شابٌ صغيرٌ لم يكن له حضور سياسي يُذكر، لولا اغتيال والده مع إخوته عام 1999 في حادثٍ دفع به للمُقدمة في عُمر الخامسة والعشرين. ورجل دينٍ بارز صعد سُلم الزعامة الدينية، دون أن ينال حتى الآن صفة «مُجتهد» التي تُضفي عليه لقب «آية الله» وفقًا لتقاليد المذهب الشيعي. وسياسيٌ أجاد خلط الأوراق واللعب على حبال الجميع محافظًا في الوقت نفسه على ثِقل شعبيته على الأرض. ومُعارضٌ شرس يطرح نفسه راعيًا للإصلاح ومحاربًا للفساد، رغم أنّ ممثليه لم يغيبوا عن المناصب الوزارية الرفيعة منذ عام 2006.
رسم مقتدى الصدر لنفسه مسيرة سياسية شديدة التعقيد ودائمة التقلب، تقوم على دعم النقيضين معًا، والمناورة بين المعسكرين. فهو يدعم التظاهرات ضد الطبقة السياسية التي يعد جزءًا منها، ويطرح نفسه مُحاربًا للوجود الإيراني رغم أنه يُرسل أوامره إلى أتباعه من مدينة قُم الإيرانية، حيث يجهرُ علانيةً من هناك برفضه لولاية الفقيه.
هذا التقرير يرصد لك مسار مقتدى الصدر من دعم الانتفاضة العراقية أو «ثورة تشرين» ثم الانقلاب عليها؛ ومن التحرك ضد إيران إلى التعاون معها.
ماذا يُخبرنا التاريخ عن الرجل المُرشح للقضاء على التظاهرات العراقية؟
يبرز رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر – 45 عامًا – بوصفه زعيم التيار الصدري، أكبر تيار شيعي جنوب ووسط العراق؛ يمتلك أجنحة عسكرية ممثلة في كتيبة «سرايا السلام» أو «جيش المهدي»، الذي شارك في القتال ضد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ثم انخرطت ميليشياته ضمن قوات «الحشد الشعبي» في القتال ضد «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» عام 2014.
ومقتدى الصدر أصغر أبناء المرجع الشيعي آية الله محمد محمد صادق الصدر، الذي ذاع صيت عدائه لـ«حزب البعث العراقي» أثناء حكم صدام حُسين، وكان قائدًا لانتفاضة 1991 التي اُعتقل على إثرها، ولم يمض بعدها سوى ثماني سنوات حتى تعرض للاغتيال، ليدخل العراق في موجة ثانية من الانتفاضات المُسلحة عام 1999 من الفصائل الشيعية ضد الجيش والشرطة ومقرات الحزب الحاكم.
على خُطى أبيه، صعد الصدر سُلم الزعامة الدينية، وخلف أباه في المناصب الدينية، وأسس جماعات الظل المُسلحة التي تبنّت استهداف شخصيات سياسية، وتفجير جهات حكومية واستخباراتية، والعداء وصل إلى مقرات «حزب البعث» التي لم تسلم من عمليات التخريب.
كاد الرجل يتفرغ بعدها للدراسة الدينية في حوزة النجف أملًا في إكمال مسيرة والده الدينية، لولا الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 الذي ساهم في صناعته السياسية، والتي أثرت لاحقًا في مستقبل العراق.
يصفه مقربون منه بأنه سريع الغضب وقليل الابتسام، لكنّ وثائق التحقيقات الأمريكية التي رُفعت عنها السرية عام 2018 تكشف وجهًا آخر للرجل عبر استجواب أحد مُساعديه السابقين في جيش المهدي الذي كان دائم الظهور وراءه. يقولُ قيس الخزعلي، قائد ميليشيات «عصائب أهل الحق» واصفًا الصدر خلال التحقيقات التي أجريت معه عام 2007: «ليست لديه مبادئ، ويتحرك وفق مصالحه الشخصية من دون اعتبار للشعب العراقي»، وهي النصيحة التي أجاد الأمريكان استخدامها فيما بعد.
