تحتاج المخلوقات جميعها على هذا الكوكب إلى نوع من أنواع الحركة و«السعي» ليتمكَّنوا من إشباع حاجاتهم الأساسية، مثل الطعام والتكاثر وغيرها، لكن البشر هم المخلوقات الوحيدة التي أصبح بإمكانها إشباع حاجاتها دون الحاجة للتحرك، ففي العصر الحديث يستطيع الإنسان وهو جالس، أن يطلب طعامه ويلبي احتياجاته ويتواصل مع معارفه، بتحريك إصبع واحد لا غير.

ولكن لهذه السهولة تكلفةٌ باهظة الثمن على أجسادنا وأيضًا على أذهاننا وعقولنا، وارتبطت بانخفاض معدلات الذكاء وارتفاع إصابات الصحة العقلية نتيجةً لقلَّة الحركة الجسدية.

ارتباط الحركة والصحة الجسدية بالصحة العقلية ليست معلومةً جديدة بالطبع، ولكن العلاقة بين الحركة والدماغ أعمق مما نعتقد، فقد توصل العلماء إلى فهمٍ جديدٍ يكشف كيف أن أفكارنا وعواطفنا لا تتمُّ داخل عقولنا فقط، وأن الطريقة التي نتحرك بها جسديًّا يكون لها تأثير عميق على كيفية عمل عقولنا، وهو ما يُمكِّننا من الوصول إلى حالة الوعي العميق.

حالة الوعي العالي أو العميق

يمكن للإنسان أن يغيِّر حالة وعيه بطرق مختلفة، منها التنويم المغناطيسي والعقاقير والتمارين العقلية، ويمكن الوصول لحالة متغيِّرة من الوعي بحركات مثل: التنفس الشامل، والذي يستخدم أنماط تنفسٍ مختلفة هدفها تغيير الحالة العقلية والجسدية والعاطفية، بالإضافة للتمارين وحركات جسدية أخرى.

Embed from Getty Images

وبالنسبة لمستويات الإدراك لحالة الوعي، فهناك مستويان رئيسان؛ الأول هو الوعي المنخفض، والذي يُلاحظ عندما يكون الإنسان نصفَ نائمٍ، أو في حالة نعاس. هنا يكون مستوى الإدراك منخفضًا، وتشعر كما لو أنك لست على دراية بتفاصيل ما يحدث من حولك، ولكن عقلك لا يزال قادرًا على معالجة الإشارات التي يتلقاها، ولكن ليس بالكفاءة الطبيعية.

والمستوى الثاني، وهو الذي يهمنا هنا ونسعى لتقويته والوصول له، هو مستوى الوعي العالي أو العميق، الذي نكون فيه مسيطرين على أفكارنا أكثر، وفي هذا المستوى يكون المرء أقدر على الانتباه إلى التفاصيل وتحليل ما يحيط به، والسؤال: كيف نجعل العقل في هذا المستوى العالي لأطول فترة ممكنة؟

تمارين تساعد على الوصول للوعي العميق

أيًّا كان ما تريده من عقلك، سواءً المزيد من الإبداع أم تحسُّن التركيز والذاكرة، أم حتى رفع ثقتك بنفسك، فما تحتاجه هو النهوض عن مقعدك المريح وتحريك جسدك، الأمر الوحيد الذي يجب أن تنتبه له هو كيف تحرك جسدك بالضبط، وما هي أفضل الطرق لتحريك جسدك للوصول إلى أعلى درجة من الوعي العميق والصحة الأفضل.

المشي والركض

نعرف أن المشي والركض يساعدان على تصفية الذهن، ولكن الأبحاث قدمت بُعدًا جديدًا هنا، وهو أن السرعات المختلفة تعطي فوائد عقلية مختلفة، فالجري أو المشي بوتيرة سهلة وخفيفة تقلِّلُ النشاط مؤقتًا في مناطق الفص الجبهي من الدماغ، وهذا يفتح الباب لمجالات التفكير المنطقي، ويسمح بتدفق أفكار أوسع وأكثر إبداعًا، وهذا يعني أن المشي قبل حضورك لاجتماع لتطوير الأفكار سيكون مفيدًا.

Embed from Getty Images

أما إذا تمشيت أو ركضت بوتيرة سريعة، سيرتفع معدل تدفق الدم إلى الدماغ بالتزامن مع ارتفاع معدل خطوات الشخص ومعدل ضربات القلب، عند وصوله لمعدَّل 120 خطوةً و120 نبضةً في الدقيقة، ونعلم أن التمرين بشكلٍ عامٍّ يزيد من المادة الرمادية في منطقة الحُصين في المخ، وهي منطقةٌ مهمة لمعالجة الذاكرة ووعي الإنسان بالمكان والمُحيط، والمادة الرمادية هي مكوِّن رئيس للجهاز العصبي المركزي، وتمثل تجمعات من أجسام الخلايا العصبية، وزيادتها يعني زيادة الخلايا العصبية وبالتالي أداء عصبي أفضل وأكبر.

التنفس

رغم أن هذه أصغر وأبسط حركة يمكنك القيام بها، لكن التحكم في عضلات صدرك وحجابك الحاجز (عضلةٌ تحت القفص الصدري) يمكن أن يُحدث فرقًا كبيرًا في طريقة تفكيرك وشعورك، وبتنظيم أنفاسك تتولى مسؤولية موجات دماغك وتربطها بمعدل انتقال الهواء داخل وخارج أنفك.

