منذ انطلاق عاصفة الحزم العسكرية في اليمن من قبل قوات التحالف العربية بقيادة السعودية، انغمست كل وسائل الإعلام العربية والأجنبية الناطقة بالعربية خصوصًا – مؤيدة كانت أو معارضة – في تغطية إعلامية مكثفة لما تقول بأنه يحدث في اليمن، ولنتائج عمليات القصف في إضعاف الخصم، أو في قتل أبرياء عندما يتعلق الأمر بالإعلام المعارض للحملة العسكرية في الجهة المقابلة. وبالرغم من الفرق الشاسع في المعلومات والمعطيات بين الجهتين، فالكل يدافع عن نفسه بالقول إنه يؤدي وظيفته الطبيعية في حين أن الجهة الأخرى مضللة. فلماذا يا ترى؟
عندما تسأل أيا كان، عن وظيفة الإعلام، مواطنا عاديا، أو واحدا من صناعه – في العلن طبعًا – عن الوظيفة الأولى والأساسية للإعلام، سيخبرك أنها الإخبار وكشف وعرض الحقائق والمعطيات أمام الجمهور.
وبالرغم من الحديث المتواصل والدائم الذي عرفته السنوات العشر الأخيرة عن الأيادي الخفية وراء المؤسسات الإعلامية، لا تزال مختلف وسائل الإعلام وبالخصوص القنوات التلفزيونية تحقق نِسبًا كبيرة من التأثير وتوجيه الرأي العام، إن لم نقل صناعته ككل. في هذا الصدد، يذهب عدد من الخبراء في الدراسات الإعلامية إلى القول بأن وسائل الإعلام عادة ما تقوم بخداع المتلقين عبر إيهامهم بأنها تكشف لهم حقائق جديدة، وتغطي لهم أحداثًا تجري على أرض الواقع حقيقةً، بينما هي في الحقيقة تخفي وتحجب عنهم حقائق أخرى قد تكون أكثر أهمية وخطورة.
فماذا نقصد بلعبة الحجب والكشف الإعلامية؟
ترتكز هذه اللعبة على نظريتين شهيرتين في الدراسات الإعلامية هما: دوامة الصمت (Spiral Of Silence)، ونظرية وضع الأجندة (Agenda-setting Theory).
وعن ذلك يرى أساتذة إعلام أن نظرية دوامة الصمت وهي إحدى وسائل صناعة الرأي العام، تبين وجود دوائر صمت – أخبار مسقطة ومغفلة بشكل متعمد – تحدثها وسائل الإعلام في اهتمامها وتركيزها على قضايا معينة تشغل بها الرأي العام وتؤثر على اتجاهه على المدى البعيد، ويعرف هذا بالتأثير التراكمي من خلال التكرار. ولا تعدو أن تكون دوائر الصمت هذه حجبًا مقصودًا لواقع يعيشه في صمت بعضٌ من الأفراد والفئات الاجتماعية. ونجد كذلك نظرية ترتيب الأولويات أو وضع الأجندة، والتي تشير فروضها إلى حرص وسائل الإعلام على إبراز قضايا دون أخرى وجعلها في بؤرة اهتمام الجمهور مما يفسر أن وسائل الإعلام الجماهيري في متابعتها ومعالجتها للأحداث الجارية في المجتمع، إنما تكشف عن جانب معين من واقع الأحداث وتغفل بشكل مبني جوانب أخرى.
ما علاقة لعبة الكشف والحجب بعاصفة الحزم؟
أبانت عاصفة الحزم بقيادة السعودية منذ يومها الأول مثل عدد من الأحداث العربية؛ عن انقسام واستقطاب ثنائي على طرفي النقيض. الأول داعم وبقوة، فيما الآخر رافض وبشدة. وغاب عن الساحة أو ربما غيّب بشكل ممنهج كل رأي بين الاثنين.
وانبرت وسائل الإعلام من الجهتين في عكس هذا التناقض، مدافعة عن طرف ومهاجمة الطرف الآخر، في تناقض صارخ مع الوظائف الحقيقية المنوطة بها من نقل للأخبار والوقائع بشكل نزيه على الأقل، إن غابت الموضوعية واستحالت الحيادية. مبعدة في كثير من الأحيان الرأي الآخر، وإن أحضرته فبغرض التبخيس والاستهزاء والفضح ليس إلا.
