لم تبد الشهور الأولى من حكم الملك سلمان للسعودية مبشّرة للولايات المتحدة، فسريعا ما تورط في “مستنقع اليمن”، وتعامل باستهانة مع أوباما، وساند رجال الدين في معارضتهم للإصلاحات التي طلبها الرئيس الأمريكي، لكن الخطوة التي لاقت ترحيبًا كبيرا من الجانب الأمريكي كانت اختيار الأمير المفضل لديها محمد بن نايف لولاية العهد بدلا من الأمير مقرن بن عبد العزيز.
هذا ما يتناوله بروس ريدل، مدير مشروع الاستخبارات في بروكنز، والذي عمل مستشارًا لشؤون الشرق الأوسط لآخر أربعة رؤساء أمريكيين؛ في مقال يسلط الضوء فيه على جذور العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ومستقبلها بوجود الأمير محمد بن نايف-رجلها المفضل – وليًّا للعهد، ونستعرض هنا أبرز النقاط التي أثارها التحقيق:
لقراءة التحقيق بالكامل من هنا.
تواجه السعودية تغييرا تاريخيا في الجيل الذي يتولى دفة الحكم حاليًّا، فعلى العرش الآن آخر ملك من جيل القادة الذين بنوا المملكة الحديثة، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وما لم تحدث تعديلات أخرى على تسلسل وراثة الحكم، وهذا ما تأمله الولايات المتحدة؛ سيصل إلى العرش “الرجل المحبوب” لدى أجهزة مكافحة الإرهاب والاستخبارات هناك.
التحالف بين العائلة الحاكمة ورجال الدين
للوقوف على طبيعة هذه العلاقة يعود الكاتب لبداية التحالف بين آل سعود والوهابيين قبل تأسيس المملكة حين انضم للقوات السعودية “واعظ متجول ومتدين” هو محمد عبد الوهاب، ومنذ أن أسس الملك عبد العزيز بن سعود –
المعروف في الغرب باسم ابن سعود- المملكة العربية السعودية، تولى هو وأبناؤه بعده القيادة السياسية والعسكرية، بينما تولى محمد عبد الوهاب وذريته القيادة الدينية والشرعية.
في ذلك الوقت وكما يشير الكاتب، كانت معظم الدول في العالم الإسلامي تنظر إلى السعوديين وحلفائهم على أنهم مجموعة من المتعصبين والمغتصبين، فيما يشبه في بعض الأمور نظرتهم الآن لتنظيم الدولة.
التحالف بين الوهابيين والعائلة المالكة هو ما سمح لهم بتطبيق مذهبهم وفرض العادات الإسلامية على المجتمع السعودي، وكان هذا هو ما تأخذه على عاتقها بالأخص وزارة الداخلية التي تعد الحليف الأكبر للوهابيين في الحكومة.
الأمير نايف وزيرًا للداخلية
وعلى رأس وزارة الداخلية كان الأمير نايف بن عبد العزيز ( 1934 – 2012) منذ عام 1975، وعمل معه الابن محمد بن نايف مساعدًا ثم نائبًا قبل أن يحل محله عقب وفاته، وعُرف عن الأمير نايف تطرفه الشديد، وخاصة مع الشيعة الذين يمثلون 10 % من سكان المملكة ويقيمون في المنطقة الشرقية، حيث عاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وكان معارضا للإصلاحات والتغيير ولأي مطالبة بقدر أكبر من حرية التعبير، حتى أن جالية كبيرة من الغربيين المقيمين في المملكة كانت تسميه بــ “الأمير الأسود”.
عندما سُئل الأمير نايف لماذا يعارض الإصلاحات التي ستضع المملكة على طريق التحول إلى ملكية دستورية، أجاب، وهو الذي كانت عينه ترنو للجلوس على العرش: “أنا لا أريد أن أكون مثل الملكة إليزابيث.
السيطرة على المسجد الحرام
في عام 1979 شهدت المملكة تحديا كبيرًا لشرعية العائلة المالكة حين استولت جماعة مسلحة على الحرم المكي، ولم تتمكن السعودية من مواجهته إلا بعد أسابيع، بمساعدة من قوات خاصة فرنسية جندتها العائلة المالكة سرًّا، وبمواد كيميائية قاتلة استطاعت العائلة إقناع رجال الدين الوهابيين بإباحة استخدامها في المسجد الحرام.
يمكن القراءة أكثر حول هذا الموضوع:أسرار احتلال الحرم المكي يكشفها رفيق جهيمان
زادت هذه الأحداث من ارتباط العائلة المالكة بالمؤسسة الوهابية، وعلى أثرها أبطأت من حركة الإصلاح، وزادت دعمها للقضايا الإسلامية المسلحة في الدول الأخرى، خاصة المجاهدين الأفغان في حربهم ضد السوفييت وهو الأمر الذي شاركت فيه الولايات المتحدة أيضًا.
