منذ الساعات الأولى ‏من إصدار الملك سلمان بن عبد العزيز أمرًا ملكيًا بتشكيل لجنة عليا برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لمكافحة الفساد، وبدء حملة الاعتقالات ضد عدد من الوزراء الحاليين والسابقين والأمراء ورجال الأعمال، تحاول المملكة إقناع الجميع أن الهدف من هذه اللجنة هو القضاء على الفساد في البلاد وفقط، وذلك دعمًا للإصلاح الاقتصادي، والمحافظة على المال العام، على حد تأكيد البلاد.

وكانت المحاولة الأولى من الملك سلمان الذي حمل نص أوامره الملكية كلمات مثل حماية النزاهة ومكافحة الفساد والقضاء عليه، ومراعاة مصالح المواطنين، لكن لم تؤثر هذه العبارات كثيرًا على نظرة المستثمرين العامة للسوق السعودي، في الوقت الذي كانت الرواية السياسية هي الأقرب للواقع بحسب المحللين.

ويبدو أن وزارة المالية أدركت ذلك سريعًا؛ إذ خرج الوزير محمد الجدعان للتأكيد على أن عمل اللجنة يأتي في إطار تكريس دولة القانون وفق المعايير الدولية، وتفعيل حقيقي لأنظمة مكافحة الفساد التي تطبقها حكومة المملكة بما يعزز برامج التنمية الوطنية المستدامة، ويكرس للمنهج الإصلاحي، مشيرًا إلى أن هذه القرارات الحازمة ستحافظ على البيئة الاستثمارية ببلاده، وتعزز ثقة المتعاملين في بيئة الأعمال التجارية والاستثمارية بالمملكة، ويحقق التنافس العادل بين المستثمرين.

لكن وسط هذه المحاولات، استمرت السعودية على الجانب الآخر في تضيق الخناق على الموقوفين؛ إذ جمدت البنوك السعودية أكثر من 1200 حساب مصرفي بناء على توجيهات من البنك المركزي، بينما أكدت مصادر لوكالة «رويترز» أن عدد تلك الحسابات يزداد كل ساعة تقريبًا؛ وهو ما أثار مخاوف جديدة بين رجال الأعمال، من حيث تأخير سداد ديون قائمة، وتعطيل الأنشطة اليومية لبعض الشركات مثل دفع أجور الموظفين ومستحقات الدائنين.

إلا أنه وفي محاولة أخرى لتجنب فقد مزيد من الثقة، أصدر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الثلاثاء السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، تعليمات إلى الوزراء المعنيين باتخاذ الإجراءات التي تكفل للشركات الوطنية والمتعددة الجنسية، بما في ذلك تلك المملوكة كليًا أو جزئيًا لأفراد قيد تحقيق شامل لمكافحة الفساد، بأن تواصل كافة أنشطتها، قائلًا: إن ذلك «يحافظ على جاذبية المناخ الاستثماري بالمملكة، ويسهم في خلق فرص وظيفية بما يعزز حماية الحقوق ويضمن التنافس العادل».

ومجددًا لم تنجح أيضًا هذه المحاولة في إقناع المستثمرين بجدية نوايا السعودية الإصلاحية، وهو ما دفع البنك المركزي السعودي إلى طمأنة مجتمع الأعمال، موضحًا أن أنشطة الشركات لن تتأثر، وأنه لا توجد أي قيود على تحويلات الأموال من خلال القنوات المصرفية الشرعية، لكن لم تنجح كذلك هذه الخطوة في بث روح الطمأنينة بمجتمع العمل، وهذا ما ظهر جليًا بتعاملات الأسهم السعودية في أول ثلاث جلسات من الأسبوع.

البورصة السعودية.. محاولات الصمود في مواجهة موجة الخوف

القلق والغموض عدوان لأي سوق مال في العالم، وهذان العملان كانا المسؤولين عن كل التحركات السلبية التي حدثت بالمؤشر السعودي على مدار الثلاث جلسات الأولى من قرار المملكة باحتجاز عشرات الشخصيات البارزة من أمراء وساسة ورجال أعمال، ففي الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، بدأت البورصة أولى التعاملات على هبوط حاد؛ إذ تراجع المؤشر الرئيس للسوق السعودية بنحو 2.2%.

