استطاعت برامج الذكاء الاصطناعي اقتحام حياتنا اليومية والسيطرة على جميع المجالات العلمية والطبية. فالوقت الذي نستغرقه في النوم أقل من الوقت الذي نقضيه على الأجهزة الرقمية، بل أصبحت حياتنا تدور في فلك تقنيات الذكاء الاصطناعي.
لكن مع ارتفاع عدد حالات الانتحار وانتشار الاضطرابات النفسية، هل تساعدنا برامج الذكاء الصناعي على تطوير مجال الرعاية النفسية والاهتمام بسلامنا النفسي؟
في هذا التقرير نناقش مستقبل الذكاء الاصطناعي في تأدية مهام المعالجين النفسيين، وهل ستتضاءل أهمية الأطباء النفسيين مستقبلًا؟
التزاوج بين الذكاء الاصطناعي والصحة النفسية!
تضاءل شعور المرضى النفسيين بالخزي من الذهاب إلى طبيب النفسي وطلب المساعدة خلال الحقبة الحالية، بفضل زيادة الوعي والاهتمام بالصحة النفسية. ومع ذلك أصبح الوصول لطبيب نفسي وتحديد موعد متعسرًا ومكلفًا في آن واحد مما أدى لعزوف البعض عن طلب المشورة النفسية، فماذا لو استطعنا توفير طبيب نفسي في المنزل؟
استطاعت جامعة كاليفورنيا تطوير تطبيق يعتمد على المحادثات النصية، يساعد الطلاب على الاهتمام بحالتهم النفسية، لكن مع توفر هذه التطبيقات والآلات هل ستتغير حياتنا؟
يمكن القول: إن دمج الصحة النفسية بتطبيقات الذكاء الاصطناعي سيصب في مصلحة البشر، إذ يمكن تقليص الأخطاء البشرية، والتنبؤ بحالات الانتحار، والسلوكيات الإدمانية.
سيسهل الإبلاغ عن المشاكل الخطيرة المتوقعة، وسيتمكن الهاتف الذكي من تحديد ما إن كنت معرضًا للإصابة بالاكتئاب، سواء بتحليل لغتك، أو عدد مرات خروجك من المنزل، وسيتلقى المريض الدعم بصورة متواصلة، حيث تستطيع هذه الآليات تتبع حالتك المزاجية وتحسينها، بل يمكنك تلقي الرعاية النفسية أينما كنت.
تقنيات الذكاء الاصطناعي تطور مهارتها!
سعت جامعة هلسنكي لابتكار نظام قادر على تخيل ما تفكر به، فقد استخدم العلماء الشبكة العصبونية التوليدية – ابتكار جديد للذكاء الاصطناعي يستخدم للتدريب على التعلم العميق – وهي عبارة عن شبكتين إلكترونيتين، إحداهما توليدية تعمل على إنشاء بيانات جديدة والأخرى تمييزية تعمل على اكتشاف ما إن كانت البيانات حقيقية أم أصلية. وتسمى هذه التقنية باسم «النمذجة العصبية التكيفية التوليدية».
صورة تشبه الشبكة العصبونية التوليدية بالشبكة العصبية
أجرت الجامعة دراسة على 31 مشتركًا، طُلب منهم النظر إلى عينات عشوائية من الصور، والتركيز على ملامح التعبيرية للوجوه، مثلًا صورة شخص مبتسم وآخرى لرجل عابس، صورة رجل عجوز وأخرى لشاب، أنثى وذكر. ثم تسجيل إشاراتهم الدماغية وإرسالها إلى حاسوب مزود بشبكة عصبونية توليدية، تحلل إشارته الدماغية لاستكشاف نواياه الداخلية.
وكانت النتائج أن الحاسوب استطاع ترجمة إشاراتهم الدماغية على هيئة صور تكشف فيم يفكر المتطوع، وقد صرح الباحثون الذين صنعوا التقنية «أكدت تجربتنا أن النمذجة العصبية التكيفية التوليدية استطاعت إنشاء بيانات جديدة تتماشى مع نوايا البشر وأفكارهم».
وكي لا يجرفنا الخيال بعيدًا، فإن التقنية لا تعني قراءة الأفكار، لكنها قادرة على تحليل آليات التفكير وأنماطه. يمكنها مثلًا تحديد أن المتطوع يفكر في شخص عابس، لكنها لا تستطيع التعرف على هويته أو أي شيء يخصه. وهذه قفزة ايجابية لمستقبل علم النفس التجريبي. إذ يمكننا تحليل آليات التفكير المرضى النفسيين والسعي لمدواتهم.