ونظرًا لأن الهواء يحمل إشارات عن البيئة المحيطة مثل الروائح، فمن المنطقي أن يبدأ النشاط في مناطق الدماغ المرتبطة بالرائحة بالتزامن مع معدل التنفس، مما يسمح بمعالجة المعلومات فور ورودها، ويمتدُّ هذا التأثير إلى الذاكرة وعمليات التخطيط واتخاذ القرار في دماغ الإنسان.

Embed from Getty Images

أسهل طريقة للتحكم في التنفس هي إغلاق فمك والتنفس بمعدل ستة أنفاس في الدقيقة، استنشق الهواء لمدة خمس ثوانٍ، ثم الزفير لخمس ثوانٍ أيضًا، التنفس بهذه الوتيرة لملء الحويصلات الهوائية في الرئتين، ما يزيد من تشبع الأوكسجين في الدم بنسبة 2%، وهو ما يكفي لإحداث فرق بسيط، ولكنه مفيد في وظائف المخ.

الشهيق والزفير لِستِّ مراتٍ في الدقيقة يحفِّز أيضًا نوعًا من الأعصاب الذي يعيد الجسم إلى حالة الهدوء بعد الإجهاد. لكن الفائدة تزيد إذا استطعت التنفس بمعدل ثلاثة أنفاس في الدقيقة؛ إذ تؤثر إيجابًا في مناطق الدماغ المشاركة في المعالجة العاطفية، وتساعد على الاسترخاء العميق والدخول في حالة عميقة من التأمل المُركَّز مثل الذي يحصل خلال ممارسة اليوجا، بدلًا من حالة «التفكير» الخفيف، ما يعني مزيدًا من الراحة والاسترخاء.

الرقص

للرقص قوةٌ لا يستهان بها، وهو طريقةٌ منسيَّة لتنشيط الجسم والدماغ؛ إذ أظهرت دراسات أن الرغبة بالرقص طبيعيَّة مثل رغبتنا بالجنس. وربما هذا أمر نلاحظه في الأطفال عندما يرقصون بشكل عفوي بمجرد سماعهم لإيقاعٍ من حولهم.

الشعور بالسعادة أثناء الرقص سببه أن أدمغتنا تعمل كآلات تنبُّؤ تخمِّن بشكلٍ مستمرٍّ ما يمكن أن يحدث تاليًا، «ما اللحن الآتي؟ هل سيرتفع الإيقاع أم سيهبط؟ أسرع أم أبطأ؟»، والإيقاع المنتظم المصاحب للرقص يجعلنا سعداء وراضيين لقدرتنا على التنبؤ بما سيأتي، وفي كل مرة نتوقعُ اللحن بشكل صحيح نحصل على جرعة صغيرة من الدوبامين، وهو هرمونٌ وناقل عصبي يساهم في الشعور بالمتعة.

القوة العضلية

تشيرُ الدراسات إلى أن الرجال اليوم أضعف من ناحية القوة العضلية بشكل ملحوظ من نظرائهم في الثمانينيات، ويبدو أن الجيل القادم سيكون أكثر ضعفًا، ولكنَّ تحريك العضلات واكتساب القوة العضلية يظلُّ مهمًا، فالأشخاص الأقوى جسمانيًّا لديهم كمية أكبر من المادة الرمادية في المخ، وبالتالي ذاكرة أفضل. والقوة الجسدية تزيد عند البعض من الثقة بالنفس، وتعزِّز شعورهم بالقدرة في جميع مناحي الحياة، وهو ما ينعكس على المخ إيجابيًّا.

انخفاض مستويات القوَّة في المجتمع الحديث مثيرٌ للقلق، لأنه يلعب دورًا في انتشار وباء القلق، وحالات الصحة العقلية التي تؤثر في جميع الأعمار، ولذا من المهم التركيز على برامج اللياقة البدنية بشكلٍ أوسع.

صحة

منذ سنتين
تناول الحبوب بدلًا عن لعب الرياضة.. ثورة جديدة في صناعة المنشطات

إطالة العضلات

هناك بعض الفوائد المدهشة في تمارين إطالة العضلات، مثل إرخائها للعضلات المشدودة. إذ تطلق هذه التمارين مادة الأدينوزين ثلاثي الفوسفات، والذي يقلل من مستويات الالتهاب في الجسم، وهو مهمٌ للدماغ؛ لأن الالتهاب المُتكرر يرتبط بالاكتئاب، والألم المزمن، والتعب، وبالتالي قلة التركيز.

قد يساعدك ذلك في تفسير سبب انخفاض مستويات علامات الالتهاب عند الذين يمارسون اليوجا وتمارين التأمل.

الوقوف منتصبًا

ترتبط وضعية الوقوف المترهل أو الوقوف المنحني بالتفكير السلبي ومشاعر الهزيمة، في حين أن الوقوف بوضعية مستقيمة للجسم تحفِّز سلوكًا عقليًّا أكثر إيجابية، كما أن الوضع المستقيم للجسم يساعد على تقليل التوتر والتعافي بشكل أسرع.

المصادر

تحميل المزيد