الصورة التي رسمها قيس الخزعلي للأمريكيين خلال التحقيقات تحققت على الأرض بعدها بعامٍ حين فاجأ الصدر أتباعه بوقف العمل المسلح الذي انتهجه لمقاومة الغزو الأمريكي ثم أعلن براءته ممن يحمل السلاح ضد الأجهزة الحكومي، ليدخل بعدها في المباحثات الأمريكية الإيرانية حول مستقبل العراق.
دعم الصدر تولي نوري المالكي رئاسة الوزراء عام 2006، وحصل تياره على حقائب وزارية في الحكومة الجديدة إضافة إلى مقاعد في البرلمان، وبخلاف الدور الذي قام به في رسم السياسات الداخلية للعراق، إلا أنه اصطدم مع نوري المالكي حين شنّ الأخير على ميليشياته حملة لتجريدها من السلاح، لكنّ رئيس الحكومة تصالح بعدها مع الرجل الأكثر نفوذًا، والذي مهد له الحصول على ولاية ثانية فيما بعد عام 2010.
تزامن تأييد السيستاني والصدر لحكومة حيدر العبادي عام 2014، مع إعلان «داعش» قيام دولتها في العراق عقب سقوط الموصل، وهي الفرصة التي استغلها لتأسيس كتائب «سرايا السلام» المُسلحة، والتي انضم إليها آلاف الشيعة الذين نظموا عرضًا عسكريًّا في 12 محافظة عراقية، وهو ما مثّل اختبارًا علنيًّا لمدى ثقل الزعيم الشيعي ضد ميليشيا «فيلق بدر» العراقية التي أسسها الخميني عام 1982، والتي تكيل العداء للتيار الصدري المعادي لطهران.
صعود تيار مقتدى الصدر خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي عقدت في مايو (أيار) العام الماضي، أزعج حسابات كل من واشنطن وطهران، فتحالف «سائرون» الذي يتزعمه رجل الدين الشيعي حلّ في المركز الأول بحصوله على 52 مقعدًا، وهي ورقة القوة التي ضغط بها من أجل تقديم مرشحين مستقلين في حكومة عادل عبد المهدي لشغل العديد من المناصب الوزارية الرئيسة، مُتخطيًا كافة الاتفاقات والتحضيرات التي باشرها قاسم سليماني قائد فيلق «القدس» في الحرس الثوري الإيراني لتشكيل حكومة بولاءات إيرانية كاملة.
قبل أن ينقلب عليها.. كيف أثّر الصدر في انتفاضة العراق؟
تمثل الانتفاضة العراقية التي اندلعت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حدثًا فريدًا غير مسبوق، إذ إنها لم تنطلق بدعوة من حزب أو زعيم ديني كما جرت العادة في الماضي، بل جمعت الغاضبين المحتجين على الفساد والبطالة ضد حكومة رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، بعد نحو عامٍ من وصوله للسُلطة.
(مقتدى الصدر ينضم للمتظاهرين في النجف)
وحطمت التظاهرات من جانب آخر الأسطورة التي روجها مقتدى الصدر لسنواتٍ، والتي تقول بأنه الوحيد القادر على استثارة أتباعه للخروج إلى الشوارع مثلما حدث عام 2016، حين نجح أنصاره في شل مفاصل الدولة، واقتحام المنطقة الخضراء شديدة التحصين، ولم ينس تذكير الثوار حين انضم إليهم في البداية بأن أتباعه هم الأكثر تنظيمًا وتجهيزًا بين المتظاهرين المناهضين للحكومة.
في البداية دعا الزعيم الشيعي الحكومة لفتح تحقيقٍ رسمي في أسلوب القمع الذي استهدف المتظاهرين السلميين، وحين اتسعت رقعة التظاهرات طلب الصدر من مناصريه النزول للشوارع وبدء إضراب عام مفتوح، ولكي تكتمل الصورة بتصدره للمشهد، أعلن تشكيل القبعات الزرقاء من الجناح العسكري للتيار الصدري لحماية ساحات الاعتصام.
