تعكف إسرائيل دائمًا على ترتيب أوراقها الخارجية، استباقًا لتغيرُّاتٍ دولية وإقليمية تشهدها دول العالم، وخاصة تلك الدول التي تعنى بها، وتستفيد منها سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو عسكريًّا. فيما يتعلّق بالعلاقة بالهند، التي يزور الآن رئيس حكومتها إسرائيل في أوَّل زيارة رسمية، حققت إسرائيل نجاحاتٍ واختراقاتٍ ذات مغزى تاريخي واستراتيجي، تدلِّلُ عليها الأرقام الخاصة بتجارة السلاح، والنشاط الاقتصادي، وحتى العلمي والاجتماعي، ذلك النجاح الذي جاء سلبًا على الدعم الهندي المعتاد للقضية الفلسطينية.

«مودي» يعود بشوق لرؤية التقدُّم الإسرائيلي!

«يسرُّني العودة بعد عشر سنوات، وأنتظر بفارغ الصبر رؤية كيف تقدمت إسرائيل وتطورت منذ ذلك الوقت. أنا شريكٌ في آراء الكثير من أبناء شعبي الذين يعتبرون إسرائيل منارةً في التكنولوجيا، باعتبارها دولة نجحت في البقاء رغم أنَّ الفرص كلها كانت ضدها»، جزء مما قاله «ناريندرا مودي» عن زيارته الأولى لإسرائيل بصفته رئيسًا للحكومة الهندية أمس، والتي اعتبرتها إسرائيل «زيارة تاريخية»، فقد عاد مودي بشوقٍ كبير لهذا المكان الذي زاره عام 2006 عندما كان رئيس حكومة إقليم كوجارات الهندي، إذ ما يزال الرجل يذكر معالم بيت «بن غوريون» الذي قاله عنه: «لقد أدهشني البيت المتواضع الذي كان يعيش فيه بن غوريون، وكانت دهشتي أعظم حين رأيت صورة غاندي إلى جوار سريره، فهو بهذا يقول إنَّه كان يسير على خطى غاندي، ومنذ تلك اللحظة شعرت بقربٍ هائل من أعماقي نحو إسرائيل».

رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، والرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين. (المصدر: رويترز)

فرغم إقامة علاقات دبلوماسية بين الهند وإسرائيل قبل نحو 70 عامًا، إلا أنّ مودي هو رئيس الوزراء الهندي الذي انتهج سياسةً مكشوفةً في التقارب مع إسرائيل منذ تولِّى مهامه في أبريل (نيسان) عام 2014، ومقابل الحنين الذي يبديه مودي، تركز إسرائيل أكثر على ما ستجنيه من هذه الزيارة، فـ«هذه الزيارة ستعزز العلاقات المتينة بين البلدين في عددٍ من المجالات الأمنية والزراعية والمياه والطاقة»، كما قال رئيس الحكومة الاسرائيلية، بنيامين نتانياهو. يقول مدير مركز بيغن– السادات للدراسات الاستراتيجية سابقًا «أفرايم إنبار» عن هذه الزيارة: «الأمر أكثر من عقود دفاعية، الأمر يتعلق ببرنامج استراتيجي مشترك يشمل الخوف من التطرف الإسلامي، ومخاوف من اتساع الحضور الصيني، وبالإضافة إلى ذلك، بالطبع لا يمكن تجاهل الإمكانات الاقتصادية الضخمة لكلا البلدين».

الموقف الهندي.. يتحوَّل نحو الأفضل تجاه إسرائيل

شهدت السنوات الأخيرة تحولًا كبيرًا في موقف الهند تجاه القضية الفلسطينية، فالدولة الأولى غير العربية التي تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتدعم حق الفلسطينيين في دولة مستقلة، وتندد بالممارسات والسياسات الإسرائيلية، غيرت سياستها المؤيدة للقضية الفلسطينية بشكلٍ واضح منذ انتخاب مودي رئيسًا للحكومة.

الرئيس الفلسطيني ورئيس الوزراء الهندي

يُرجع المتابعون تغيُّر نهج السياسية الهندية في مجال العلاقات الخارجية إلى تطلُّعها لأن تكون إحدى الدول القوية اقتصاديًّا في العالم، لقد توقَّفت الهند عن التصويت التلقائي ضد إسرائيل في الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، ففي عام 2015 امتنعت عن التصويت على التقرير الأممي الخاص باستنتاجات لجنة التحقيق في حملة «الجرف الصامد» الإسرائيلية على قطاع غزة، متحوِّلة بذلك من التصويت لصالح القرارات التي تخدم المواقف الفلسطينية ضد إسرائيل إلى الامتناع لأول مرة عن التصويت ضد إسرائيل.