ولكن سرعان ما ظهر الدور الحكومي لإنقاذ الموقف، إذ تدخلت صناديق حكومية بشكل متعمد لدعم السوق، ما قاد المؤشر الرئيس للتعافى ليغلق مرتفعًا 0.3%، إلا أن الأسهم الهابطة تفوقت على تلك التي حققت مكاسب بواقع 126 إلى 49.

في اليوم الثاني من التداولات السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، قال مديرو صناديق في المنطقة: إنهم يعتقدون أن صناديق مرتبطة بالحكومة تدعم السوق بشكل متعمد لتفادي حدوث ذعر، ليتكرر سيناريو اليوم الأول، إذ هبط المؤشر الرئيس للسوق في أوائل التعاملات، لكنه تعافى في الدقائق الأخيرة من الجلسة التداول.

ونقلت وكالة «رويترز» عن أحد مديري الصناديق، قوله: «كانت السوق ستهبط 5 أو 10% بدون تدخل الصناديق الحكومية»، وهو ما يكشف مدى المحاولات الحكومية المستميتة لإظهار أن السوق متماسك، وذلك بخلاف الواقع الذي كشف لليوم الثاني أن الأسهم الخاسرة تجاوزت الرابحة بواقع 135 إلى 42.

عندما يتبدد الغموض.. ستستقر الأسواق

هكذا قال شاكيل ساروار رئيس إدارة الأصول لدى شركة الأوراق المالية والاستثمار (سيكو) في البحرين، ولكن مع النظر إلى تداولات 7 نوفمبر (تشرين الثاني)، زاد الخوف وتوسعت دائرة الغموض، وهو ما قاد المستثمرون الأفراد السعوديون الأثرياء على بيع الأسهم، في ظل امتداد القلق من الحملة على الفساد في المملكة إلى منطقة الخليج، إذ تراجع المؤشر الرئيس للسوق السعودية 0.7% في تداول مكثف، فيما وتجاوزت الأسهم الخاسرة الأسهم الرابحة بواقع 150 إلى 32، وسجل نحو 34 سهمًا أدنى مستوياتها في 52 أسبوعًا.

ولم تنجح الحكومة في الحفاظ على الصورة الإيجابية، إذ قال مديرو صناديق: إن السوق كانت ستغلق عند مستوى أكثر انخفاضًا بشكل كبير، إلا أن تدخل الحكومة منع ذلك، في ظل بيع مكثف من المستثمرين الأفراد الأثرياء الذين يريدون سحب أموالهم، بحسب متعاملين، فيما يخشى كثير من المستثمرين أن الأشخاص المحتجزين ربما يضطرون في نهاية المطاف إلى بيع حيازات كبيرة من الأسهم، وهو ما قد يقود المؤشر لتراجعات حادة في حال استمر هذا الوضع كثيرًا.

وتضع هذه الأحداث المؤشر السعودي في وضع صعب، خاصة بعد أن أعلنت فوتسي راسل – مشغل العديد من المؤشرات العالمية للأسواق الصاعدة والمتقدمة – في مراجعتها السنوية لعام 2017 لتصنيف أسواق الأسهم الدولية، بداية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أنها قررت تأجيل ضم السوق السعودية إلى مرتبة الأسواق الناشئة الثانوية، موضحة أن هناك بعض التحفظ من ناحية نموذج الحفظ المستقل.

أحمد ذكر الله رئيس قسم الاقتصاد والإدارة في الجامعة العالمية للتجديد (غير حكومية) بإسطنبول، قال إنه من المعروف سرعة استجابة البورصة للأحداث الاقتصادية، لاسيما الكبير منها، مؤكدًا البورصة السعودية كان أمرًا حتميًا، بينما يعتقد أن حكام المملكة لا يهمهم أمر البورصة من قريب أو بعيد؛ لأنها لا تعكس الأوضاع الاقتصادية الحقيقية، على حد ذكره.

