بشكل عام، يميل سكان الريف إلى الهدوء والاستقرار؛ نظرًا إلى طبيعة «الشعوب النهرية»، ونتيجة لطباع المزارعين المرتبطين بأراضيهم الزراعية، إلا أن «ريف المغرب» يُعرف عنه أنه قاد حركات مقاومة الاستعمار الفرنسي والإسباني، ومنه اشتعلت شرارة الاحتجاجات على تدهور الأحوال المعيشية والسياسية خلال السنوات الأخيرة.
ويطلق «ريف المغرب» على تلك المنطقة الجبلية الممتدة على شكل قوس كبير على ساحل البحر المتوسط، بدءًا من مضيق جبل طارق ومدينة طنجة غربًا، إلى ملوية على حدود الجزائر شرقًا، ويحده من الشمال جبال صخرية غالبًا ما تكون صلبة ومنيعة على طول الساحل المتوسطي، وتنخفض جنوبًا باتجاه التلال السفلى المعروفة بتلال مقدمة الريف.
ويشتهر ريف المغرب بجباله الوعرة التي تتميز بقممها الشاهقة وغطائها النباتي الكثيف، وتنتشر فيها غابات الصنوبر والأرز، وتوجد في منطقة الريف عدة مدن؛ أبرزها تطوان، والحسيمة، والناضور، وشفشاون، وتاونات.
ومن بين مدن المنطقة أيضًا مدينتا سبتة ومليلية، اللتان تحتلهما إسبانيا إلى جانب جزر متفرقة على البحر المتوسط تحديدًا، ويطالب المغرب باستردادهما.
سكان الريف خليط من «ريافة» و«جْبَالة»
أغلب سكان ريف المغرب من الأمازيغ، ويُسمون «ريافة»، ومنه أخذوا تسمية منطقتهم بالريف، ويتحدثون لهجة «تريفيت» (أحد الفروع الثلاثة للغة الأمازيغية بالمغرب)، كما أن الثقافة الأمازيغية هي السائدة في الإقليم، وهي هويته الأبرز.

جبال الريف بين الطرقة والحسيمة
وينتشر الأمازيغ الريافة في وسط ريف المغرب وشرقه، كما تتعايش معهم منذ القدم مجموعات أخرى، منها «صنهاجة» وهم أمازيغ كذلك. ويسكن في الجانب الغربي من الريف مجموعات بشرية أخرى تعرف بـ«الجبالة»، وهي خليط من العرب والمورسكيين، وهم المسلمون الذين عادوا إلى المغرب واستوطنوه بعد سقوط غرناطة عام 1492م.
ويعاني سكان ريف المغرب من غياب بنية اقتصادية قوية؛ مما يجعل الاقتصاد الموازي (التهريب) مصدرًا مهمًّا للدخل بالنسبة للعديد من العائلات، التي تهرب بضائع من المدينتين المغربيتين المحتلتين سبتة ومليلية.
فقد عرفت المنطقة – خاصة مدينة كتامة- بزراعة وتجارة القنب الهندي (الحشيش) وتهريبه إلى أوروبا، ولم تفلح الحملات الأمنية في المغرب أو حتى على حدود أوروبا في وضع حد لها.
كذلك تشكل السياحة مصدرًا آخر لدخل السكان، إذ تتمتع المنطقة بسلسلة جبلية يجعل منه مكانًا مفضلًا لعشاق المناظر الطبيعية، بينما تشكل الشواطئ الممتدة على طول ساحل المتوسط هدفًا للسائحين.
تاريخ ريف المغرب من الفتوحات والمقاومة
يتميز أهل ريف المغرب بالاعتزاز بتاريخهم المليء بالأمجاد والأبطال، بدءًا بمشاركة الأمازيغ بفعالية في الفتوحات الإسلامية، ومن أعلامهم في هذا الباب فاتح الأندلس طارق بن زياد، الذي سمي المضيق الواصل بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي باسمه. كما شكلت المنطقة شوكة في حلق الاحتلال الإسباني، الذي كان يسيطر على مناطق في شمال وجنوب المغرب.
فقد لقي المحتلون صعوبة في التغلغل في المنطقة، ووُوجهوا بمقاومة شرسة قادها محمد الشريف أمزيان، خلال الفترة ما بين 1906 و1912.