قلب مقتدى الصدر الطاولة على الحكومة بتبنيه مطلب استقالة الحكومة، وإجراء انتخابات مبكرة تحت إشرافٍ أممي، لينضم إليه في وقت لاحق، رئيس الوزراء العراقي السابق، ورئيس ائتلاف النصر حيدر العبادي، في الدعوة لانتخابات مبكرة وتشكيل حكومة دستورية.
وفي وقتٍ علقت فيه كتلة «سائرون» عضويتها بمجلس النواب وهي الأكبر، انسحبت الشرطة الاتحادية وقوات الجيش من المناطق التي توجد فيها كتائب «سرايا السلام» لتجنب الاشتباك مع مؤيدي رجل الدين المعارض.
لكنّ اشتباكاتٍ دمويةٍ وقعت بين مُسلحين من التيار الصدري من جهة، وبين «عصائب أهل الحق» التي يرأسها قيس الخزعلي من جهةٍ أخرى وقتلت نحو 50 في أقل من 48 ساعة، وهو ما عدته الأمم المتحدة تخريب للاحتجاجات من قبل الكيانات المسلحة.
يقول حارث حسن، الباحث في مركز «كارنيجي للشرق الأوسط»، في تصريحٍ لوكالة «فرانس برس»: «وجد مقتدى الصدر في التظاهرات فرصة سانحة لتصفية الفصائل المنافسة له مثل عصائب أهل الحق، وبدر، وكتائب حزب الله التي تعد الأقوى بين قوات الحشد الشعبي، والتي تمثل جميعًا الواجهة البارزة للنظام السياسي».
استخدم الصدر غطاءً ثوريًّا لتصفية خصومه تمثل في الخطأ الذي ارتكبه أحد قادة الحشد الشعبي بعد إعلانه أن فصائله مستعدة للقضاء على التظاهرات، ليخرج الصدر بعدها على الملأ ويوجه رسالة عامة إلى قوات الحشد بعدم مواجهة المتظاهريين السلميين.
واللافت أنّ الصدر يدير المشهد منذ بدايته من مدينة قُم الإيرانية، حيث لم يتوجه إلى بغداد سوى في زياراتٍ معدودةٍ كانت إحداها إلى مدينة النجف، بعدما طالب خصمه السياسي هادي العامري زعيم كتلة «الفتح» بالتعاون من أجل سحب الثقة عن رئيس الحكومة عادل عبد المهدي.
يقول مصدر من داخل مكتب السيستاني في النجف اشترط عدم ذكر اسمه، لـ«ساسة بوست» إن مقتدى الصدر: «طلب مقابلة آية الله السيستاني للحصول على الموافقة لإسقاط الحكومة، إلا أنّ الأخير رفض مقابلته خشية من التورط مرة أخرى، خاصة أنه هو من بارك تسمية حكومة المهدي».
وتتفق تصريحات المصدر في إعلان المرجعية الدينية في النجف عدم مشاركتها في أي مشاورات أو مفاوضات أو مباركة أي اسم يطرح، خلافًا للسنوات الـ16 الماضية، حين اضطلعت بدور حاسم غير مباشر في رسم المسار السياسي للبلاد عبر التحالف الجديد الذي جمع الصدر والعامري نتج منه تغييرات جذرية من موقف الزعيم الشيعي تجاه التظاهرات العراقية والنظام الإيراني، وعلى الجانب الآخر رفع المحتجون لافتات: «لا مقتدى ولا هادي» منددين بما رأوه مسعى من زعيمي أكبر كتلتين في البرلمان للتشبث بالسلطة من وراء الستار، وفرض واقع سياسي بعيدًا عن صوت الشارع المتأزم.
وقبل شهرٍ من الاحتجاجات، انتشرت صورة للصدر بجانب المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، والجنرال قاسم سليماني، في إحدى المناسبات الدينية الشيعية، ما أثار الجدل حول عودة الصدر للتحالف مع أعدائه القدامى.
