نسمع اسمه كثيرًا في القصص القديمة والأفلام السينمائية، يستطيع فعل كل شيء تقريبًا، رجل كبير أشيب يستطيع التحول لشاب جذاب مفتول العضلات، أو أنثى رائعة الجمال، ويمكنه إلقاء التعاويذ، ومحاربة الأشرار، وإنقاذ الضعفاء، يستطيع تحريك الحجارة العملاقة عن طريق الهواء، شرير وطيب في الوقت ذاته؛ والده شيطان وأمه راهبة.
كان صديقًا مقربًا لملوك بريطانيا، والعنصر الفاعل في قصة أسطورة الملك آرثر الكلاسيكية، وحاميه وناصحه الأمين، ومدبر حادثة السيف الأسطوري، تتصارع دول أوروبا على الفوز به (بريطانيا وأيرلندا وويلز)، وتنتشر حوله الخرافات والأساطير، يعتقد البعض أنه وهم ومجرد أسطورة خلقها صاحب القصة، ويراه البعض ساحرًا عظيمًا مرتبطًا بتاريخ أوروبا. إنه الساحر ميرلين، أو ساحر العصور الوسطى الأبيض، الذي سنعرف تاريخ قصته في السطور القادمة.
الساحر الأسطوري الذي وُلِد من شيطان وراهبة!
عرف العالم اسم الساحر ميرلين لأول مرة عام 1137 ميلاديًّا في كتاب «تاريخ ملوك بريطانيا»، لرجل الدين المسيحي جيفري أوف مونماوث، ووفقًا لجيفري فقد ولد الساحر ميرلين لأم راهبة وشيطان في القرن الخامس تقريبًا. هذا التناقض الصارخ بين والديه سيصبح سر أسطورته ومعجزاته وتناقضه هو أيضًا وظهوره بصفات بعضها عكس بعض، فمن الطفل النبي الذي يتنبأ بالمستقبل، إلى الساحر الفارس المحارب، والمجنون المنعزل العاشق للطبيعة والمتحكم بها، والقديس المسيحي، والشيطان الدموي!
بدأت أولى معجزات الساحر ميرلين وعلاقاته بملوك بريطانيا وويلز وإسكتلندا وأيرلندا حين كان طفلًا صغيرًا، فقد كانت تلك الأراضي متقاطعة ومتداخلة وعكس ما تبدو عليه دولًا منفصلة اليوم، ووفقًا لجيفري كانت البشارة الأولى مع ملك بريطانيا، فورتيجرن، في القرن السادس الميلادي، فبعد أن هُزم الملك لصالح قبائل السكسونيين، فر إلى ويلز وهناك قرر بناء حصن يعيش فيه، وكلما بنى جزءًا من الجدار الأول، انهار في اليوم التالي، وبعد محاولات عديدة جاء له الصبي الصغير ميرلين، وقال له السبب الحقيقي وراء سقوط الجدار.
أخبر الساحر ميرلين الملك فورتيجرن سببين لانهيار الجدار، الأول أنه لم يكن يبنى على أساس متين من الأرض الصلبة، فهناك بركة من المياه تحت الجدار يجب التخلص منها أولًا، والثاني أن تحت البركة تنينين نائمين، أحدهما تنين أحمر والآخر أبيض، ويقاتلا بعضهما بعضًا منذ أن حوصرا تحت الأرض، وهو سبب آخر لانهيار الجدران بشكل دائم، في النهاية نجحوا في طرد الماء والتنينين وبناء الحصن، وهكذا بدأت أسطورة الساحر ميرلين.
بعد وفاة الملك فورتيجرن، تولى الحكم الملك أوريليوس أمبروسيوس، وعمل لديه ميرلين مستشارًا أمينًا كسابقه، وقد نصح ميرلين الملك أوريليوس بإحضار الأحجار الزرقاء الكبيرة من جبل كلاروس في أيرلندا، وإقامة دائرة من الحجارة المعروفة باسم خاتم العملاق أو نصب ستونهنج في مدينة سالزبوري إنجلترا، وحرك ميرلين نفسه الحجر عبر الهواء عن طريق السحر، وهنا ظهر ميرلين لأول مرة على أنه ساحر.
ووفقًا لكتاب «تاريخ ملوك بريطاني»، ففي إحدى الليالي رأى الأمير أوثر ومعه ميرلين مذنبًا في السماء، وقد تسبب ذيله في إضاءة السماء على شكل تنين، فأبلغ ميرلين آرثر أن شقيقه أوريليوس قد مات نتيجة السم، وأن أوثر أصبح الآن ملكا، ومن هنا صار التنين رمزًا لملكية أوثر، وأعطى ميرلين الملك الجديد لقب «أوثر بندراغون» وعمل لديه مستشارًا وساحرًا وساعده في عدة حروب.