لم تكتف الأبحاث على واجهة الدماغ والحاسوب عند هذا الحد، إذ تمكنت جامعة كاليفورنيا من استخدام الذكاء الصناعي في ترجمة أفكار المرضى إلى كلمات، عن طريق ترجمة حركات أعينهم وانقباض عضلاتهم، وإشارتهم الدماغية.
والتكنولوجيا تحسن سلوكياتنا
إذ كان بإمكان الذكاء الاصطناعي تحليل أنماط تفكيرنا وتحويل أفكارنا إلى كلمات، فهل سيساعدنا ذلك على تغيير سلوكياتنا السلبية إلى سلوكيات حميدة؟
هذا بالظبط ما ناقشته الفيلسوفة شانون فالور، والتي تدرس أخلاقيات الذكاء الاصطناعي بجامعة سانتا كارلا بكاليفورنيا، إذ صرحت أن بالرغم من سلبيات الذكاء الاصطناعي وترشيحات «يوتيوب» المتطرفة، وإدمان الأجهزة الرقمية والألعاب الالكترونية، التي تحد التقنية من تطرفها قليلًا إما بغلق الشاشة بعد العمل لفترات طويلة، أو بحظر المحتوى الضار، فإن ضررها لم يزل يفوق نفعها.
لكن ماذا لو استطعنا دمج شخصية فريد روجر – مقدم برامج تلفزيونية مخصصة للأطفال – مع تقنيات الذكاء الاصطناعي كي نستطيع التغيير إلى الشخص الذي نتمنى أن نكون عليه؟
عقب الباحث الاجتماعي نيكولاس كريستاكيس على حديث فالور بأن تقنيات الذكاء الاصطناعي لديها القدرة على مساعدتنا على حل الألغاز التي تحتاج إلى المشاركة، علاوة على ذلك أظهرت الأبحاث أن تقنيات الذكاء الاصطناعي حلت مشكلة الاحتقان المروري في محاكاة مشابهة للحقيقة وبإمكانها حلها عند تطبيقها في الواقع، بالإضافة إلى قدرتها على حظر التعليقات العنيفة والعنصرية التي تسيء للآخرين على مواقع التواصل الاجتماعي.
انسان آلي يرقص مع الأطفال ويحكي لهم قصصا
ولا يمكن تناسي دور التطبيقات التي تساعد على تطوير حياتنا وتغيير عاداتنا والتطبيقات العلاجية المخصصة للاهتمام بصحتنا النفسية. أو دور الروبوتات الاجتماعية في مساعدة الأطفال المصابين بالتوحد والاضطرابات النفسية على التأقلم مع الآخرين.
والذكاء الاصطناعي يطور قدرتنا على تشخيص الأمراض النفسية
هذا المحور بالتحديد هو مربط الفرس بالنسبة لتقنية الذكاء الاصطناعي، فهل لديها الكفاءة على تشخيص الأمراض النفسية؟
الأمراض النفسية معقدة، ويكمن التعقيد في صعوبة فك شفرات الدماغ البشري وغموض الأعراض النفسية وتداخلها، على غرار الأمراض الجسدية التي يسهل التعرف على أعراضها وتوافر التحاليل اللازمة لتشخيص المرض.
لذا استعان الباحثون بالخوارزميات لتحليل البيانات الطبية إلى أنماط مترابطة وثابتة بحيث يسهل الاعتماد عليها في تشخيص الأمراض النفسية، وتشخيص الاضطرابات النفسية كالقلق والاكتئاب تشخيصًا دقيقًا.
أجرت الباحثة جريزنوز ومساعديها على 497 مشتركًا، 248 منهم مصاب بالاكتئاب الحاد واضطراب ما بعد الصدمة ونوبات القلق، 249 لم يتم تشخيصهم.
قيم الباحثون المرضى على أساس مقياس هاملتون للاكتئاب، ومقياس المزج، والتوتر وتقدير الذات، واستخدام بطارية عصبية معرفية لاختبار الوظائف الإدراكية ومخطط كهربية الدماغ لتسجيل إشارات الدماغ.
الذكاء الاصطناعي يحاول التعرف على الوجه
ثم أجريت التجربة للمرة الثانية على 381مشتركًا، اظهار نتائج دقيقة. ثم حللوا البيانات بتحليل المكون الرئيس، ثم تحليل _ غير خاضع للإشراف _ بواسطة التعليم الآلى دون الحاجة لإدخال بيانات، بل تحديد المجموعات المهمة المستقلة داخل البيانات.