وبعد وفاة الشريف أمزيان، استمرت المقاومة بقيادة عائلة الخطابي، وقد استعصى على الاحتلال في ظل المقاومة القوية لأهل الريف بسط سيطرته على المنطقة.
الريف.. شوكة في حلق الاحتلال
في عام 1912 توصلت فرنسا وإسبانيا لاتفاق بمقتضاه اقتسم المغرب بينهما؛ فخضعت منطقتا الريف والصحراء للحماية الإسبانية، في حين خضعت بقية البلاد للحماية الفرنسية.
محمد عبد الكريم الخطابي
وبعد الحرب العالمية الأولى برز في المنطقة الشرقية من الريف الأمير عبد الكريم الخطابي، الذي كان الحاكم الفعلي لمنطقته آنذاك، والذي بدأ عمليات المقاومة العسكرية ضد الاحتلال الإسباني عام 1920، ولكنه توفي في العام نفسه، فخلفه نجله «محمد»، الذي اشتهر باسم الأمير محمد عبد الكريم الريفي.
وفي بداية عهده تقدم الجيش الإسباني واحتل مدينة «أنوال»؛ فحذرهم الخطابي من التقدم أكثر من ذلك، ووقع الصدام وحدث ما لم يتوقعه الإسبان.
معركة أنوال أو ما يعرف بالـ«كارثة»
في يوم 21 يوليو (تموز) 1921 وقعت معركة «أنوال»، التي تواجه خلالها المقاومون بقيادة محمد عبد الكريم الخطابي وقوات الاحتلال الإسبانية، وتمكنت المقاومة الريفية، رغم قلة عدد جنودها وبساطة أسلحتهم، من إلحاق هزيمة كبيرة بالإسبان، الذين صاروا يصفونها بـ«كارثة أنوال».
وقد بلغت خسائر القوات الإسبانية 19 ألف قتيل و4300 جريح و570 أسيرًا، في مقابل 500 قتيل و600 جريح في صفوف مقاومي الريف، وهذا ما جعل المندوب السامي الإسباني الجنرال بيرنجر يصرح عند وصوله إلى مليلية يوم 24 يوليو 1921، بأن: «هذه أكبر كارثة عسكرية عرفتها إسبانيا في تاريخها» وفق ما ورد في كتاب: «محمد بن عبد الكريم الخطابي.. صفحات من الكفاح المغربي ضد الاستعمار».
وفي مقابل خسائر إسبانيا، غنم ثوار الريف بقيادة الخطابي ما يزيد على 100 مدفع ثقيل، و200 مدفع صغير، ونحو ألف رشاش، وما يزيد على 30 ألف بندقية، وملايين الطلقات والقنابل وغير ذلك من الملابس والأدوية والمواشي وكميات كبيرة من المؤن الغذائية.
عدم تحرير «مليلة».. أكبر خطأ اقترفه الخطابي
بعد انتصارهم على القوات الإسبانية، لاحق مقاتلو المقاومة الريفية ما تبقى منهم وطردوهم من جميع مراكز الاحتلال في المنطقة، إلى أن بلغوا «مليلية» التي أصبحت قاب قوسين من تحريرها من الاحتلال الإسباني، وفق كتاب «محمد بن عبد الكريم الخطابي صفحات من الكفاح المغربي ضد الاستعمار». ورغم ذلك، آثر الخطابي عدم تحريرها لاعتبارات متعددة.
الخطابي تحدث عن ذلك الأمر، قائلًا: «وصلت إلى أسوار «مليلية»، وهناك توقفت ومنعت المجاهدين من القيام باحتلال-تحرير المدينة خوفًا من أن يُحدث ذلك مشكلات دولية»، معترفًا: «واليوم أتأسف على ذلك القرار الخاطئ وأعترف أنه كان أكبر خطأ ارتكبته في حياتي». وما زالت «مليلة» ترزح تحت الاحتلال الإسباني حتى يومنا هذا.