الساحر ميرلين: مستشار أربعة ملوك بريطانيين
ذكر جيفري في كتابه تاريخ ملوك بريطانيا، أن ميرلين ساعد ثلاثة ملوك بريطانيين، عمل لديهم مستشارًا وناصحًا أمينًا، وسخَّر لهم السحر من أجل تنفيذ رغباتهم وحمايتهم، وخوض الحروب بدلًا منهم، وآخرهم كان الملك أوثر، وهو والد الملك آرثر صاحب أسطورة السيف الكلاسيكية، وقد بدأ ميرلين في الانخراط بقصة الملك آرثر وفقًا لجيفري، حين ساعد والده أوثر عن طريق السحر في الزواج ممن يحب، وانتهت علاقة الساحر ميرلين بالملك أوثر الأب، بعد تنبؤه بأن البريطانيين سيهزمون السكسونيين على يد ملك اسمه آرثر سيُخرج سيفًا متحجرًا لم يستطيع أحد تحريكه من قبل، من داخل صخرة عملاقة.
الملك آرثر وأسطورة السيف في الحجر
وهكذا ولدت أسطورة الملك آرثر والسيف الكلاسيكية، ولم يذكر جيفري أوف مونماوث في كتابه «تاريخ ملوك بريطانيا»، أن ميرلين عاصر الملك آرثر الابن بأي شكل، وأنه فقط تنبأ به وساعد والده الملك أوثر، لكن جيفري لم يكتف من سيرة ميرلين، فأصدر في عام 1150 أصدر كتابًا آخر بعنوان «حياة ميرلين»، يشرح فيه جانبًا آخر من حياة الساحر ميرلين، وهو كيف عانى من الحروب والنزاعات وسفك الدماء، وتحول إلى كائن متوحش ومتعطش للدماء، وفي النهاية أصبح مجنونًا، فانعزل في غابة بعيدة وهناك اكتسب قدرة السحر والتحكم في الطبيعة والتواصل مع الحيوانات والكائنات الحية، ومن ثم استطاع التحكم في طبيعته الشريرة.
جاء من بعد جيفري أوف مونماوث، الكاتب الفرنسي روبرت دي بورون، والذي بدأ توثيق تاريخ الساحر ميرلين مع الملك آرثر وكتابته بالاعتماد على كتابات جيفري القديمة مع تقديم نظرته إلى الأمور، فدوَّن روبرت طريقة تربية الساحر ميرلين للملك الصغير آرثر، وكيف ساعده على إخراج السيف وتولي العرش، ومارس سحره في الحروب من أجل أن يستعيد آرثر مملكته الضائعة، وكيف نصحه بتأسيس فرسان المائدة المستديرة، وغيرها من الأمور.
دُونت كل القصص عن آرثر وميرلين في مجموعة من الكتب، وتجدر الإشارة إلى أن روبرت دي بورون، هو من أضاف البعد المسيحي إلى شخصية ميرلين، وهو من جعله راهب الكأس المقدسة، إلى جانب شخصية الساحر والمستشار والمعالج التي صبغها عليه جيفري أوف مونماوث، ولاحقًا أضاف العديد من الكتاب قصصًا كثيرة وتطورات أخرى لجوانب شخصية ميرلين، وفقًا لروح كل عصر.
الساحر الأبيض: هل هو أسطورة أم شخص حقيقي؟
تثير شخصية ميرلين العديد من الجدل حول فكرة وجوده من عدمه، يري البعض أنه أسطورة وخيال وقصص شعبية، ويري البعض مثل جيفري وروبرت وغيرهم أنه حقيقة، فيما يرى آخرون أنه شخص حقيقي ولد وعاش على هذه الأرض لكنه ليس ساحرًا ولا يملك قدرات خاصة، بل هو مجرد شخص ذكي استطاع التأثير فيمن حوله.
يعتمد أصحاب نظرية أن ميرلين شخصية حقيقية وليس أسطورة أو خيالًا على كتابات جيفري وروبرت من القرن الحادي عشر والثاني عشر، ويعتقد أصحاب فكرة عدم وجوده من الأساس على عنصر الوقت، فقد وثَّق التاريخ قصصًا تعود للقرن السادس والقرن التاسع من ويلز وأسكتلندا تشبه إلى حد كبير قصص جيفري وروبرت عن ميرلين وملوك بريطانيا والملك آرثر، مع تغيير الأسماء وبعض الأحداث والأماكن والأوصاف لتتوافق مع ملوك بريطانيا وعصرهم.
ويرجح أصحاب نظرية عدم وجود ميرلين، أن الساحر الأبيض مجرد شخصية وهمية ابتكرها رجل الدين جيفري أوف مونماوث، كي يحكي سيرة ملوك بريطانيا وينجح في التقرب منهم وحصد الجوائز، خاصة بعد أن أحبها العامة وأصبحت قصصًا شعبية.
ويرى البعض أن ميرلين، قد يكون شخصية حقيقية لكنه دون قدرات خارقة أو سحرية، بل مجرد شخص ذكي أو شجاع، أو ربما محارب قوي نجح في شق طريقه السياسي، وتدعم تلك النظرية مجموعة من الكتابات الفرنسية من القرن الثاني عشر، عُرفت بـ«كتابات فولجت»، والتي وثقت رحلة صعود مستشار يدعى ميرلين بجانب الملك آرثر، وعن سيرته بصفته محاربًا لم يلبث أن أصبح مستشارًا للملك، وهو ما يتناقض مع كتابات جيفري وروبرت، وأنت يا عزيزي القارئ، هل ترى شخصية ميرلين الساحر الأسطوري حقيقة أم خيالًا؟