لا يمكن إنكار حقيقة أن الخيال هو الشقيق الشرعي للأدب، يحتاج الأديب إلى خيال يبتدع به شخصياته، وينغمس في نفسيتها، ليرسمها أولا في عقله بحنكة ثم ينقلها إلى الورق. قد يستند بعضها إلى أحداث حقيقية أو لا؛ لكن هل الأدب يقبل الخداع؟ 

فلنتفرض أن شخصًا ما أعلن أنه عثر على مراسلات أدبية بين نجيب محفوظ وأديب مغمور، حتما ستنفجر الأوساط الثقافية تهليلًا وتصفيقًا فمن لا يتمنى أن يقرأ المزيد من إنتاج نجيب محفوظ، ثم بدأ النقاد العرب بمراجعة الرسائل واكتشفوا أنها مزورة وليست حقيقية. هذا ما يسمى خداعًا لا خيالًا.  وفي هذا التقرير سنكتشف العديد من الأعمال الأدبية المزورة، التي كُتِبت إما رغبة في جني الشهرة وإما المال. 

«مراسلات ليز إزرائيل»: هل يمكنك أن تغفر لي؟

عندما نشرت الكاتبة الأمريكية ذات الأصول اليهودية ليز إزرائيل في عام 1985 السيرة الذاتية لأيقونة مستحضرات التجميل إستي لورد، انتقد النقاد الكتاب نقدًا لاذعًا، ففشل في تحقيق المبيعات المرجوة، الأمر الذي أدى إلى انزلاقها من العز الذي كانت تنعم به بعد أن أدرجت السيرة الذاتية التي سبق وأن كتبتها للصحافية والمقدمة التلفزيونية دورثي كيجان في قائمة الكتب الأكثر مبيعا بصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، إلى الحضيض. عقب هذا الفشل عانت ليز الويلات، أصبحت عاطلة عن العمل بسبب شخصيتها الفظة، فتراكمت الفواتير، وازداد إدمانها للكحول، وأصبحت شقتها فوضوية، عطنة الرائحة. 

في عام 1991م استولت ليز على بعض الرسائل التي كتبتها الممثلة المسرحية فاني بريس، ثم بدأت بإعادة صياغتها وتعديلها، وباعتها بمبلغ 40 دولارًا، كانت هذه أولى جرائمها، انطلت الخدعة على حاصدي التذكارات المتحمسين، فتحمست ليز، وابتاعت أوراقا قديمة، واستخدمت آلة كاتبة قديمة ليتدفق على يديها المزيد من الرسائل المزورة، إذ استطاعت تقليد التوقيعات بحرفية، فيما مكنها عملها كاتبة سير ذاتية من كتابة 400 رسالة أو أكثر لتصبح أكثر المزورين إنتاجًا.

كانت رسائل للأديب إرنست همنجواي، والكاتب المسرحي نويل كوارد والكاتبة دوروثي باركر، من بين ما باعته إلى مكتبات متواضعة بأسعار متواضعة تتراوح بين من 50 دولارًا إلى 100دولار كي لا تلفت إليها الأنظار. بل تمادت جرأتها، فسرقت بعض الرسائل الأصلية من أرشيف جامعتي هارفارد وكولومبيا بمساعدة صديقها جاك هوك.

ظلت ليز ما يقارب عامين تكتب رسائل وتوقِّع عليها وتبيعها على أنها أصلية، رغم  ارتياب النقاد من بعض التفاصيل الأدبية، مثل بوح الكاتب نويل كوارد بهويته الجنسية المثلية، والتي كانت جريمة في زمانه. حتى انقلب السحر على الساحر في عام 1993م، عندما تتبع مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) سجل الدخول والخروج إلى جامعة كولومبيا، عقب إبلاغ بائع التوقيعات ديفيد لونيهرز أن إحدى رسائل الأديب الأمريكي قد سرقت من أرشيف الجامعة.

أظهر التحقيق آنذاك، أن الرسالة الموجودة في الأرشيف مزورة، وأُثبتت التهمة على ليز، وألقى المحقق كارل بوريل القبض عليها، ولم تماطل ليز كثيرًا وأقرت بذنبها، فحكم عليها بالسجن لمدة ستة أشهر وفرضت عليها الإقامة الجبرية لمدة خمس سنوات.

