في لندن عاصمة الإمبراطورية البريطانيّة، يجتمع بريطانيّون، كثير منهم لا يتحدثون العربية، ومثلهم فرنسيون في باريس، يجتمعون ليحدّدوا لمنطقة الشرق شكلها ومستقبلها، وعلى الأرض عثمانيّون جاؤوا من إسطنبول ليأخذوا حصتهم.
توجد عدّة روايات تاريخية تشرح ما حصل قبل محو المئة عام: الاتفاقات والتواطؤات، والتنازلات والمكاسب، والمفاوضات، وتقدّم الجيوش في الحرب العالمية الأولى وكيف أنتج كل ذلك ما صار يسمى بـ«الشرق الأوسط». وفي هذا التقرير نعرضُ خمسة كتب عن التاريخ الحديث للشرق.
1- «سلام ما بعده سلام».. من صنع الشرق الذي نعيش فيه؟
ديفيد فرومكين مؤرخ أمريكي من طراز غير تقليديّ. معرفته متغلغلة في تفاصيل المرحلة التاريخية التي يعالجها، ويبني القصة حجرًا حجرًا حتى الصورة الكاملة. يحكي فرومكين في كتابه «سلام ما بعده سلام A Peace to End All Peace» قصة تشكل الشرق الأوسط الحديث، نشر الكتاب عام 1989 وله 20 طبعة باللغة الإنجليزية آخرها كانت عامَ 2009، وعدة طبعات عربية.
فرومكين دارسٌ للقانون وعمل محاميًا ثم مستشارًا سياسيًّا وانتهى به المطاف بعد سنوات طويلة أستاذًا جامعيًا ورئيسًا لقسم العلاقات الدولية في جامعة «بوسطن» بالولايات المتحدة، وتوفي بنوبة قلبية عام 2017.
صورة لغلاف كتاب «سلام ما بعده سلام» – لديفيد فرومكين
رواية فرومكين للأحداث تبدأ مع الحرب العالمية الأولى؛ يأخذ بيدك للاجتماعات المغلقة في المكاتب البريطانية في الهند وفي مصر، والأهم في مجلس الوزراء ووزارة الحربية البريطانية وللبحرية في لندن. ويضعك مباشرةً على باب ونستون تشرشل الذي وجَّه بنفسه الهجوم البريطاني على مضيق الدردنيل العثمانيّ تمهيدًا لاجتياح إسطنبول، ومع إعطائه الأمر بانطلاق الهجوم ينقلنا فرومكين فورًا لقادة «جمعية الاتحاد والترقي، وعلى رأسهم أنور باشا وزميله طلعت باشا».
عدا عن الأسلوب البارع في سرد الأحداث للكتاب ميزة أخرى؛ هي تركيزه على الشخصيات التي كان لها أثرٌ حقيقي على سير الأحداث وتطورها. على الجانب البريطاني تشرشل، وهربرت كتشنر وزير الحرب وقنصل بريطانيا في مصر المستعمرة آنذاك، وبالطبع مارك سايكس ونظيره الفرنسيّ بيكو. وعلى الجانب العثمانيّ الباشاوات الثلاثة أنور وطلعت وجمال، وعدوهم العربيّ الشريف الحسين وندّه في نجد الملك عبد العزيز آل سعود. يرسم فرومكين خريطة تربط بين كل هذه الشخصيات ومصالح الجهات التي يمثلونها، ونتيجة كل ذلك، كما رآها فرومكين: سلام دمّر السلام في منطقة المشرق.
يعتمد الكتاب على الأرشيف البريطاني بشكل أساسي، ثم الفرنسي، وأخيرًا وبصورة أضعف على الأرشيف العثماني ما جعل روايته بلسان غربيّ، مع غياب شبه تام للرواية العربية. ويعتمد الكتاب كذلك على المذكرات الشخصية لدبلوماسيين أوروبيين كانوا جزءًا من صناعة القرار في تلك المرحلة.
للكتاب ترجمتان، الأولى تحت عنوان «سلام ما بعده سلام» صدرت عن «رياض الريس» وأخرى بعنوان معدّل؛ «نهاية الدولة العثمانية وتشكيل الشرق الأوسط». لمراجعات الكتاب والمزيد من التفاصيل من هنا.
2- «سقوط العثمانيين».. تاريخ صنعته الحرب
الجبهة العثمانية، أو بالأحرى الجبهة المتجاهلة، مركز أساسي في سردية يوجين روغان في كتابه الذي بين أيدينا. الجبهة العثمانية ظلَّت حية طوال فترة الحرب العالمية الأولى، وهي جبهة متعددة الإثنيات، عربية وتركية وكردية وفيها مسلمون وأرمن ومسيحيون ويهود.
روغان مؤرخ أمريكي وأستاذ التاريخ الحديث للشرق الأوسط، ومدير مركزها لدراسات الشرق الأوسط. كتابه الذي نعرضه نشر لأول مرة عامَ 2015 وترجم ونشر بالعربية عام 2018 عن منتدى العلاقات العربية والدولية.
صورة للغلاف الإنجليزي لكتاب «سقوط العثمانيين»، ليوجين روغان. مصدر الصورة هنا.
الشرق الأوسط جبهةٌ لم يحسب لها حسبان كما يرى روغان وانتهى بها المطاف، وبجغرافيا الشرق ككل، كمربح للعالم الغربي سيفوز به مقابل خسائره وما قدمه في الحرب على الجبهة الغربية الأوروبية. وفي الكتاب يحاول روغان أن يبين أنّ الحرب كانت مركزية في تشكيل الشرق الأوسط وكَذَا جبهات القتال فيه كانت أساسيةً في سياق الحرب العالمية ككل.
يفصلُ روغان بين الساسة وقادة الجيوش، وبين الجنود، المقاتلين الذين لا يعرفون ما ستؤول إليه الحرب ولمَ دخلوها أصلًا، ويستقرئُ مذكرات جنود عرب وترك عثمانيين ومذكرات جنود أوروبيين، كالألمان، قاتلوا بجانب العثمانيين، وآخرين كالبريطانيين، قاتلوا ضدّ العثمانيين، في الحرب العالمية الأولى.
مجددًا، كديفيد فرومكين، اللحظة الرئيسية والمركزية للمشرق في القرن الماضي هي الحرب العالمية الأولى والسنوات التي تلتها مباشرةً، ولكن سرد روغان يبدأ من الداخل العثمانيّ، من ثورة «الاتحاد والترقي» وصراعها مع السلطان عبد الحميد الثاني.
ويتابع الحديث عن ما اعتبره العرب «حرب شخص آخر» لا حربهم رغم أنهم وشعوب الدولة العثمانية دفعوا الكثير فيها. وقبيل توقيع اتفاقية السلام بين دول المحور المنتصرة في الحرب، كانت هذه الدول قد أنهت اقتسام الكعكة واتفقت فيما بينها في أبريل (نيسان) 1920، موفقين بينَ اتفاقية سايكس-بيكو، ووعد بلفور، واتفاقات بريطانيا مع الشريف الحسين. وفي معالجته لكل هذا، لا يضعُ روغان سايكس بيكو باعتبارها مركزًا للأحداث، وإنما جزءًا من عملية أوسع تشكل من خلالها الشرق الأوسط الحديث.
لمراجعات الكتاب والمزيد من التفاصيل من هنا.
3- «تاريخ العرب» من السيطرة العثمانية إلى الحاضر
كتابنا الثالث لنفس المؤلف، يوجين روغان، الذي عاش في العالم العربي لفترة طويلة، وعاش جزءًا من الحرب الأهلية في لبنان ورأى بنفسه دهشة عائلة مصرية من زيارة السادات لإسرائيل. ومن تجربته في العالم العربي، وتحدثه العربية واعتماده على مصادر عربية، كتبَ كتابه الأشهر، «تاريخ العرب»، المنشور عام 2009 وقد تمت ترجمته للعربية.
يبدأ روغان سرديته لتاريخ العرب من لحظة السيطرة العثمانية على القاهرة ومصر وينتهي الكتاب، في أحدث نسخه عام 2012، بفصل متفائل عن الربيع العربي. ويقفز بين مراحل التاريخ العربي وشخصياته المؤثّرة، من العثمانيين ومحمد علي باشا إلى عبد الناصر وصعود القومية العربية وهبوطها، ويعرض للثورة العربية والهاشميين في الأردن وأميرهم فيصل في العراق وسوريا. ومن الملك الحسين لصدام. ولروغان في كتاباته قدرة عالية على وضع الشخصيات، والأحداث الكبرى، والتيارات، جميعًا في صورة واضحة ومنظمة.
يبيّن روغان في وبرفقة كتابه الأول، ما أورثته الدولة القُطرية من مشاكل، في العالم العربي بشكل خاص، وفي المشرق عمومًا، معتبرًا أن أبرز هذه المشاكل اليوم هو المسألة الفلسطينية، بتاريخها الدموي وتطوراتها المستمرة بلا حلول، والسؤال الكردي في سوريا والعراق، عدا عنه لدى جيران العرب؛ إيران وتركيا.
لمراجعات الكتاب والمزيد من التفاصيل من هنا.
