«كان غاندي مطبوعًا على غريزة مدهشة تلهمه بث الأفكار بين الجماهير، تعززها اجتماعاته بهم مباشرة في مجامع الصلوات التي يشجعها، كما تعززها مخالطته الواسعة للناس في جميع مناحي الحياة، أما محمد علي جناح فهو على خلاف ذلك يستمد نفوذه من القيادة عن بعد، فهو لا يتزلف للجماهير ولا يكثر من مخالطتها، وقد تكمن من التدبير المرن المصقول في حزم ودقة. إنه ظاهرة فذة في القضايا الكبرى؛ نادى بفكرة باكستان وهو في الستين، وحققها وهو في السبعين».
بهذه الكلمات قارن الكاتب البريطاني آلان كامبل جونسون بين الزعيم الهندي الشهير غاندي، وبين محمد علي جناح، الزعيم المسلم الذي أسس دولة باكستان، وصار أول رئيس لها، والذي يحظى إلى اليوم بمكانة مميزة في قلوب الباكستانيين. فمن هو هذا الرجل ولماذا يحظى بهذه المكانة؟
محمد علي جناح.. ميلاد زعيم
ولد محمد علي جناح في يناير (كانون الثاني) عام 1876، في مدينة كاراتشي الهندية، لأسرة مسلمة تنتمي إلى الطائفة الإسماعيلية، وتلقى تعليمه الأولي في المدرسة الهندية في مدرسة إسلامية في كاراتشي، قبل أن يرسله أبوه إلى إنجلترا لمواصلة تعليمه الجامعي بناء على نصيحة صديق إنجليزي رأى في الصبي الصغير علامات النبوغ.
كانت الخطة تقضي أن يدرس محمد علي جناح إدارة الأعمال ليتولى تجارة والده، لكنه بدلًا من ذلك انصرف إلى دراسة الحقوق في معهد لنكولن معللًا ذلك بأنه «وجد على باب المعهد اسم الرسول محمد في قائمة واضعي القانون العظام في العالم»، فقرر التسجيل في المعهد على الفور، ليصبح أصغر هندي يتخرج من هذا المعهد.
وفي أثناء إقامته في إنجلترا، بدأ محمد علي جناح أول نشاط سياسي له بالعمل مع زملائه الطلبة الهنود على ترشيح دادا بهاي ناروجي، شيخ الهنود المقيمين بلندن، لمقعد في البرلمان البريطاني، وقد تأثر الفتى بناروجي تأثرًا كبيرًا بمدرسته السياسية القائمة على الاعتدال، كما تأثر بالحياة السياسية البريطانية، فقد وصف البعض لاحقًا خطب جناح الداعية إلى استقلال باكستان بأنها تشبه في أسلوبها خطب رئيس الوزراء البريطاني السابق وليام جلادستون.

محمد علي جناح
وحين عاد محمد علي جناح إلى كاراتشي وجد أن تجارة عائلته قد منيت بخسارة فادحة، فانصرف إلى المحاماة وصار من أشهر المحامين في كاراتشي. في ذلك الوقت، كانت الساحة السياسية الهندية زاخرة بالتحركات السياسية الهادفة إلى انتزاع الحقوق الهندية من أنياب الاحتلال البريطاني، وقد بدأ محمد علي جناح أولى خطواته السياسية بالانضمام إلى «حزب المؤتمر الهندي» أكبر الأحزاب السياسية الهندية في ذلك الوقت، وبعد ذلك بعام ألقى أول خطبة سياسية له، والتي دعا فيها إلى استقلال الهند عن الاستعمار البريطاني.
وفي عام 1910، جرى انتخاب محمد علي جناح عضوًا في البرلمان الهندي، وهو المنصب الذي سيظل فيه طيلة أربعة عقود؛ إذ كان من أبرز الأصوات المنادية بالاستقلال عن بريطانيا، والداعية إلى الوحدة الوطنية بين الطوائف الهندية المختلفة، وقد تأثر في ذلك الوقت بالزعيم والمصلح الاجتماعي الهندي جوبال كريشنا جوخال، حتى إنه عبر عن أمله في أن يصبح يومًا «جوخال المسلم».
في عام 1906 جرى تأسيس حزب «الرابطة الإسلامية» معبرًا عن المصالح القومية للمسلمين في الهند، لكن محمد علي جناح آثر أن يظل بمعزل عنه، وظل على انتمائه لـ«حزب المؤتمر الهندي» في تلك الفترة كان لا يزال ينظر إلى مصالح المسلمين الذين يمثلهم في سياق القومية الهندية الأكبر، داعيًا إلى تعميق الشعور بالقومية الهندية بين أبناء الطوائف المختلفة، ولذلك فقد أطلق عليه لقب «سفير الوحدة» بين الهندوس والمسلمين.