اختفت ليز قليلًا ثم سلطت الأضواء عليها مجددًا، في عام 2008م، حين نشرت سيرتها الذاتية بصفتها مزورة أدبية تحت عنوان «هل يمكنك أن تغفر لي؟»، والتي كانت مادة دسمة التقطتها المخرجة الأمريكية مارييل هيلر، لتصنع منها فيلمًا سينمائيًّا يحمل العنوان ذاته في عام 2018م، أدت فيه الممثلة ميليسا مكارثي شخصية ليز، وقد رشحت لجائزة الأوسكار عن هذا الدور. 

«مذكرات هتلر»: فضيحة صحفية تطول «صنداي تايمز»

من عام 1981م إلى عام 1983، ظهرت مجموعة من اليوميات العتيقة المنسوبة إلى هتلر، والتي زُعم أنها نجت من تحطم طائرة في ألمانيا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية، ابتاعها تاجر تحف في شتوتغارت من تاجر تحف ألماني مهووس بتاريخ هتلر ومؤيد للنازية، اسمه كوجارد، حرص على  إخفاء هويته بعد توقيع البائع على وثيقة سرية تثبت ذلك.

وقبل أن تتدفق النسخ المطبوعة في الأسواق، اشترت مجلة «شتيرن» الألمانية حقوق النشر في عام 1983م، وبدأت بنشر صور هتلر وهيمر ورفاقه مصحوبة بمقتطفات من يوميات هتلر، ثم باعتها إلى «صنداي تايمز» الإنجليزية بمبلغ ربع مليون دولار، وقد أضفى تصديق أستاذ التاريخ الحديث، هيو تريفور روبر، على هذه اليوميات بعض المصداقية، وقد أبدى روبر شكوكه في أصوله، لكنه عاد وتجاهل شكوكه عندما زعمت مجلة «شتيرن» أنها فحصتها كيمائيًّا. 

رغم ذلك لم تزل دائرة الشك تدور حول اليوميات وأصولها المجهولة، حتى قدمت مجلة «شتيرن» المجلدات لتفحصها وكالة ألمانيا الغربية الفيدرالية، وأعلنت الوكالة زيف اليوميات، إذ إن الورق والحبر المستخدمين في كتابة اليوميات، صنعا بعد الحرب بثماني سنوات! وأن توقيع هتلر مزيف، بالإضافة إلى أن «ديكتاتور مثل هتلر، لم يكن ليستخدم كلمات مثل حقائق»، على حد تعبيرهم. 

عقب تأكيد زيف اليوميات تضررت سمعة كلٍّ من مجلة شتيرن والمؤرخ هيو تريفور روبر بشدة، فاضطر محررون من محرري المجلة إلى تقديم استقالتهم، وألقي القبض على كوجارد الذي أقر بجريمته، وحكم عليه بالسجن لمدة أربعة أعوام ونصف، ويبدو أنها لم تكن المرة الأولى، فقد باع عدة لوحات مزورة، مدعيًا أن هتلر هو من رسمها. 

«مسرحية فورتيجون وروينا» لشكسبير: عملية احتيال جريئة

قضى الشاب المراهق ويليام هنري أيرلند معظم وقته في مكتب صديق والده المحامي، بين الوثائق القانونية والمستندات العتيقة، والكتب النادرة والقطع الثمينة، فأغرته تلك التحف النفيسة، ليقلد توقيع شكسبير، ثم أراه إلى والده صموئيل أيرلند مدعيًا أنه عثر على صك شكسبير في أحد ممتلكات رجل غني، لا يأبه بهذه القطع النادرة.

كان والده مهووسًا بشكسبير حتى إنه تمنى لو يحصل على نص مكتوب بخط يديه، حين رأى الأب التوقيع المقلد اعتقد أنه أصلي، وحضه على جمع المزيد من الوثائق والمستندات، ومن هنا بدأت الفكرة تتقد في عقل ويليام، وخاصة بعد أن لمعت عينا والده للمرة الأولى، ذاك الوالد الذي لم يعترف به ابنًا له.

