أثار إلغاء زيارة الملك المغربي محمد السادس باتجاه العاصمة الماليّة باماكو، العديد من التساؤلات وراء هذا القرار الذي تشير دوافع إلى وجود يد جزائرية طويلة في الموضوع، كما يُعتبر الحراك الدبلوماسي المغربي في القارة الإفريقية مؤخرًا، بقيادة الملك، ردة فعل واستثمارًا في التراجع الدبلوماسي الجزائري في المنطقة.
وتتابع وسائل الإعلام الدولية باهتمام السفر الطويل للملك المغربي نحو عدد كبير من الدول الإفريقية، إذ وصلت إلى أكثر من 39 زيارة منذ استلامه الحكم عام 1999، كما عقد محمد السادس أكثر من 110 اتفاقية تعاون ثنائي خلال الأشهر الأخيرة، تشمل قطاعات الفلاحة، والبنوك، والمالية، والسياحة، والطاقة المتجددة، وخدمات الاتصالات والنقل.
وفي عالم التجاذبات والصراعات الدولية والإقليمية، تعتبر منطقة الصراع محددًا مميزًا، لقيمتها ومكانتها لدى القوى والدول المتنافسة عليها، ولعل منطقة شمال إفريقيا والمغرب العربي بالأخص، تعد من أهم المناطق على المستوى الجيوسياسي لمحطيها البحري الممتد من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي، بالإضافة إلى وجودها كبوابة لمنطقة الساحل الإفريقي الغني بالثروات.
وتعتبر الجزائر والمغرب، الجدار الحاجز بين قلب إفريقيا وأوروبا، وأهم دولتين وقوتين إقليميتين، بإمكانها أداء دور مشابه لتركيا وإيران في الشرق الأوسط في المستقبل، إذ تجمعهما الحدود واللغة والعرق، ولكن تفرقهما السياسة والصراع الدبلوماسي الشديد، منذ أكثر من أربعة عقود، إذ وصل في وقت سابق إلى الحرب العسكرية، ويستمر حتى الآن عبر وسائل الإعلام، والتغول في الهيئات والمؤسسات الدولية.
تاريخ الصراع.. وصراع التاريخ بين أحفاد المُوحّدين
عاش المغرب أغلب أوقاته التاريخية مُستقلًا منفردًا بالسلطة والحكم، وكان أقطاب الحضارة الإسلامية في التاريخ القديم، كما كان مستقلًا عن الخلافة العثمانية في غالب أوقاتها، بينما كانت الجزائر تعاني الكثير من الهيمنة والتبعية، وتغيّر السلطة الحاكمة، حتى جاء الاحتلال الفرنسي ليحكم قبضته على شمال إفريقيا بشكل عام، وعلى الجزائر بشكل خاص، نظرًا للموقع الجغرافي، والثروات الهائلة التي تتمتع بها.
وتعود جذور الصراع وأسبابه، إلى قضية الحدود بين الدولتين، وما ينبني عليها مستقبلًا، إذ يطالب المغرب بحدوده كما كانت قبل مجيء هذا الاستعمار، والتي تمثل معاهدة لالة مغنية في 18 مارس (آذار) 1845 إطارًا مرجعيًّا لها، وهي المعاهدة التي وقعها المغرب مع فرنسا، بعد هزيمته بمعركة إيسلي في 14 أغسطس (آب) 1844، بسبب دعمه لثورة الأمير عبد القادر الجزائري.
وفي تلك المعاهدة نُصّ على استمرارية الحدود التي كانت بين المغرب، وتركيا (الدولة العثمانية)، لتصبح هي الحدود بين المغرب، والجزائر، ومنذ حصول الدولتين على استقلالهما، والخلاف قائم بينهما، وقد نجم عن هذا الخلاف الحدودي مواجهات عسكرية بين البلدين عرفت بحرب الرمال في شهر أكتوبر (تشرين الأوّل) 1963، بعد تصاعد الأحداث الحدودية طيلة شهري يوليو (تموز)، وسبتمبر (أيلول) من نفس السنة.
الصحراء الغربية الشجرة التي تغطي الغابة
تمّ احتواء النزاع بعد تدخلات عربية وإفريقية، كما عالج لقاء مصغر في القمة العربية بالقاهرة عام 1964 بعض أسبابه، وبعد اكتشاف الحديد بالصحراء الغربية، ومحطيها الجغرافي الممتد إلى الأراضي الجزائرية (غار جبيلات) في تندوف الحدودية، تجددت المطالب المغربية بضرورة تسوية المشكلة.
واكتسب النزاع بعدًا دوليًّا بتلوّنه بصراعات الحرب الباردة، واصطفاف المغرب لجهة الولايات المتحدة، في مقابل اصطفاف الجزائر لجهة الاتحاد السوفيتي، ولا سيّما بعد انقلاب هواري بومدين في 1965، ولم يخل التوتر من صدامات عسكرية في 1967، وهو ما أدى بالمغرب لطرح النزاع على هيئة الأمم المتحدة.