أظهرت النتائج أن 71.2% من المشتركين ظهرت عليهم الأعراض التالية: فقدان الإحساس باللذة، القلق الشديد، التوتر، أي أن تقنية الذكاء الاصطناعي أسفرت عن ست مجموعات مستقلة لتشخيص الاكتئاب وهي الحالة المزاجية، والقلق الشديد، والقلق العام، والتوتر، وفقدان اللذة، والسوداوية.
وقد أضاءت هذه الدراسة الطريق نحو فهم الأعراض الأساسية للأمراض النفسية وتشخيص الأعراض المتداخلة تشخيصًا دقيقًا، وبالتالي القدرة على وصف العلاج المناسب.
في الوقت نفسه طور الباحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا نظامًا يمكنه التنبؤ بالمرضى المصابين بالاكتئاب من خلال تحليل المحادثات النصية والمقاطع الصوتية. إذ زودوا الجهاز بمجموعة بيانات جمعت خلال 142 مقابلة مسجلة مع المرضى، وتعتبر هذه الخطوة بالغة الأهمية في مجال الصحة النفسية، إذ يمكن حماية العديد من الأشخاص الذي يسعى الاكتئاب لالتهام رواحهم.
ولكن.. هل يمكن أن نستبدل بالأطباء والمعالجين النفسيين الروبوتات؟
الذكاء الاصطناعى سريع التعلم والتطور بمعدل يفوق قدرة البشر على التعلم والتطور، ومع كل الميزات التي يتمتع بها هل يمكن أن نصل إلى اليوم الذي نستغني عن الأطباء النفسيين تمامًا، وتحتل الروبوتات مجال الصحة النفسية؟
استغلت شبكة التواصل سيرمو وجامعة هارفارد هذه المخاوف ثم أجرت استطلاعا على مستوى العالم، على 791 طبيبًا نفسيًا من 22 دولة مختلفة. لتحديد هل سيحل الذكاء الاصطناعي محل الأطباء النفسيين، ولن تقتصر خدماتهم على المساعدة؟
أظهرت النتائج أن 17% من المشاركين قلقوا من أن تحل التقنيات محلهم في التعاطف مع المرضى، و4% منهم اعتقدوا أن الذكاء الاصطناعي سيحل محل البشر.
بينما أجمعت الأغلبية الساحقة 76% منهم على صعوبة استبدال الآلة بالأطباء لأداء مهامهم، فهناك مهام لم تزل تعجز أمامها الآلة كتقييم الحالة العقلية للمريض، وتقييم إمكانية العنف وتحديد حاجة المريض للذهاب إلى المشفى. كما أكد 75% من المتطوعين أن التقنية ستساعد على توفير وثائق المرضى لتحديث سجلاتهم الطبية، و54% منهم توقعوا أن تساعد في تجميع المعلومات الكافية لتشخيص المريض.
محاكاة بين الدماغ البشري والذكاء الاصطناعي
وبالتدرج لتلك النقطة لم لا نستطيع استبدال الآلة بالأطباء النفسيين؟
يجيب المؤلف بيروتالان ميسكو في مجلة «المستقبل الطبي» عن هذا السؤال في خمس نقاط هامة:
1- يصعب محاكاة التعاطف البشري، فمهما تطورت قدرة الآلة على محاكاة التعاطف، لن تتمكن القيام به مثلما يفعل الطبيب النفسي.
2- لا يعمل البشر كالآلة بطريقة خطية، فالطبيب النفسي لديه المهارة والبراعة للتوصل إلى تشخيص دقيق دون حاجة البيانات والخوارزميات.
3- تحتاج التقنيات الرقمية المعقدة إلى مهنيين أكفاء، الآلة لا يمكنها حل الحالات المعقدة دون إشراف الأطباء المتميزين.
4- لن تتمكن الخوارزميات من قضاء كل المهام المكلفة بها، ستظل بعض الواجبات والمسئوليات لغزًا بالنسبة للآلة.
5- لم يأت الإنسان بمثيل له؛ لأنه متفرد بكينونته وسماته.
وللتخلص من هذا الإشكال صرح الدكتور مورالي أننا يجب علينا التوقف عن تحويل الصراع بين الذكاء الاصطناعي والبشر إلى ساحة حرب، ونركز على كيفية الاعتماد في مساعدة الأطباء على تقديم رعاية أفضل، وتحسين مستقبل الصحة النفسية.