وتابع ذكر الله خلال حديثه لـ«ساسة بوست» قائلًا: «إن المملكة لم تستطع أن تقنع أحد أن هذه العملية موجهة ضد الفساد، لأن الجميع يعرف الأبعاد السياسية والاقتصادية وأن الاستيلاء علي هذه الأموال للخروج من الورطة الاقتصادية التي تواجهها المملكة في تمويل الحروب والوعود التي قطعت في زيارة ترامب والتي بدا تنفيذ جزء منها فعليًا».

ما الذي يكفل للمستثمرين الأجانب الأمان في مملكة القانون الغائب؟

«الاقتصاد في حالة ركود، ويجري الآن استنزاف الاحتياطات، وتم إنشاء لجنةً بإمكانها مصادرة الأصول وفقًا لإرادتها في الداخل أو الخارج، فما الذي يمنع السعودية من فعل الشيء نفسه مع أصول المستثمرين الأجانب الذين يختلفون معه؟» كان هذا تساؤل للكاتب الصحافي البريطاني ديفيد هيرست، تعليقًا على تأثير الأحداث على الاستثمارات الأجنبية في المملكة، وبالطبع هذا السؤال في غاية الأهمية.

قد يعزف المستثمرون عن دخول دولة ما لعدة سنوات، بالرغم من توافر فرص استثمارية مميزة فيها؛ وذلك بسبب عدم وجود قانون استثمار يحمي حقوق المستثمر، فالبنية القانونية أهم في أغلب الأحيان من البنية التحتية ومن الإغراءات التي تعرضها الدولة على المستثمرين، فلا يوجد أمان للمستثمر بدون القانون، وبالنظر إلى الوضع الآن في السعودية، نجد أن لجنة مكافحة الفساد، تملك استثناءً من الأنظمة والتنظيمات والتعليمات والأوامر والقرارات بحصر المخالفات والجرائم والأشخاص والكيانات ذات العلاقة في قضايا الفساد العام، وبالتحقيق وإصدار أوامر القبض والمنع من السفر ، واتخاذ ما يلزم مع المتورطين في قضايا الفساد العام.

ما يعني أنه يمكن القول إن هذه اللجنة فوق القانون، ومن يقع في قبضتها لن يستطيع الدفاع حتى عن نفسه، وهذه تعد بيئة طارده للاستثمار، إذ يمكن للجنة فعل أي شيء لأي شخص، ومصادرة ممتلكاتِهم داخل وخارج المملكة، فهي تملك الصلاحيات الكاملة.

وهذا ما حذر منه أيضًا «ذكر الله»، إذ اعتبر أن ما حدث يعد ضربة قاتلة للاستثمار الأجنبي، حيث بات يرى أن المنطقة برمتها علي صفيح ساخن مما يهدد المشروعات المستقبلية، للأمير محمد بن سلمان، إلا أنه قال إن السعودية الأموال التي تم التحفظ عليها، يمكن أن تبقى رصيد يستخدم في تمويل هذه المشاريع.

بينما ذهب أستاذ الاقتصاد، إلى سؤال آخر ربما يكون مهما كذلك، وهو كيف يأتي السياح إلى هذه المنطقة التي أصبحت كلها غير آمنة؟ موضحًا أن «رؤية 2030» التي يتبانها ولي العهد السعودي تعتمد بشكل كبير على السياحة، وفي حال استمر عدم الاستقرار في المنطقة، فإن الرؤية قد لا ترى النور.

على الجانب الآخر، يعتبر الأجانب الأمير الوليد بن طلال أيقونة الاستثمار في المملكة، سواء في الداخل أو الخارج، فهو في نظر كثيرين من الأجانب يمثل وجه قطاع الأعمال السعودي؛ إذ يظهر كثيرًا على شاشات التلفزيون العالمية، وفي تقارير عن استثماراته وأسلوب حياته، فيما تقدر ثروته بمبلغ 17 مليار دولار، لكن مع اتهامات الفساد الموجهة للرجل، أصبحت هذه الأيقونة مشوهة إلى حدٍ كبير، ففي حال تم إثبات الاتهامات؛ ستسقط واجهه استثمارية مهمة للبلاد، وفي حال تمت تبرئة الأًمير، فسيفقد الجميع الثقة في السلطات السعودية.