قطع ويليام جذوع الأشجار وانتقى منها ما يمكنه من صناعة أوراق عتيقة لكتابة عقود ووثائق مزيفة ثم نسبها إلى شكسبير، حتى إنه كتب رسالة غرامية زاعمًا أنها إحدى رسائل شكسبير إلى خطيبته آنا هاثواي، وعندما لم تشبع تلك الوثائق هوس الأب، ولم تُكشف أعماله المزورة، أقدم في عام 1794م على كتابة مسرحية عن قائد حرب يسمى فورتيجرن وقع في حب فتاة تدعى رونيا، استنبط شخصياتها من مسرحيات شكسبير، وزعم أنها إحدى المسرحيات الأدبية التي أخفاها شكسبير لأنها أفضل أعماله.  

Embed from Getty Images

بعد العثور على هذن المسرحية ذاع صيت صموئيل وولده ويليام وأصبح شارع نورفولك قبلة لكل عشاق شكسبير، حتى استقطب العديد من الأدباء والمؤرخين، وافتخرت أيرلندا بهذا الحدث العظيم. وقرر الكاتب والمخرج  المسرحي ريتشارد برينسلي تحويلها إلى مسرحية، رغم عدم اقتناعه التام بها، بسبب ركاكة الأسلوب والشعر المبتذل، لكنه رغب في أن العرض الأول للمسرحية يعفيه من كثرة ديونه، وعند عرضها في عام 1796م، فشلت فشلًا ذريعًا، وقوبلت بنوبة من الضحك والسخرية والاستهجان.

ومع تدفق المزيد من العشاق، تدفق النقاد وخبراء الآثار مثل يوسف ريتسون، الذي أكد أنها مزيفة، ولكنه أسر ذلك في نفسه، خوفًا من أن يثبت العكس، ولصعوبة اكتشاف عمليات الخداع، وقد وافقه محرر الأعمال الكاملة لشكسبير إدموند مالون الرأي، ووصف المسرحية بعملية احتيال جريئة.

عندما تعالت الأصوات وعجز ويليام عن إثبات وجود الصندوق العتيق الذي عثر على الوثائق والمسرحية داخله في عام 1796م، أزاح العبء عن صدره، وأقر بأنه من كتب هذه المسرحية، رغبة في الحصول على الثناء، وبسبب صغر سنه وكونه قاصرًا، لم يحاكم على جريمته، وعاقبه القدر بما يكفي من الرفض الأدبي لنشر كتاباته وأشعاره.   

«بروتوكولات حكماء صهيون»: مؤامرة روسية تلاقي رواجًا كبيرًا

لعلك سمعت بهذا الكتاب أو صادفك منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، حين يتعلق الأمر بالحديث عن الصهيونية، نُشر الكتاب للمرة في الأولى في القرن العشرين، بعدما سلم  قائد الشرطة الروسي بيار ايفانوفيتش راتشكوفسكي هذه البروتوكولات إلى الكاتب سيرج نيلوس الذي نشرها عام 1903م.

من بينها "بروتوكولات حكماء صهيون": أعمال أدبية مزورة لاقت رواجًا كبيرًا

مصدر الصورة  The University of Chicago library

يتألف الكتاب من 24 حوارًا بين قادة الصهيونية بسويسرا في عام 1897م، يناقشون خلالها السعي للهيمنة الصهيونية على مقاليد السلطة الثقافية والمالية والسياسية في العالم، ونقد الليبرالية ومستقبل البشرية. وقد اهتمت العديد من الصحف العالمية بنشره، منها صحيفة« ديربورن إندبندنت»، التي يملكها سيد السيارات في العالم هنري فورد، كما حرص على دفع مبلغ من المال لطباعة 500 ألف نسخة من الكتاب وأثنت عليه صحيفة «تايمز» البريطانية عام 1920م. لكن الصحف الأمريكية عدته أحد الكتب المعادية للسامية، وخاصة عندما كشف الصحافي فيليب عريفز عام 1935م عن أن هذه الحوارات منقولة من كتابي «نابليون الثالث» و«حوار في الجحيم» بين مونتسكيو وميكافيللي.  

 

المصادر

تحميل المزيد