إذا سأل أحدهم عن أهمية القمر لكوكب الأرض وحياتنا، فسيتبادر إلى أذهاننا بعض الفوائد، أبرزها بالطبع ظاهرة المد والجزر، هذا بالإضافة إلى مساهمة القمر في استقرار دوران الأرض حول محورها، كما أن القمر يحمي الأرض من العديد من الكويكبات التي تصطدم به قبل وصولها للأرض.
كل هذا مهم، لكن ربما يعتقد البعض أن فناء القمر لن يهدد حياتنا على كوكب الأرض مثلما تفعل الشمس، وأن القمر أقل أهمية كثيرًا مقارنة بالشمس. ربما يبدو هذا صحيحًا ظاهريًّا، ولكن، ودون التطرق لتفاصيل أهمية القمر للحياة نفسها على الأرض حاليًا، يكفي أن تعرف أنه لولا القمر لما كان كوكب الأرض صالحًا لاستقبال الحياة من الأساس في فترة تكونه الأولى.
بل إن القمر نفسه هو الذي حمى كوكب الأرض من الشمس نفسها ونشاطها الكبير منذ ملايين السنين، والذي كان من الممكن أن يجعل الأرض غير قادرة على استقبال أي نوع من أنواع الحياة. فما القصة؟ وإلى أي حد نحن مدينون بالشكر لهذا الجرم السماوي الصغير؟
القمر.. وحماية الأرض
بالتأكيد لم تكن الأرض في بداية نشأتها مكانًا جيدًا للعيش على سطحها. فمنذ حوالي 4.5 مليارات سنة عندما كانت الأرض عبارة عن كوكب جديد ساخن، اصطدم «ثيا»، وهو كوكب ضخم بحجم المريخ بها، مما تسبب في تناثر قطع صغيرة منه وتطايرها إلى الفضاء، والتسبب في تسخين الأرض إلى آلاف الدرجات. أحد هذه القطع المتناثرة كان القمر.
بعد ذلك، وقبل حوالي 4 مليارات سنة، كان النظام الشمسي يعاني فترة تسمى «القصف الشديد المتأخر»، حيث ضربت الكويكبات الكواكب الداخلية في النظام الشمسي (عطارد والزهرة والأرض والمريخ) بقوة. تحت وقع هذا الهجوم المستمر، ظلت الأرض ساخنة وظل سطحها ذائبًا باستمرار.
في هذه الأثناء، وعلى الرغم من أن الشمس كانت أكثر خفوتًا وبرودة مما هي عليه اليوم، فإنها كانت تمر بسنوات نشاط قوي للغاية، وتطلق توهجات عنيفة ورياحًا شمسية قوية للغاية. كان من المفترض، ونتيجة لموقع كوكب الأرض الذي يبعد حوالي 149 مليون كيلومتر فقط، أن تتسبب هذه التوهجات في إزالة الغلاف الجوي للأرض كاملًا بصورة تجعله غير قادر على توفير الظروف المناسبة لنشأة الحياة على سطحه.
كان هذا الأمر مثيرًا لاستغراب العلماء وتعجبهم حول الكيفية التي تمكنت بها الأرض وسط كل هذا العنف من الاحتفاظ بغلافها الجوي، وبعد سنوات عديدة من البحث، ظهر لنا البطل الذي دافع عن الأرض أمام غضب الشمس وهيجانها في ذلك الوقت، إنه القمر؛ فقد أظهر بحث جديد أن المجال المغناطيسي للقمر يمكن أن يكون قد حمى الأرض من العبء الأكبر لغضب الشمس، وبحسب العلماء في وكالة ناسا والذين أنجزوا هذه الدراسة، فيبدو أن القمر قد شكَّل حاجزًا وقائيًّا كبيرًا ضد الرياح الشمسية للأرض، وهو أمر بالغ الأهمية لقدرة الأرض على الحفاظ على غلافها الجوي خلال هذا الوقت.
هل يملك القمر مجالًا مغناطيسيًّا؟
اعتاد الكثيرون على الاعتقاد بأن القمر لم يكن سوى مجرد كتلة من الصخور لا أكثر ولا أقل. الآن، لا يملك القمر مجالًا مغناطيسيًّا، لذلك افترض البعض أنه لم يكن لديه مجال مغناطيسي أبدًا. السبب وراء هذا الاعتقاد ربما يعود إلى كونه صغيرًا جدًّا لدرجة لم تمكنه من الحفاظ على «تأثير الدينامو» المطلوب لبقاء المجال المغناطيسي.
في الفيزياء، تقترح «نظرية الدينامو» وجود آلية معينة يولِّد من خلالها جرم سماوي مثل الأرض أو نجم مثل الشمس، مجالًا مغناطيسيًّا. تصف نظرية الدينامو العملية التي من خلالها يمكن للسائل الدوار ذي الحمل الحراري العالي والموصل للتيار الكهربائي في باطن الجرم السماوي، أن يحافظ على مجال مغناطيسي على مدى فترات زمنية طويلة. هذا السائل هو لب الحديد المصهور للأرض، ويعتقد أن تأثير الدينامو هذا هو مصدر المجال المغناطيسي للأرض والمجالات المغناطيسية لكوكب عطارد أيضًا.
نعود إلى القمر، عندما أرسل البشر رواد فضاء إليه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أظهرت الصخور التي جلبوها دليلاً على المغناطيسية، كان هذا دليلًا واضحًا على أن للقمر مجالًا مغناطيسيًّا يشبه إلى حد كبير مجال الأرض، فعندما تشكل القمر لأول مرة بعد انفصاله صخرةً متناثرة نتيجة اصطدام «ثيا» بالأرض، تشير الأدلة المتزايدة إلى أنه كان دافئًا أيضًا بدرجة كافية ليكون له مركز سائل، وهو قلب حديدي منصهر خاص به. يعتقد العلماء أنه كان قادرًا على الحفاظ على مجال مغناطيسي حتى ما يقرب من 1 إلى 2.5 مليار سنة مضت، بعدها برد القمر لدرجة أن قلبه الحديدي المنصهر تصلب.
القمر والأرض.. منذ مليارات السنوات
في تلك الأيام الأولى لتكون القمر، كانت العلاقة بينه وبين الأرض أكثر قربًا بكثير مما هي عليه اليوم. قبل حوالي 4 مليارات سنة، كان القمر على بعد 130 ألف كيلومتر، أي حوالي ثلث المسافة الحالية البالغة 384 ألف كيلومتر، وكانت الأرض تدور بشكل أسرع في ذلك الوقت أيضًا؛ إذ كان اليوم خمس ساعات فقط، ومع تباطؤ دوران الكوكب، بدأ القمر يتراجع إلى الخلف بمعدل حوالي 3.82 سم في السنة، وما تزال عملية التراجع هذه مستمرة حتى يومنا هذا.
في البحث السابق الذي أجراه علماء ناسا، أراد هؤلاء معرفة كيفية تفاعل المجال المغناطيسي للقمر مع المجال المغناطيسي للأرض، لذلك، صمموا نموذجًا حاسوبيًّا لمحاكاتهما، فوجدوا أن المجالات المغناطيسية لكلا الجسمين ستكون متصلة عبر القطبين؛ مما يجعلنا أمام مجال مغناطيسي مشترك، والذي كان، في بعض الأحيان، يحمي الأرض من تجريد غلافها الجوي بواسطة الرياح الشمسية العاتية آنذاك.
ليس هذا فحسب، بل يشير نموذج المحاكاة إلى إمكانية وجود بعض التبادل في الغلاف الجوي بين القمر والأرض. تشير الدلائل المكتشفة مؤخرًا إلى أن القمر كان له غلاف جوي خاص به منذ 3.5 إلى 4 مليارات سنة بسبب النشاط البركاني، لكن ما كان يثير حيرة العلماء هو وجود النيتروجين في التراب القمري؛ لأنه يجب أن يكون قد وصل من مكان ما خارج القمر. تقترح عمليات المحاكاة أن الأرض والقمر يمكن أن يكونا قد تبادلا بعض غازات الغلاف الجوي، مما يوفر حلًّا لأحجية النيتروجين القمري. وتشير الدراسة إلى أن المجالين المغناطيسيين للأرض والقمر ظلا مرتبطين حتى حوالي 3.5 ملايين سنة مضت، ويأمل الفريق أن توفر العينات الجديدة التي جرى الحصول عليها في المهمات القمرية مزيدًا من المعلومات.
القمر والبحث عن كواكب صالحة للحياة
تكمن أهمية هذه الدراسة من أنها تعطي بعدًا جديدًا لعملية معرفة وجود كواكب أخرى يمكنها أن تكون صالحة للحياة؛ إذ إن شروط القابلية للسكن قد لا تعتمد فقط على نوع معين من الكواكب الصخرية التي توجد على مسافة معينة من النجم الذي تدور حوله؛ إذ تشير أبحاث أخرى حديثة إلى أن وجود عملاق غازي في النظام نفسه يمكن أن يكون حاسمًا أيضًا، بسبب تأثير الجاذبية في كل من الكوكب والأجسام الخطرة المحتملة في النظام الخارجي، والتي تهدد هذا الكوكب. سيساعدنا تحديد خصائص الأرض والنظام الشمسي التي لعبت دورًا مهمًّا في القابلية للسكن على تضييق نطاق البحث عن حياة خارج كوكب الأرض.