اقرأ أيضًا:

وكان سهم المملكة القابضة، ذراع الاستثمار للأمير الوليد بن طلال، قد خسر على مدار ثلاثة أيام نحو 21%، إذ محا هذا الهبوط نحو ملياري دولار من ثروة الأمير الوليد، ولا تعني هذه الخسارة أن الأمير فقط من يتحملها، ولكن لا شك أن الاقتصاد السعودي سيتحمل أيضًا الكثير من هذه الخسائر، حيث إن استثماراته موزعة على أغلب القطاعات في البلاد: (الخدمات المالية – التكنولوجيا – المواد الاستهلاكية والبيع بالتجزئة – قطاع الترفيه – البتروكيماويات – قطاع الطيران – قطاع التعليم – قطاع الرعاية الصحية – العقارات الفندقية – العقارات).

الركود أهم مخاطر الحملة على الفساد

ويرى المحللون أن عملية السعودية محفوفة بالمخاطر؛ لأن الحملة تلحق ضررًا ببعض أكبر رجال الأعمال بالقطاع الخاص في المملكة وزعماء مؤسسات عائلية ممن بنوا معظم الاقتصاد غير النفطي على مدى العقود القليلة الماضية، وهو ما يعوق فكرة التنوع في المدى الطويل، فقد تعاني صناعات كثيرة إذا نضبت الاستثمارات من هذه العائلات في الأشهر المقبلة في وقت انزلق فيه الاقتصاد بالفعل إلى ركود بسبب ضعف أسعار النفط وسياسات التقشف.

ويقول محلل مالي لوكالة «رويترز» بعض رجال الأعمال بالقطاع الخاص في السعودية يحاولون الآن إخراج أموالهم من البلاد، في الوقت الذي قد يجري فيه تجميد صفقات أعمال جديدة كثيرة، وقال رجل أعمال بشركة أجنبية لخدمات التكنولوجيا للوكالة، إنه كان يدرس مشروعًا مع شريك سعودي، لكنه قرر هذا الأسبوع عدم المضي قدمًا فيه بسبب روابط الشريك مع بكر بن لادن، أحد رجال الأعمال المحتجزين.

بينما تعرضت السندات الدولارية السعودية لضغوط، وكذلك كلفة التأمين على السندات من احتمال التخلف عن السداد، والتي تبرز مخاطر الاستثمار في السندات؛ إذ زادت العوائد على سندات مقومة بالدولار بقيمة 6.5 مليار دولار تستحق في عام 2046 نحو ثماني نقاط أساس، وارتفعت تكلفة التأمين على الديون السعودية لأجل 5 سنوات بنحو نقطتين، إذ بلغت 84 نقطة أساس ارتفاعًا من 82 نقطة أساس عند الإغلاق، يوم الجمعة الماضي، أي أنها ظلت أقل بكثير من مستوى 117 نقطة أساس الذي بلغته في يوليو (تموز)، وذلك وفقًا لبيانات «آي.اتش.إس» ماركت.

وفي الوقت ذاته شهد الريال السعودي بعض الضعف في أسواق المعاملات الآجلة، إذ انخفض في المعاملات لأجل 12 شهرًا مقابل الدولار الأمريكي فبلغ مؤشره 183 نقطة مقابل 129 نقطة الأسبوع الماضي، ومن ناحية أخرى فإن بيانات أولية تقدر ثروات 7 فقط من رجال الأعمال الموقوفين في السعودية، تصل إلى 45.8 مليار دولار، وبالطبع هذا الرقم ضخم جدًا؛ مما يعني أن كثيرًا من الأعمال في البلاد قد تتوقف بشكل شبه كامل، أي أن المملكة ربما تستمر في حالة الركود لمدة أطول.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد