تمتد جذور العلاقات المغربية الإسبانية إلى حقب غابرة في التاريخ، بحكم التماس الجغرافي والحضاري بين البلدين، حيث يجسد المغرب البعد الأفريقي العربي الإسلامي، فيما تمثل إسبانيا البعد المسيحي الأوروبي العلماني، ليشكل كل منهما بوابة عالمين مختلفين ثقافيًّا، لكنهما يطلان على بعضهما في نافذة البحر الأبيض المتوسط.

وعلى امتداد قرون من الزمن، عرف هذان العالمان أشكالًا عديدة من التفاعل الثقافي، من خلال الحروب والتجارة والهجرة، التي شكّلت على مدار الزمن العلاقات التاريخية والسياسية بين المغرب وإسبانيا، حتى أصبحت اليوم هذه العلاقات محكومة برواسب الماضي، وشبكة المصالح المعقدة بين البلدين.

المغرب وإسبانيا وعداوة التاريخ

يملك المغرب مع إسبانيا تاريخًا حافلًا بالحروب والصراعات المريرة، يعود إلى 146 سنة قبل الميلاد، عندما أطاح الرومان بحضارة قرطاجة، وألحقوا مملكة نوميديا المستقرة بشمال المغرب آنذاك بإمبراطوريتهم.

غير أن مكوث الإغريق لم يطل كثيرًا، فسرعان ما انتفضت ضدهم مملكة النوميديين، ودخلت معهم في حربٍ أهلية لعقود، إلى أن تخلت الإدارة الرومانية عن مناطق المغرب باستثناء سلا وأكادير سنة 258م، ثم تلاشى الوجود الروماني بشكل تام من المغرب خلال القرن الخامس الميلادي.

ومع القرن التاسع الميلادي، بعد «الفتح الإسلامي» لشمال أفريقيا، سيطر المرابطون والموحدون على إسبانيا، وأقاموا بها مماليك الأندلس، لتتمكن الممالك القشتالية المسيحية فيما بعد من طرد العرب والمسلمين من إسبانيا في نهاية القرن الـ15، وظلت مياه البحر الأبيض المتوسط حلبة لقرصنة السفن الإسبانية من قبل حركات الجهاد البحري بشمال أفريقيا حتى مطلع القرن الـ19.

untitled1ثم عاد الأوروبيون الإسبان مرة أخرى إلى احتلال شمال المغرب في حقبة الاستعمار الحديث، وفي نفس الفترة استعان الجنرال فرانكو بعشرات الآلاف من المغاربة لسحق الجمهوريين الإسبان إبان الحرب الأهلية الإسبانية (1936- 1939).

وقد تخلل هذه الحروب المريرة بين المغرب، والإسبان العديد من الإبادات الجماعية، ومجازر القتل، وأعمال النهب، والاضطهاد المتبادل؛ مما خلف ندوبًا عميقة في ذاكرة البلدين المتجاورين، جعلت من الصعوبة تجاوز مشاعر الحقد والانتقام الدفينة بين الطرفين حتى وقتنا الحاضر.

ففي الوقت الذي تصور فيه بعض وسائل الإعلام الإسبانية المغاربة المسلمين «كمجموعة من الرعاع الهمجيين الذين ألحقوا الأذى الكثير بإسبانيا»، ما يزال قطاع كبير من ساكنة شمال أفريقيا يحلمون باستعادة الأندلس إذا ما امتلكوا القوة.

الاقتصاد والثقافة طريق التصالح بين المغرب إسبانيا

وعلى الرغم من العداء التاريخي الدفين بين المغرب، وإسبانيا، إلا أن تغيرات المحيط الدولي وجغرافية الواقع، علاوة على التفوق الإسباني، جعل الشراكة الاقتصادية بين البلدين أمرًا ضروريًّا للحفاظ على المصالح الكبرى للبلدين في عصر العولمة، واقتصاد السوق الحر.

وفي هذا الإطار، وقَّعت إسبانيا والمغرب العديد من الاتفاقيات الاقتصادية الثنائية، كان أبرزها اتفاقية سنة 1993 بين البلدين، التي ظهرت آثارها سريعًا على أرض الواقع، حيث أصبحت إسبانيا ثاني مستثمر اقتصادي في المغرب بعد فرنسا، وبالمقابل شكّلت السوق الإسبانية والأوروبية الوجهة الأولى للصادرات الفلاحية والنسيجية المغربية، بالإضافة إلى التحويلات المالية المهمة التي تغتنمها المملكة من قرابة مليون مهاجر مغربي يعيش في إسبانيا.

بجانب ذلك، تستفيد إسبانيا من الحصة الكبرى من اتفاقية الصيد البحري المبرمة بين المملكة المغربية، والاتحاد الأوروبي، حيث تتمكن بموجبها عشرات السفن الإسبانية المجهزة بأحدث التقنيات من صيد أطنان من الأنواع البحرية في المياه المغربية.

كما تعمل العديد من المؤسسات الثقافية على تطبيع العلاقات الثقافية بين المغرب، وإسبانيا، سواء فيما يخص التعريف بالتاريخ المشترك، أو فيما يرتبط برهانات البلدين المشتركة.