الزعيم الجزائري هواري بومدين (يمين)
وما غذى النزاع بقوة هو صعوبة استغلال الحديد المكتشف، إلا إذا تم نقله عبر الصحراء في اتجاه المحيط الأطلسي، أي عبر المرور على الأراضي الصحراوية المتنازع حولها، باعتبار الكلفة لنقله من منطقة تندوف إلى الساحل المتوسطي للجزائر في الشمال باهظة، وغير ممكنة في ذلك الوقت، وتشير بعض المصادر إلى أن النزاع الصحراوي يُغذيه بشكل مستمر الوكلاء في المنطقة «جبهة البوليساريو».
التقارب الأوروبي على حساب الامتداد الإفريقي
وتعتبر القارة الإفريقية الساحة الأبرز للصراع الدبلوماسي الجزائري المغربي، ويتجلى هذا الصراع على مختلف الأصعدة والملفات، وأهمها الأمن والاقتصاد، إذ تمتلك الجزائر ذات المساحة الأكبر في القارة، والثروات الأغنى، اليد الطولى في ملفات النزاع الحدودية، خاصة في رعاية النزاع المالي الأزوادي، والنزاع الليبي الليبي، كما أن المخابرات الجزائرية ذات قوة، ونفوذ، واختراق للجماعات المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي.
وإضافة إلى التمكن الأمني للجزائر تعد قوتها الاقتصادية وثراؤها المادي نسبة لعائدات النفط والثروة البترولية، القوة التنافسية الكبرى في الصراع الدبلوماسي، إذ تستخدم ورقة تمويل المشاريع الإفريقية والدول الفقيرة، وسيلةً لجلب الدعم للقضايا والآراء التي تتبناها الدولة الجزائرية، خاصة ما تعلق بقضية الصحراء الغربية، وتبني قراراتها في منظمات وهيئات الاتحاد الإفريقي.
وفي المقابل تمتلك الدولة المغربية قوة منافسة ومعتبرة كذلك على المستويين الأمني والاقتصادي، فالدولة المطلة على البحر المتوسط، والمحيط الأطلسي، والأقرب جغرافيًّا إلى أوروبا عبر حدودها مع إسبانيا، تمتلك قوةً تفاوضيةً حول ملف المهاجرين، جعلها كذلك تناور على المستوى الإفريقي في هذين الملفين. وتنظر الجزائر بعين الريبة للتقارب الأوروبي المغربي، خاصة الجانب الفرنسي الذي يقف إلى جانب الجارة الملكية أكثر من اللازم.
ماذا عن المستقبل بعد العودة إلى الاتحاد الإفريقي؟
ولعل ما حدث أخيرًا من عودة المغرب إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، يعد نصرًا دبلوماسيًّا مهمًّا لصالح المملكة، إذ انتقلت من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم، وتبنت استراتيجيةً جديدةً في الصراع بالابتعاد عن سياسة الكرسي الشاغر، فصارت تسعى جاهدة لاكتساب صداقات وعلاقات أكبر وأوثق، مع الدول الإفريقية، خصوصًا الـ40 دولة التي صوتت على عودتها بدون تحفظ إلى الاتحاد القاري، وهو ما يفسر الزيارات المكوكية، التي قادها محمد السادس إلى الكثير من الدول الإفريقية خلال الفترة الماضية.
اقرأ أيضًا: زيارات ملكية لرواندا وتنزانيا وإثيوبيا.. ما الذي يريده المغرب من إفريقيا؟
وتسعى الرباط مع العودة إلى المنظمة القارية إلى التموضع في مركز قوة داخل هيئات ومؤسسات الاتحاد الإفريقي، مُستغلة التراجع الدبلوماسي للجزائر في القارة، إذ تنتظر سلطات الدولة الأكبر مساحةً في إفريقيا (الجزائر)، تحديات داخلية كبيرة بخصوص اختيار «خليفة بوتفليقة»، وهو ما يؤدي إلى صراع حول السلطة مجددًا، بالإضافة إلى تراجع المداخيل المالية للجزائر، في ظل انهيار الأسعار العالمية للنفط.
ويبدو في الأخير أن الهدف من وراء الحراك القوي للمغرب، هو تضييق الخناق على جبهة البوليساريو داخل القارة الإفريقية، في إطار السعي النهائي إلى تقويضها، وكذلك تفكيك تحالف الجزائر وجنوب إفريقيا من خلال لعب ورقة العلاقات الاقتصادية، مع الكثير من دول القارة، ولعل التعاون الاقتصادي للرباط مع أبوجا (نيجيريا)، يدخل في هذا الإطار، إذ سحبت الاتفاقيات الطاقوية من تحت أرجل الجزائر.
ويظهر جليًا مدى التقدم الذي حققه المغرب على الصعيد الدبلوماسي الإفريقي، في التصريح الذي أدلى به الرئيس الصحراوي إبراهيم غالي: «كل الاحتمالات واردة بعد عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي»، وهو ما قد يفسر إحساس الجبهة بمدى خطر هذا الإجراء الداهم على قوتها، ونفوذها داخل أورقة الاتحاد الإفريقي.