بل لقد «أصبحت الأمم المتحدة الحلبة الأكثر إثارة لاختبار التغيرات في العلاقات الخارجية الهندية، إذ إن الهند لم تندد بالعمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، وتغير التعبير عن دعمها للسلطة الفلسطينية تغيرًا تدريجيًّا»، كما جاء في دراسة صدرت عن «معهد أبحاث الأمن القومي» في جامعة تل أبيب، فقد تعمد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، تعزيز التقارب السياسي بين الهند وإسرائيل بغية تحصيل دعمٍ هنديّ للمواقف الإسرائيلية العامة، ووقف نسق التصويت المناهض لإسرائيل في المحافل الدولية، وقد أكدت الدراسة السابقة التي قامت حول دراسة «العلاقات الإسرائيلية– الهندية: مفاهيم وتوقعات»، أنّ: «صعود مودي إلى الحكم كان مؤشرًا إلى تغيُّر السياسة الهندية للأفضل تجاه إسرائيل، وللأسوأ تجاه الفلسطينيين»، وتشير الدراسة إلى أنه رغم أنّ «القضية الفلسطينية ما زالت تحظى بتأييدٍ شعبيٍّ في الهند، التي تشكل مؤخرًا أرضًا خصبة لنشاط BDS في شبه القارة»، إلا أن «صعود مودي إلى الحكم عام 2014 شكَّلَ نقطة تحول مهمة لتغير تاريخي في الهند، وكذلك لتغيرات في علاقات الهند، والسلطة الفلسطينية».

«أخوّة السلاح».. الهند تنهل من الصناعات العسكرية الإسرائيلية

وصل تقدير العلاقة في المجال العسكري بين الهند، وإسرائيل إلى حد وصفها بـ «أخوّة السلاح»، إذ تتحدث وسائل الإعلام الإسرائيلية الآن عن مطامع كبيرة في زيارة رئيس الحكومة الهندي مودي، يتمخض عنها صفقات ضخمة لبيع السلاح الإسرائيلي إلى الهند.

صادرات الأسلحة الإسرائيلية للهند. (المصدر: أ.ف.ب)

وبالعودة لأرقام نشرتها وزارة الدفاع الإسرائيلية مؤخرًا، يتضح أن حجم صادرات الأسلحة والعتاد الأمني الإسرائيلي بلغ 6.5 مليارات دولار خلال عام 2016، هذه الصادرات المُوجهة بشكل رئيس إلى آسيا، تحتل فيها الهند مرتبة أكبر المستوردين للصناعات العسكرية الإسرائيلية، كالصناعات الجوية، من صواريخ لمقاتلات وطائرات بدون طيار.

وعند رصد المبيعات الإسرائيلية إلى الهند بين الأعوام 2002 و2005، المقدرة بخمسة مليارات دولار، يظهر أن الهند أصبحت منذ عام 2014، السوق الكبرى للسلاح الإسرائيلي، فحسب المعطيات الرسمية الإسرائيلية عقدت الهند وإسرائيل خلال 2016، صفقات بلغ حجمها الإجمالي 6.5 مليارات دولار، مسجلة بذلك ارتفاع بنسبة 14% مقارنة بعام 2015، بل كانت الصفقة الأمنية الأكبر في تاريخ إسرائيل من نصيب الهند، كانت تلك الصفقة في أبريل (نيسان) الماضي، واقتضت حصول الهند على كل مركبات منظومة (MRSAM)، أحد نماذج المنظومة الدفاعية (براك 8)، كما حصلت على صورايخ ومنصات إطلاقها، ومنظومات تحكم ومراقبة، ومنظومات كاشوف (رادار)، كذلك سجلت صفقة كبيرة وقّعتها الصناعات الجوية العسكرية الإسرائيلية في مايو (أيار) الماضي بقيمة 630 مليون دولار، وتتضمَّن تزويد سلاح البحر الهندي بمنظومات دفاع جوية من طراز (باراك 8).
وقد نجحت إسرائيل في منافسة الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا، وسحب سبع صفقات عسكرية من أصل 37 صفقة أمنية وقّعتها الهند مع دولٍ أجنبية، لتصبح إسرائيل رابع أكبر مزود سلاح للهند، فإحدى غايات التصدير الكبرى لإسرائيل، تتعلق بالمقتنيات العسكرية، وتؤكد تقارير دولية أن إجمالي واردات السلاح الهندي في النصف الأول من العقد الجاري شكلت 10% من إجمالي واردات العالم، إذ تعدُّ روسيا وبريطانيا وإسرائيل المورد الرئيسي للسلاح للهندي، يقول الباحث في الشئون الإسرائيلية، أنطوان شلحت: «لئن كانت هذه التطورات مرتبطةً بتغيرات أيديولوجية وسياسية حدثت وتحدث في الهند، فإن ارتفاع حجم مبيعات الأسلحة الإسرائيلية في العالم، يبقى ذا صلة بـ(توجّه تجاريّ) أيضًا يعتمد على تسويق هذه الأسلحة بأنها ناجعة وذات (رصيد وتجربة مثبتة)، من طريق الاستناد إلى أن إسرائيل دولة حروب وعمليات عسكرية بامتياز على مرّ تاريخها كله».