وكان محمد علي جناح، على عكس الكثير من مسلمي الهند، ممن عارضوا الخطوة البريطانية عام 1905 بتقسيم إقليم البنغال الكبير إلى قسمين، أحدهما للمسلمين؛ إذ رأى في تلك الخطوة زرعًا لبذور الشقاق، ولعل هذا من مفارقات الزمن؛ إذ إن النائب «الهندي» الذي رفض في بدايات حياته تقسيم البنغال، سيصبح بعد ذلك، رأس حربة المسلمين للحصول على الاستقلال من الهند.
«سفير الوحدة الهندية» يطالب بانقسام الهند
حاول محمد إقبال في البداية التنسيق بين النواب الهندوس والنواب المسلمين في البرلمان الهندي الذين اجتمعوا للتشاور على قواعد الوحدة، ووقع الاختيار عليه لإجراء مشاورات للتوفيق بين أهداف حزب المؤتمر الهندي والرابطة الإسلامية، وحين اندلعت الحرب العالمية الأولى، جرى تعيينه رئيسًا للبعثة الهندية المتجهة إلى لندن لشرح القضية الهندية وعرض مطالب الشعب، وحين عاد محمد علي جناح إلى الهند وجد الزعيم الهندي غاندي في استقباله قائلًا: «إنه مسرور أن يجد مسلمًا مثله».
لكن قناعات محمد علي جناح بخصوص الوحدة الهندية قد بدأت تهتز، وبدأت الخلافات بينه وبين غاندي في الظهور، خاصة بعدما خالف جناح رؤية غاندي حول العصيان المدني ودعواته لمقاطعة البضائع والمصانع والمدارس والمؤسسات البريطانية كافة، ورأى أن تلك الدعوات ستضر بمسلمي الهند أكثر مما تنفعهم، وتجعلهم يتخلفون عن مظاهر الحضارة الحديثة، حيث أخذ يتساءل عن جدوى مقاطعة الطلاب للتعليم في المدارس والجامعات الحكومية، وما جدوى مقاطعة المصانع الحديثة والأقمشة الأجنبية والآلات الحديثة.

محمد علي جناح بجوار غاندي
ومع فشل محاولات الوحدة ورأب الصدع الطائفي بين المسلمين والهندوس، فقد بدأ جناح يتخوف من دعوات الاستقلال «غير المنظم» للهند (كان يفضل الحكم الذاتي تحت الإشراف البريطاني)، ورأى أن ذلك سيؤدي إلى سيطرة الهندوس المطلقة على البلاد، و«ابتلاع حقوق المسلمين» فيها، خاصة مع استمرار تجاهل الأغلبية الهندوسية لمطالب المسلمين ورفضهم تخصيص مقاعد لهم في المجالس التشريعية، وقد رفض غاندي والبرلمان الهندي طلبات محمد علي جناح تخصيص اعتمادات مالية لمنطقة البنجاب ذات الأغلبية المسلمة.
في عام 1920، استقال محمد علي جناح من «حزب المؤتمر الوطني الهندي» لينضم إلى «الرابطة الإسلامية» التي صار زعيمًا لها، وفي عام 1929 أصدر بيانًا مهمًّا طالب فيه بتخصيص ثلث مقاعد المجلس التشريعي المركزي للمسلمين، ووضع تشريع دستوري يتضمن حماية دينهم ولغتهم وثقافتهم، وقد عمل جناح على تحويل «الرابطة الإسلامية» من حركة صغيرة تمثل المصالح الضيقة للأرستقراطية المسلمة إلى حركة شعبية تعبر عن مصالح عشرات الملايين من المسلمين الهنود، فكان يجوب البلاد طولًا وعرضًا يدعو الجماهير للانضمام إلى الرابطة.
في عام 1937، وبعد فوز حزب المؤتمر الهندي بالانتخابات، صرح زعيمه لال دي نهرو بأن «هناك قوتين فقط في البلاد، هما حزب المؤتمر وبريطانيا»، وشيئًا فشيئًا، تبددت أحلام الوحدة الوطنية في عقل محمد علي جناح وقلبه، لتحل محلها فكرة الاستقلال؛ إذ بدأ يؤمن بـ«نظرية الدولتين» التي ترى تقسيم الهند إلى دولتين واحدة للهندوس وأخرى للمسلمين، وقد لعب الشاعر والفيلسوف والسياسي محمد إقبال دورًا في إذكاء هذه الفكرة في صدر محمد علي جناح وعند عموم مسلمي الهند، لإنشاء دولة في المقاطعات الهندية ذات الأغلبية المسلمة والتي أطلق عليها اسم «باكستان».