تنظيم القاعدة
جُمعت ملايين الدولارات لدعم المجاهدين إذن، ولدعم قضايا البوسنة وفلسطين أيضًا، وخلال تلك الفترة جمعت الأمير نايف بأسامة بن لادن علاقة ودية، جعلته لا يدرك لاحقا، حين أسس بن لادن تنظيم القاعدة؛ التهديد الذي يشكله التنظيم على المملكة، رغم التحذيرات الأمريكية في عدة مناسبات، وهكذا نجح التنظيم في تنفيذ عدة هجمات في المملكة بسبب عدم إدارك الأمير نايف لحقيقة الأمر، ولم يقتنع بخطورته إلا حين أصبح التهديد أكبر من أن يتم تجاهله، وأصبح للتنظيم بينة تحتية داخل المملكة.
صعود الابن
في تلك الأثناء كان الابن، الأمير محمد بن نايف؛ قد تلقى دروسًا في كلية لويس وكلارك في بورتلاند بالولايات المتحدة، ولكنه لم يحصل على درجة علمية، وفي أواخر التسعينيات كان قد أنهى دراسته في مكتب التحقيقات الاتحادي وفي معهد مكافحة الإرهاب في سكوتلاند يارد، لتهيئته لخلافة والده في وزارة الداخلية، وأخذ نجمه في الصعود خلال فترة مكافحة السعودية لتنظيم القاعدة، في عام 2001، وبعد نجاحه في إحباط عدة هجمات لتنظيم القاعدة؛ كان الأمير محمد بن نايف قد أصبح معروفا بخبرته في أمور الحرب على الإرهاب.
وعقب أحداث 11 سبتمبر وحين أصبحت السعودية هدفًا لابن لادن، تولى ابن نايف صد الهجمات التي شنتها القاعدة عام 2003 بعد رسالة صوتية لابن لادن اتهم فيها آل سعود بالخيانة والتآمر مع “اليهود” ضد فلسطين، ومع أمريكا ضد العراق.
الحرب ضد تنظيم القاعدة
بين الأعوام 2003 و 2006 حيث شكل تنظيم القاعدة تهديدا حقيقيا لآل سعود، واستهدف عدة تجمعات للأجانب في السعودية، وكان محمد بن نايف في المواجهة، حيث وضع إستراتيجية فعالة تعقبت من خلالها وزارة الداخلية عناصر التنظيم، بمطاردات انتقائية وهادفة بعيدة عن العنف الذي اتسمت به عمليات مكافحة الإرهاب في الجزائر، وتجنب فيها الانخراط عمليات تفتيش وتدمير تربك النظام بحيث لا يعطي انطباعًا بأن المملكة تحترق.
وحتى بعد أن بدأ التهديد يتلاشى بحلول عام 2007، وكلف الحكومة أكثر من 30 مليار دولار لمواجهته، بقي ابن نايف حذرًا من خلال شبكة من المخبرين، وأحبط أكثر من مؤامرة ضد الولايات المتحدة، وهو ما جعله هدفا لعدة محاولات اغتيال.
بعد وفاة الأمير نايف عام 2012 كان محمد بن نايف قد أصبح أمير مكافحة الإرهاب وكان ضمن جهوده التي قدرتها الولايات المتحدة إدارته في وزارة الداخلية لخمسة سجونٍ تضم حواليْ 3,500 سجين، جميعهم تقريبًا من العناصر السابقة في تنظيم القاعدة، أودعوا السجن بهدف إعادة تأهيلهم، يتلقون الإكراميات، ويُسمح لذويهم بزيارتهم، ويسمح لهم حتى بحضور حفلات الزفاف والمشاركة في تشييع الجنازات وسط حراسة. كما تتلقى أسرهم مساعدات مالية ورعاية خاصة.
20% ممن خرجوا من هذه السجون كانوا يعودون إلى الإرهاب، لكنها نسبة تقل كثيرا عن نظيرتها في سجون أوروبا والولايات المتحدة.
الربيع العربي
حين بدأت أحداث الربيع العربي كان آل سعود في قلق، لم يتسن لهم التدخل في مصر قبل خلع مبارك، لكنهم في البحرين دعموا العائلة المالكة لتواجه الاضطرابات، وجرى سحق حركة الإصلاح هناك، ورغم “الاحتجاجات الأمريكية الصامتة”
كما يسميها الكاتب، فلا تزال القوات السعودية على أرض البحرين حتى اليوم،
واستجابةً لهذه الأحداث، سعى الملك عبد الله لإدخال بعض الإصلاحات المحدودة التي لم تمس ثوابت النظام، لكن وزارة الداخلية وعلى رأسها ابن نايف كانت لها بالمرصاد، فقمعت المعارضين دون رحمة، وألقت بهم في السجون.
كان محمد بن نايف يتمتع بالدهاء في ما يتعلق بالتهديدات الإرهابية في المملكة، ولكنه لم يظهر قدرة مماثلة بشأن مخاطر منع مواطني المملكة من التعبير عن آرائهم بحرية.
وفي اليمن ولدى الإطاحة بالحكومة الموالية للسعودية، كان قرار الملك سلمان بالتدخل بمشاركة من الأردن والمغرب ومصر ودول الخليج باستثناء عمان، وبمساعدة استخباراتية ولوجستية أمريكية.
وتعدَّ هذه الخطوة إلى حدٍ بعيد الأكثر حزمًا في السياسة الخارجية في تاريخ المملكة الحديث. فالتدخلات السعودية السابقة في اليمن كانت تُدرج في خانة الشؤون السرية الخفية.
لكن الوقت أثبت مدى تورط المملكة باتخاذها هذا القرار الجريء، بدخولها معركة ضد الحوثيين في اليمن، فمنذ شهر مارس حين أعلنت عن بدء عاصفة الحزم وحتى الآن، كان كل ما تم إنجازه هو سيطرة المملكة السعودية، وحلفائها على المجال الجوي والمياه الساحلية وميناء عدن، فيما يسيطر الحوثيون على معظم شمال اليمن.

“مستنقع اليمن “
المشكلة إلى جانب وجود 25 مليون يمني يخنقهم الحصار السعودي، في الأثر العميق الذي تركته هذه الخطوة على استقرار المملكة وشبه الجزيرة العربية والمنطقة ككل، خاصة وقد سمحت هذه الفوضى لتنظيم القاعدة بالسيطرة على أجزاء كبيرة من محافظة حضرموت.
أصبح ممكنا للحرب في اليمن إذن أن تدمر طموحات الأمير محمد بن سلمان (ولي ولي العهد) بصفته وزيرا للدفاع. والأمير محمد بن نايف أيضًا الذي تشير بعض التكهنات لأن يكون سبب اختيار الملك لـه وليًّا للعهد هو أنه ليس لديه أبناء من الذكور، وبالتالي ستكون فرصة محمد بن سلمان للوصول للعرش أكبر، ويتنبأ البعض الآخر له بالوصول لمصير الأمير مقرن واستبعاده عاجلا أو آجلا بحيث يصل محمد بن سلمان للعرش.
قلق أمريكي
ورغم الرضا الأمريكي عنه فإن وجود ابن نايف على رأس وزارة الداخلية يحرج الولايات المتحدة؛ فالرجل يمثل الوجه العلني للقمع في المملكة، خاصة وأن النظام يتعامل مع أشكال المعارضة المختلفة على أنها إرهاب، وهذا القمع يثير التساؤلات حول الحكمة من الاحتفاظ بهذه العلاقة الوثيقة بين آل سعود والولايات المتحدة، فقد دعت مجلة “ذي إيكونوميست” لوضع حد للوضع في المملكة واتباع نهج أكثر صرامة لتشجيع الشفافية هناك.
الرئيس أوباما رغم تأييده القوي للمملكة، قال إنه رغم التهديدات الخارجية الكبيرة التي تواجهها إلا أن التهديد الأكبر يأتي من الداخل بسبب البطالة و”غياب مخرج سياسي مشروع للمظالم”.
ومع هذا يقرّب الملك سلمان المؤسسة الوهابية أكثر ويلتقي بكثير من النخبة الدينية المعروفة بتشددها.
والآن أصبح المذهب الوهابي المعروف بتشدده محاطًا بمن هم أكثر منه تطرفًا وعنفا، وها هي الصور المروعة التي ينشرها تنظيم الدولة تكشف حجم التحدي الذي يواجه محمد بن نايف في برنامجه لمكافحة الإرهاب، وقد أعلن التنظيم هدفه في السيطرة على مكة المكرمة والمدينة، وطرد “رأس الحية”.
الأمير لن يحقق رغبات أمريكا
ما يؤكده الكاتب في النهاية أن على واشنطن مع تأييدها لولي العهد السعودي ألا تتوهم أن ابن نايف سيأخذ بمشورتها في إجراء إصلاحات في المملكة، فلا يخفى على أحد أن السعودية هي المناوئ الرئيسي لأحداث الربيع العربي، فقد ساعد السعوديون في تدبير انقلاب مصر عام 2013، الذي كان ضربة قاضية للربيع العربي.
صحيحٌ، إنهم ماهرون في مكافحة الإرهاب، إلا أنهم أيضًا معارضون للثورات لا يعرفون الخجل.
فالمملكة العربية السعودية هي النظام الملكي الوحيد في العالم الآن؛
صمدت أكثر من العثمانيين، والناصريين، والشيوعيين، والبعثيين، ومن معظم الأسر الملكية الأخرى .والأمراء السعوديون جميعا يعتقدون أن بقاء مملكتهم حتى الآن لا يعود لتصميمهم على البقاء، وإنما يعود لتحالفهم مع الوهابيين، لذلك فالعائلة المالكة لن تتخلى عن سيطرتها على الحكم، كما أنها لن تتخلى عن علاقتها القوية بالوهابيين، ولذلك يتنبأ الكاتب بصمود العائلة لعدة عقود، لكنه يرى الوقت متأخرًا جدا لأن يأمل أحد في قيامهم بأي تغيير.