4- «انفجار المشرق العربيّ».. انهيار حلم القومية
كتب جورج قرم، مؤلف الكتاب، كتابه تجسيدًا لقصة جيله، من «نشوة» الانتصار، بتأميم قناة السويس عام 1956، لـ«الانكسار الحاد» بنكسة عام 67. وجورج قرم هو مفكر لبناني بخلفية اقتصادية، وله كتب في مجاله وأخرى في التاريخ، أهمها وأوسعها نطاقًا كتابه «انفجار المشرق العربيّ»، أولى طبعاته نشرت عام 1983 وآخرها في 2006، منتهيًا بالغزو الأمريكي للعراق.
صورة لغلاف كتاب «انفجار المشرق العربي»، لجورج قرم. مصدر الصورة هنا.
لا يقدم الكتاب سردًا تاريخيًا سياسيًا فحسب، بل معالجة تاريخية مركبة: اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وثقافية إدراكية أيضًا، يعالج قرم طرق الإدراك التي يستخدمها العرب حديثًا لفهم تاريخهم وطرق تعاطيهم معه، وينقدها وينقد «الأطر المستوردة» غربيًا، ويعالج كل ذلك في مسار تطور الأحداث السياسية في العالم العربي، موضحًا وجود فراغ كبير في الجغرافية العربية؛ فراغ قوى وأفكار وغياب لهوية جامعة، على عكس بقية جيران العرب؛ الإيرانيين والترك.
«هل يعيش قادة العالم في عالم افتراضيّ؟» تساءل قرم عندما كانت صفقة أوسلو توقّع وإسرائيل ترمي بثقلها العسكري على المدنيين في جنوب لبنان. يناقش قرم القوى الصاعدة والجديدة على المنطقة العربية: صعود آلة الحرب الإسرائيلية، وصعود الثروة النفطية في العالم العربي وما أنتجه من انقلاب في التوازنات القائمة، وثورة دينية في إيران مع صحوة إسلامية نامية في الخليج وانهيار لما رآه العرب «قومية عربية» مثّلها عبد الناصر مقابل صعود لقوميات قُطرية.
لمراجعات الكتاب والمزيد من التفاصيل من هنا.
5- ألبرت حوراني: مزج الفكر والتاريخ
لهذا الكتاب ميزة خاصة، فمؤلفه ألبرت حوراني، بريطانيّ لوالدين مسيحيين لبنانيين هاجرا لبريطانيا مطلع القرن الماضي. يعدّ حوراني أحد عرابي دراسات الشرق الأوسط التاريخية، وعلى وجه الخصوص المرتبطة بالعرب، وكتابه «تاريخ الشعوب العربية» كتاب أساسيّ لطلاب التاريخ المشرقي والعربي. ولكتابه الآخر، «الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939»، وزن ثقيل في بابه.
حوراني أحد مديري ومؤسسي مركز دراسات الشرق الأوسط في أكسفورد، الذي يديره الآن روغان. في بداية حياته درَّس في الجامعة الأمريكية ببيروت ثم في المكتب البريطاني في القاهرة ليعود إلى أكسفورد ليدرس فيها عام 1948.
صورة لغلاف كتاب «تاريخ الشعوب العربية»، لألبرت حوراني. مصدر الصورة هنا.
في تاريخ الشعوب العربية يقدم حوراني صورة بانورامية متقنة عن تاريخ العرب. وتبدأ سرديته بمرور سريع على عصر البعثة المحمديّة والخلفاء الأربعة، ثم الدولتين الأموية والعباسية، ويتابع بسرد كثيف معالجة تاريخ العرب في العهد العثماني. يتحدث حوراني عن الثقافة العربية القديمة وتطور الجدل اللاهوتي والفقهي والسياسي ويعرض لتطور كل منها ومدارسه، وعن لغة العرب وانتشارها، وعن الفن وأشكاله المختلفة، وعلاقة كل ذلك بالمدينة العربية ومعمارها.
ولا يكتفي حوراني بالسرد التاريخي للأحداث ولكن يشرح النظام الذي يربط بين الشخصيات والمؤسسات التاريخية التي يتحدث عنها: العلماء والمدارس، والتجار والأسواق، والجيوش والأمراء والسلاطين، وعموم الناس، ويشرح ارتباطهم ببعضهم البعض كما فعل بشرحه لـ«نظام الأعيان» وأطرافه المختلفة في الدولة العثمانية.
وقد نشر الكتاب عامَ 1991 وترجم للعربية بعد ذلك بستة أعوام. لمراجعات الكتاب والمزيد من التفاصيل من هنا.