طائرات إسرائيلية. (المصدر: أ ف ب)

أمَّا في المجال الأمني، الذي يوصف بالقوي بين البلدين، فقد عززت إسرائيل علاقاتها الأمنية مع الهند، في السنوات الأخيرة، على اعتبار أن «الإرهاب» يشكل إحدى القضايا المركزية المشتركة بينهما، فعقب الهجوم الذي تعرّضت له مدينة بومباي عام 2008 لجأت الهند إلى إسرائيل، ليتمّ الانتقال من مرحلة التجارة العسكرية أحادية الاتجاه إلى مرحلة المشاريع المشتركة لتطوير أسلحة دفاعية وهجومية، وقد قال رئيس حكومة الهند أمس: إنّ «الإرهاب هو جنون عالمي، والهند وإسرائيل ليستا حصينتين أمامه، يُمنع السماح للناس الذين يريدون تنفيذ عمليات عنف ضد الأبرياء، بالنمو، والهند وإسرائيل تنظران إلى الأمر بالمنظار نفسه. يمكنهما توثيق التعاون بينهما بشكلٍ أكبر وإكمال بعضهما البعض في هذا الموضوع».

وتعترف إسرائيل بأنّ الصفقات مع الهند أسهمت بشكلٍ كبير أيضًا في تمويل برامج التطوير والأبحاث في مجمّعات الصناعة العسكرية والجوية بهدف إنتاج المزيد من الأسلحة بهدف زيادة التصدير، فحسب صحيفة «ميكور ريشون» اليمينية العبرية: «منظومات السلاح التي يتم تطويرها لأول مرة تذهب أولًا لاستخدام الجيش الإسرائيلي فقط بهدف ضمان تفوقه، وبعد مضي الوقت يسمح بتصديرها لدول ترتبط بعلاقات استراتيجية مع إسرائيل».

بخلاف التعاون العسكري.. الهند سوق ضخمة لإسرائيل

«نحن لا نبحث عن علاقات استيراد وتصدير عادية، نحن نريد علاقات البائع والشاري. نحن معنيون بالشراكة القائمة على التكنولوجيا، الصناعات الإسرائيلية تساعدنا جدًّا في سعينا إلى تنظيف نهر الغانج ومشاريع مشابهة. توجد محفزات كبيرة لتعميق الشراكة في برامجنا الرئيسية»، هذا ما قاله رئيس الحكومة الهندي «ناريندرا مودي»  أمس خلال زيارته لإسرائيل.

كما لم تخفِ مصادر سياسية إسرائيلية أملها من أن تنتج زيارة مودي أوجه تعاون مدني واقتصادي واجتماعي قوي بين البلدين، حيث يظهر شريط فيديو دعائي أنتجته إسرائيل بتوقُّع التعاون في مجال التكنولوجيا الإسرائيلية في مجالاتٍ عدة، منها الزراعة والري، وذلك بعد أن تضاعف حجم التجارة بشكلٍ عام بنسبة 2000% خلال ربع قرن من العلاقات بينهما.

فبعيدًا عن التعاون في المجال العسكري، يتَّسع نطاق التعاون الإسرائيلي الهندي في مجالاتٍ عدة، كالتنمية والعلوم والتكنولوجيا والفضاء، فبينما يؤمن «مودي» بالبراغماتية الاقتصادية التي تدفعه لتوثيق العلاقات مع إسرائيل التي تملك الخبرات في مجالات الزراعة والاتصالات والأمن، ترى إسرائيل في الهند سوقًا نامية لصناعاتها المدنية التي لم يتجاوز حجمها 4 – 5 مليارات دولار في السنوات الخمس الأخيرة، على عكس ما يحدث في الصناعات العسكرية والأمنية.
وتأتي الهند – الدولة التي يبلغ عدد سكانها مليار وربع المليار نسمة– في المرتبة التاسعة بين الدول التي تستورد من إسرائيل، إذ تسعى إسرائيل لنقل خبراتها المتطورة في مجال الزراعة إلى الهند، كما تمّ الحديث عن اندماج إسرائيل في مشروع هندي عملاق في مجال المياه، لتوفير المياه وتطهيرها، إذ تعاني الهند التي تهطل فيها كميّات أمطار كبيرة من نقص في المياه العذبة بسبب التلوث البالغ لمصادر المياه العليا والجوفية، إضافة لتشجيع الشركات التجارية في البلدين، وتوسيع التعاون الأكاديمي، وخلق تعاون بين وكالات الفضاء، ورفع عدد السياح من الهند إلى إسرائيل.

المصادر

تحميل المزيد