مشاكل عالقة بين المغرب وإسبانيا

عرفت العلاقات المغربية الإسبانية تحسنًا ملفتًا خلال القرن الواحد والعشرين، خاصة في عهد الاشتراكيين، بشكل لم تعرفه أي حقبة سابقة في تاريخ البلدين، وذلك بفضل الشراكات الاقتصادية والثقافية المبرمة بين البلدين، والزيارات الدبلوماسية المتبادلة، بالإضافة إلى احتضان إسبانيا مئات الآلاف من المغاربة المهاجرين. لكن ما تزال بعض الغيوم تلبد سماء العلاقات الثنائية بين البلدين، حيث تقف قضيتي «الصحراء» و«سبتة ومليلية» حجرة عثرة أمام تطور هذه العلاقات.

تقف إسبانيا في وضع مخالف لطرح المغرب إزاء قضية الصحراء، جسَّده تصريح فيليبي السادس الذي قال في اجتماع الأمم المتحدة سبتمبر (أيلول) الماضي، إن بلاده «تدعم حل تقرير المصير في قضية الصحراء، وتدعم جهود الأمم المتحدة لإيجاد حل سياسي عادل ودائم، سيسمح بحق تقرير المصير لشعب الصحراء في إطار ينسجم مع مبادئ الأمم المتحدة ومقاصدها».

مثلما تحرص الهيئات الإسبانية على الترويج لطرح جبهة البلوليساريو الانفصالي داخل أروقة الاتحاد الأوروبي، علاوة على حرصها على متابعة أوضاع حقوق الإنسان بمنطقة الصحراء.

ومن جهة أخرى، ما يزال ملف سبتة ومليلية المحتلتين مجمدًا، حيث ترفض إسبانيا فتح أي مفاوضات في هذا الشأن، وبالمقابل لا يعير المغرب اهتمامًا للمدينتين الواقعتين تحت حكم إسبانيا، بحكم انشغاله بقضية الصحراء، إلا أن إسبانيا تتوجس من الوعي المتنامي بالسيادة المغربية.

وكانت حادثة 2002، المتعلقة بإحدى الجزر المتناثر بالبحر الأبيض المتوسط، على وشك أن تعصف بالعلاقات السياسية بين البلدين، بعد أن قامت إسبانيا بإنزال قوات خاصة للسيطرة على جزيرة «ليلى» المحاذية لجبل طارق، بسبب إقدام المغرب على رفع العلم المغربي، ما كاد ينذر بحرب، لولا التدخل الأمريكي.

وبالرغم من التطبيع الاقتصادي والسياسي، فما تزال السياسة الإسبانية تنظر للمغرب كخطر محتمل قد يهدد وجودها مستقبلًا، ومن ثمة تعتبر قضية الصحراء، وملف سبتة ومليلية خطين أماميين لحماية إسبانيا من أي تهديد قادم من المغرب.

رهانات سياسية مشتركة

بالرغم من رواسب الماضي السلبية، والمشاكل العالقة بين المغرب، وإسبانيا، إلا أن هناك وعيًا من كلا الجانبين بأهمية الحفاظ على الحوار لتذليل الصعوبات، والتعاون لتحقيق التنمية والاستقرار بالمنطقة الأورومتوسطية.

ويعد «الإرهاب» أهم الرهانات التي تحرص إسبانيا على التعاون مع المغرب من أجل تقويضه، ولا سيما أن متطرفين مغاربة كانوا حاضرين بشكل بارز في عشرات «العمليات الإرهابية» التي ضربت إسبانيا وأوروبا عمومًا في السنين الأخيرة.

يؤكد هذا الأمر ما أوردته جريدة «أيه بي سي» الإسبانية نقلًا عن مسؤول أمني قوله بأن «خطر الحركات الجهادية ضد الأمن القومي الإسباني لا يوجد داخل حدود إسبانيا؛ بل يوجد خارج الحدود، وبالضبط في المغرب»، مضيفًا بأن تعرض إسبانيا لعمل إرهابي أهون من حدوث فوضى أمنية في المغرب.

على صعيد آخر، ترى إسبانيا المغرب «شرطي الحدود الأول» لوقف الهجرة السرية، حيث يعتبر شمال المغرب نقطة انطلاق المهاجرين الأفارقة والمغاربة نحو أوروبا؛ مما دفع بالجارة الأوروبية إلى تمويل برامج أمنية وتنموية للمغرب، مقابل الحد من تدفق المهاجرين، الذين أصبحوا يشكلون عبئًا اقتصاديًّا وأمنيًّا على أوروبا، وأيضًا لوقف تهريب المخدرات.

تتلخص إذًا العلاقات المغربية الإسبانية، في حاجتهما للاستقرار، ففي حين يجد المغرب في إسبانيا شريكًا اقتصاديًّا مهمًا، ومنجمًا للتحويلات المالية من قبل المهاجرين، تنظر إسبانيا للمغرب كصمام أمان أولي لتدفق الإرهاب والمهاجرين السريين، ما ساعد في توطيد العلاقات بين البلدين بالرغم من المشاكل العالقة، وتركة الماضي الدفينة.

عرض التعليقات
تحميل المزيد