين مجبرًا على حشد التأييد خلف ولي عهده، مهما علا الموج وكثُرَت الأقاويل.

لكن الصراعات التي تشهدها المملكة اليوم ليست خلافات عائلية يمكن حلّها بمعسول الكلام، بل انقلاب على طريقة الحكم الجماعية، التي يرجع إليها الفضل في بقاء آل سعود طيلة هذا الوقت على رأس المملكة، قد يكلف ولي العهد عرشه الذي يسعى جاهدًا للحفاظ عليه.

فحين يصدر هذا التحذير من شخص خدم لمدة 21 عامًا في وكالة «سي آي إيه»، مثل روبرت باير، وتكرره مصادر أجنبية أخرى بدءًا من موقع «جلوبال ريسيرش» الكندي، وصولا إلى موقع «ديبكا» الإسرائيلي ؛ فإنه يكون جديرًا بالتأمُّل. ذلك أن الأمير محمد بن سلمان يدشن الآن نموذجًا غير مسبوق، بالانقلاب على التقاليد الراسخة، قد «يُستَخدَم ضده» مستقبلًا، بحسب المحللين.

إلى أي بر سيرسو الصراع بين الحرس الوطني وولي العهد؟

بعد أن تخلَّص الأمير محمد بن سلمان من أكبر عقبتين في طريق صعوده إلى عرش المملكة، بالإطاحة بولي العهد السابق محمد بن نايف والأمير متعب بن عبد الله، نصح سفير الهند السابق في طهران، شيرى سريفاستافا بمراقبة رد فعل الحرس الوطني، خاصة في ظل وجود «عداء تاريخي» مع السديريين الذين حاولوا عدة مرات إزاحة الملك عبد الله عن رئاسته، حتى وصل الصراع إلى ذروته في نهاية عهد الملك خالد، وبلغ حد وقوع اشتباكات بين الحرس الوطني والجيش السعودي في عام 1979.

Embed from Getty Images

الأمير متعب بن عبدالله

ينبع هذا الاهتمام الكبير بالحرس الوطني السعودي من الدور الذي يضطلع به في ظل المتغيرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتزايد مشاركة المملكة في حملات عسكرية وجهود سياسية إقليمية استباقية، إلى جانب الخلافات السياسية المعقدة التي تواجهها الدولة السعودية داخليًا وخارجيًا، حسبما يشير موقع «ستراتفور»، بالإضافة إلى موقع الحرس الوطني على خارطة السياسة القبلية السعودية، والدور المحوري الذي يلعبه على مستوى هيكل السلطة الملكيّة.

وما نصح به سفير الهند السابق في طهران، شيرى سريفاستافا، قبل عامين لا يزال مطلوبًا اليوم بعدما تجدد السخط في أوساط القبائل التي «تشكل العمود الفقري للحرس الوطني وتعتبر الدعامة الرئيسية للنظام في السعودية»، على حد وصف صحيفة  «نيزافيسيمايا غازيتا» الروسية.

والتحدي هنا مركب؛ فإذا كان الحرس الوطني هو الجهة الوحيدة الباقية التي تشكل تهديدا داخليًا لولي العهد، فإن العبث مع القبائل التي حرص كل قادة آل سعود السابقين بالحفاظ على علاقة طيبة معهم، ربما يُنذِر بـ«تمرد يفكك نسيج المملكة».

المصادر

تحميل المزيد