وفي اجتماع الرابطة الإسلامية بلاهور عام 1940، دعا محمد علي جناح إلى تقسيم شبه القارة الهندية إلى كيانين هما الهند وباكستان، وقد عبر عن رغبته تلك في خطاب وجهه إلى الزعيم الهندي غاندي بالقول: «نحن أمة لمائة مليون مسلم، وعلاوة على هذا نحن أمة ذات أمور متميزة في الثقافة والحضارة واللغة والأدب والفن والعمارة، وباختصار لنا وجهة نظرنا المتميزة عن الحياة ومن الحياة، ووفقًا لجميع مبادئ القانون الدولي نحن أمة».
جناح يحصل على «دولة أكلها العبث»
كثفت الرابطة الإسلامية بقيادة محمد علي جناح من دعواتها لإقامة وطن مستقل لمسلمي الهند، برغم اعتراض حزب المؤتمر الوطني الهندي، وقد ساهم تأييد الرابطة إنجلترا خلال الحرب العالمية الثانية في تقوية موقفها، لتستجيب بريطانيا أخيرًا لتطلعات جناح. أرادت حكومة الملكة انسحابًا سريعًا من الهند، وكلَّفت اللورد ماونتباتن بمهمة إخراج بريطانيا من مستعمراتها.
كان تقسيم الهند شرطًا لاستقلالها، وفي يوم 14 أغسطس (آب) 1947 احتفلت الهند بالاستقلال عن بريطانيا بعد سنوات من العصيان المدني والمقاومة المسلحة بقيادة غاندي وجواهر لال نهرو، وقبلها بيوم واحد فقط، في الرابع عشر من أغسطس (آب) كان مسلمو الهند قد احتفلوا بميلاد دولتهم الجديدة، باكستان.
صورة محمد علي جناح مطبوعة على العملية الباكستانية
كان هناك شيء خالج فرحة محمد علي جناح، الذي جرى اختياره ليكون أول رئيس للدولة الجديدة بعدما أطلق عليه المسلمون لقب «القائد الأعظم»؛ إذ تزامن تأسيس باكستان مع بداية مرحلة أخرى من المتاعب، فقد وصف جناح الدولة التي حصل عليها من الهند وبريطانيا بأنها دولة «أكلها العبث»، احتفظت الهند بأراضيها باستثناء خمس ولايات اقتطعت بعض أراضيها وأعطيت لباكستان.
تكونت الدولة الوليدة من شطرين يفصل بينهما ألفا كيلومتر من الأراضي الهندية، بشكل تستحيل معه إدارة البلاد عمليًّا. لم يكن هذا الوضع قابلًا للاستمرار على أي حال، وانتهى الأمر بحصول النصف الشرقي من ولاية البنغال والذي كان يسمى «باكستان الشرقية» على الاستقلال لتشكل دولة بنجلاديش الحالية. بعد حرب شرسة تدخلت فيها القوات الهندية لمساندة باكستان الشرقية.
إلى جانب المحدودية الجغرافية لباكستان، فقد فوجئ جناح باندلاع صدامات عنيفة بين الهندوس والمسلمين في أعقاب الاستقلال في شبه الجزيرة الهندية، فاق بأضعاف ما كان يحدث قبل ذلك، وقد نتج من هذا العنف الطائفي مئات آلاف القتلى وملايين المشردين من الطائفتين، هذا فضلًا عن الإشكالات الحدودية التي ظلت عالقة بين الهند وباكستان وفي مقدمتها قضية كشمير التي ما تزال سببًا لتجدد الصراع بين الهند وباكستان حتى يومنا هذا.
وبرغم أن البعض يأخذ على محمد علي جناح ورفاقه ما يرونه «تسرعًا» في المناداة باستقلال مسلمي الهند، بشكل ساهم من وجهة نظرهم في تشتيت قوة المسلمين في تلك المنطقة من القارة الآسيوية، وحرمهم من الكثير من الفرص الاقتصادية والسياسية التي كان بالإمكان الاعتماد عليها لو ظل المسلمون كتلة كبيرة موحدة تلعب دورًا في توجيه دفة السياسة الهندية، فإن محمد علي جناح الذي وافته المنية عام 1948 بعد شهور قليلة من تأسيس باكستان، لا يزال يحظى بمكانة مميزة في قلوب الباكستانيين، الذين يلقبونه بـ«القائد الأعظم»، ويعدون يوم ميلاده عيدًا وطنيًّا في البلاد حتى اليوم.