ففي الوقت الذي ركزت فيه وسائل الإعلام الموالية على الدور الإيراني “الطائفي البغيض” المهدد لليمن، وعلى شيطنة حركة “أنصار الله” – الحوثيين -، وعلى ضرورة حماية الشرعية في اليمن وعودة الرئيس وهي أمور يمنية داخلية، شددت أيضًا على ضرورة حماية الحدود السعودية من خطر هؤلاء وبالتالي حماية أمن المنطقة الخليجية برمتها – وهي بهذا تعطي حجة للمواطن الخليجي الذي قد يرفض الحملة، إذ تخلق لديه خوفًا وترهيبًا -. وهي إذ تكشف كل هذا، تركز في تغطية الأحداث على أخبار تدمير الأسلحة ومخازن الذخائر، وقطع طرق الإمداد، ومنع زحف القوات الموالية وسيطرتها على المدن.
وتعرض علاوة على كل ذلك، ولتكتمل الصورة المنطقية والأخلاقية؛ صورًا لمظاهرات داعمة للتدخل العربي، ومقاطع لأحياء بعد أن غادرها الحوثيون وهي تعيش حالة من السلام الأهلي، وتنظيمًا شعبيًا للأهالي لأنفسهم بعد انعتاقهم من “المحتل” الحوثي، الذي قيد حريتهم وأذاقهم الجوع بحصارهم. وبهذا تكتمل صورة الكشف المكثف لدى المعسكر الموالي.
في المعسكر المعارض للحملة العسكرية والذي يسميها “عدوانًا” و”عاصفة للوهم”، يتم هدم كل ما بناه المعسكر الموالي، بالتركيز أولا على عدم أحقية التدخل العربي والسعودي في اليمن بدعوى أن الأزمة هي شأن يمني داخلي بحت، كما أن حرص السعودية على الشرعية أمر “مضحك” بدعوى أنها بلد غير ديمقراطي كباقي دول الخليج وتحكمه أسرة مستحوذة، وأن السعودية تعمل بازدواجية للخطاب بحيث تدعم انقلابًا على الشرعية في مصر مثلا وتدعي الدفاع عنها في اليمن. ولأنسنة وجهة النظر هذه، تركز على صور ضحايا الضربات الجوية بشكل مكثف، وما تخلفه من دمار وتدمير.
وتعرض صورًا ومداخلاتٍ لشهود يقولون بأن الضربات تستهدف حتى المدارس والمستشفيات والأحياء السكنية. وتقوم كمثيلاتها الموالية أيضًا بعرض مواد لمظاهرات معارضة للتدخل السعودي والعربي، ولمتضررين من الأحداث.
أين الحقيقة من كل هذا إذن؟
“الحقيقة خلف كل هذا” كما يقول المثل، أو علَّها بين هذا وذاك. وهي في كل الأحوال الغائب الأكبر عن تغطية الطرفين.
فكل طرف يكشف عددًا من الأحداث والآراء كي يحجب بشكل ممنهجٍ أحداثًا وآراءً أخرى، وهو الأمر ذاته الذي يقوم به الطرف الآخر، في تطبيق حرفي لنظرية دوامة الصمت وللعبة الكشف والحجب. فالحروب عمومًا لا تأتي إلا بالخراب، وهي الحل السهل والأخطر في الآن ذاته. وظيفة الإعلام إن اختزلت في نقل الوقائع، يجب أن تكون عرض الأحداث كاملة غير منقوصة، وفسح المجال لكل الآراء المتواجدة مؤيدة ومعارضة وما بينهما، لتترك المشاهد الذي تدعي خدمته وتنويره أن يحكم بشكل سليم على الأحداث دون تدخل أو توجيه. فهل يا ترى نحصل على ذلك يوما ما في وطننا العربي؟ ربما. لكن الأمر قد يبدو مستحيلا إذ علمنا أن هذا حال الإعلام في كل بقاع العالم، حتى في الدول التي تدعي الديمقراطية وحرية الإعلام!
علامات
أنصار الله, إعلام, التحالف السعودي, الحوثيون, اليمن, تغطية إعلامية, عاصفة الحزم, عربي, عسكري.