إعلان جمهورية الريف.. وتحالف إسبانيا مع فرنسا
في فبراير (شباط) عام 1923 دعا محمد عبد الكريم الخطابي كافة قبائل منطقة الريف لاجتماع عام، واتفق الجميع على الدفاع عن أرض الريف وتأسيس نظام سياسي. فتشكل مجلس شورى عام عرف بـ«الجمعية الوطنية لتنظيم المقاومة الوطنية» وإدارة شؤون البلاد. وكانت أولى قرارات المجلس إعلان استقلال الريف وتأسيس الجمهورية.
أدرك الإسبان عجزهم الكامل عن مقاومة الشعب الريفي، فاستعانوا بقوى الاستعمار، لا سيما فرنسا، وتحالفوا مع الفرنسيين ضد الخطابي وقواته.
كان مجموع القوات الفرنسية في المغرب في ذلك الوقت 65 ألف جندي ومن بينهم مغاربة مجندون في الجيش الفرنسي، وكانت فرنسا ترى أن هذه القوات غير كافية لدخول حرب في الريف؛ لذلك أرسلت قوات إضافية أخرى حتى بلغ مجموع هذه القوات 158 ألف مقاتل.
في رمضان 1343 هـ/ أبريل (نيسان) 1925 م، وقعت شرارة الصدام بين الفرنسيين وعبد الكريم الخطابي، وذلك عندما أمدّ الفرنسيون زعماء الطرق الصوفية بالمال والسلاح لتشجيعهم على إثارة الاضطرابات في المنطقة، فأدى ذلك إلى مهاجمة الريفيين لبعض الزوايا قرب الحدود، ووجد الفرنسيون في ذلك حجة للتدخل لحماية أنصارهم الصوفية.
وعندما بدأ القتال فوجئ الفرنسيون بقوة الريفيين، وحسن تنظيمهم، وقدراتهم القتالية، فاضطروا إلى التزام موقف الدفاع مدة أربعة أشهر، واستطاعت بعض قوات الريف التسلل إلى مسافة 20 ميلًا بالقرب من فاس، وخسر الفرنسيون خسائر فادحة، ووقع كثير من أسلحتهم في أيدي الريفيين.
بعد ذلك استمرت المعارك الطاحنة التي شنها الإسبان والفرنسيون ضد «الخطابي» واستخدمت قوات الاحتلال الغازات السامة التي ما زال شمال المغرب يعاني من آثارها إلى اليوم – إذ تسجل في المنطقة أعلى نسب الإصابة بالسرطان في البلاد- حتى أرغموه على الاستسلام، واعتُقل ونُفي إلى جزيرة لارينيون في المحيط الهندي، ثم أخيرًا قررت نفيه إلى العاصمة الفرنسية باريس، وقد هرب أثناء مرور سفينته في قناة السويس، واستقر في القاهرة من ٢٩ مايو (أيار) 1947 وحتى وفاته عام 1962.
في عام 1956 أعلنت فرنسا وإسبانيا إنهاء حمايتهما على المغرب، وباتت منطقة الريف تحت سيادة سلطان المغرب محمد الخامس. لكن لم يؤد ذلك لاستقرارها، فسرعان ما شهدت حالة من الاضطراب والتوتر في عامي 1958 و1959 احتجاجًا على ما وصفه المحتجون بتهميش المنطقة وسوء أوضاعها، فضلًا عن استمرار وجود الخطابي وأسرته في المنفى، وقد نجحت السلطات المغربية في السيطرة على الموقف.
التاريخ يعيد نفسه والاحتجاجات تتجدد
يمكن القول إن التاريخ يعيد نفسه في ريف المغرب المتمرد، بعد مرور نصف قرن على الأحداث التي شهدها، والتي اتسمت بعمليات القمع من قبل الجيش المغربي، لطمس أي بادرة من بوادر الثورة. ورغم ذلك عادت موجة الاحتجاجات لتكتسح ريف المغرب مرة أخرى مع عناصر فاعلة وأبطال جدد، ولكن لأهداف مماثلة ومتشابهة.
من الواضح أن السبب وراء هذه الاحتجاجات وتأجج نار الغضب الريفي، هو أن الوضع في المنطقة لم يسجل أي تحسن يذكر. علاوة على ذلك، ما تزال المشاكل التي لطالما أنهكت هذه الأراضي الفقيرة على حالها. وقد مثلت كل هذه العوامل حافزًا للتمرد، ودافعًا رئيسيًّا للنزوح إلى مناطق مغربية أكثر ازدهارًا أو الهجرة إلى أوروبا.
وفي عام 1984 تجددت الاحتجاجات في المنطقة ضد «التهميش» أيضًا، وقد نجحت السلطات في السيطرة على الوضع مجددًا. وكانت مدينة الحسيمة مركز الاحتجاجات التي تعرف «بانتفاضة الخبز» عام 1984. وهي المدينة الوحيدة التي سقط فيها قتلى في احتجاجات 2011.
احتجاجات ضد عسكرة الريف
منذ ديسمبر (كانون الأول) 2016، تشهد منطقة الريف، توترًا منذ مقتل بائع السمك محسن فكري، مطحونًا في شاحنة نفايات، عندما أراد استعادة سلعته التي صادرتها الشرطة منه.
وحاولت السلطات المغربية تهدئة الوضع واحتواء الحادث الفظيع، فأرسلت وزراء وكبار المسؤولين، إلى مدينة الحسيمة، وأصدرت المحاكم قرارات إدانة في حق الضالعين في مقتل فكري. ولكن يبدو أن الأمور كانت قد خرجت عن سيطرة المسؤولين.
تبنى الشارع القضية، في مسيرات ومظاهرات تجاوزت مطالب القصاص والعدالة، إلى العزلة، والبطالة، والفقر، والخدمات الاجتماعية التي تفتقر إليها منطقة ريف المغرب، التي تعد من أفقر المناطق في المغرب.
الاحتجاجات الأخيرة قادها ناصر الزفزافي، الذي تحول إلى زعيم الريف الجديد. إذ تمكن من قيادة مظاهرات جماهيرية. ورفعت خلال هذه الاحتجاجات شعارات تنادي بالعدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، والمزيد من فرص التشغيل للريفيين الشباب، الذين أصيبوا بالإحباط وخيبة الأمل نتيجة لحالة البطالة التي يعيشونها.
خلال هذه الاحتجاجات، رفعت شعارات أخرى تندد بالطابع العسكري المفروض على المنطقة. وتجدر الإشارة إلى أن عسكرة الريف قد فرضت على المنطقة إثر ثورة وقعت خلال سنة 1959. وقد استغل الملك الحسن الثاني تلك الانتفاضة ذريعة لفرض قواعد عسكرية في هذه المنطقة المتمردة، وتحييد الريف.
الريف بين مطالب الحرية ودعوات الانفصال
في المقابل، وفي الوقت الراهن، لا تعد المطالب السياسية، على رأس أولويات ريف المغرب. فأثناء الانتفاضة الأولى كانت المطالب السياسية ذات طابع انفصالي، نظرًا إلى أن منطقة الريف كانت أراضي للأمازيغ، الذين يتمتعون بلغة خاصة وعادات وتقاليد منفردة.
وعلى الرغم من كون الملف المطلبي الذي بلورته قيادة الحراك الريفي، يحتوي بالأساس على مطالب اجتماعية واقتصادية وحقوقية، فإن بعض الخطابات الرائجة داخل الحراك أثارت نقاشات حادة بين المغاربة بشأن النزعة الانفصالية لدى بعض المحتجين.
فقائد حركة الاحتجاج ناصر الزفزافي – المسجون حاليًا- ناشط بما يسمى بـ«الحركة الأمازيغية»، وهي حركة ثقافية تحولت لتيارٍ سياسي يدَّعي أن هدفه الدفاع عن الهوية والثقافة الأمازيغية ضد «الطمس والتعريب». وبعض ناشطي الحركة يظهرون ميولًا للتطرف والرفض إزاء كل ما له صلة بالعربية، إضافة إلى ظهور أعلام «الجمهورية الريفية»، والعلم «الأمازيغي» في قلب الاحتجاجات الريفية.
عناصر مريبة أخرى دفعت عددًا من المغاربة إلى التنبيه لوجود مخطط خطير يهدف لتقسيم المغرب إلى عدة دويلات، ونقل حلبة ما يسمى «الفوضى الخلاقة» من الشرق الأوسط لشمال أفريقيا، إلا أن تعامل كل من قادة الحراك والسلطات الحكومية تعاملًا عاقلًا مع هذه العناصر يجعلها مجرد ميول لدى بعض الأفراد والحركات في نطاق ضيق.