كيف غيّر اغتيال سليماني حسابات الصدر وطهران؟
في ظل المُعطيات السياسية للأحداث بعد اغتيال سليماني، في يناير (كانون الثاني) الماضي، رسم مقتدى الصدر سياسة جديدة أكثر علانية بعيدة عن استهداف الوجود الإيراني في بلاده تزامنًا مع توجيه الصدر اتهاماتٍ ووعيدًا لواشنطن بإنهاء وجودها إذا لم تكف يدها عن العراق، وهو ما قوبل من المحتجين بالسخرية، في إشارة لتجاهله للتدخل الإيراني، إضافة لغضه الطرف عن تصريحات المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي بخصوص التظاهرات العراقية.
(مقتدى الصدر يتوسط خامنئي وقاسم سليماني)
ولعل أبرز التحولات التي كانت شاهدة على مسيرة الرجل هو الاجتماع الذي شهدته مدينة قم، وقد ضم كبار قادة الحرس الثوري، ومقتدى الصدر، وقادة بعض الفصائل المسلحة الموالية لإيران في الحشد الشعبي العراقي، بهدف إيجاد طريقة إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق، ليتصدر الصدر بعدها المشهد بعد ما أعلن الدعوة لمليونية لتحريك الشارع وراء تلك الأهداف، لكنّ الشارع رفض تلبية دعوته.
وبحسب ما جاء في بيان للحراك الشعبي ردًّا على رسالة الصدر: «فالدعوة التي تنطلق من الأرض الإيرانية ضد واشنطن مسيسة ولا تصب في القضية العراقية»، في إشارة إلى وجود الزعيم الشيعي في قم، وتخليه عن المتظاهرين بعد ما ضمن مكاسب سياسية في مباحثات تشكيل الحكومة الجديدة.
وفي تكتيكٍ أكثر علانية للتحول بعد نحو أسبوعين من اغتيال سليماني، انسحب أتباع الصدر والقبعات الزرقاء من ساحات التظاهرات، تزامنًا مع تغريدة غاضبة للصدر أعلن فيها تبرؤه وغضبه من «كل سياسي يحاول تأخير عجلة التقدم بتشكيل حكومة سريعة»، لتبدأ بعدها الميليشيات الحكومية باستهداف المتظاهرين بنحو 80 سيارة لفض اعتصام ساحة البصرة، فيما عُرف إعلاميًّا بـ«مذبحة البصرة».
اتُّهم رجل الدين بعدها بخيانة الثوار، وذلك بعد فض القوات الأمنية اعتصام البصرة بمجرد انسحاب أنصار الصدر منه، ثم زادت الفجوة بين الطرفين، بعدما رحب زعيم التيار الصدري بتكليف وزير الاتصالات الأسبق محمد علاوي لتشكيل الحكومة، رغم معارضة المتظاهرين.
ووجه ناشطون انتقادات لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بوثفه «عراب» صفقة ترشيح محمد توفيق علاوي بعد الاتفاق مع كتلة الفتح الموالية لإيران، ويُتهم رئيس الوزراء الجديد بأن اجتماعات قُم هي التي أفرزته.
وبعدما أعلن الصدر توجيه القبعات الزرقاء للتنسيق مع قوات الأمن بهدف ما أسماه «إرجاع الثورة إلى انضباطها وسلميتها»؛ دخلت الاحتجاجات في العراق، منعطفًا جديدًا، تمثل في المواجهة بين المحتجين ضد الحكومة وأنصار مقتدى الصدر، الذين يحاولون مساعدة قوات الأمن في فض الاعتصامات وفتح الطرق.
وفي الوقت الذي تعتقد إيران أن مقتدى الصدر، هو القادر على مواجهة الوجود الأمريكي في العراق والقضاء على الاحتجاجات أيضًا، مقابل فشل حلفائها التقليديين الممثلين في نوري المالكي وهادي العامري، وباقي المسؤولين العراقيين الذين بات يُنظر إليهم بأنهم سبب التظاهرات في ذلك؛ يعتقد الجميع حاليًا في قدرة زعيم التيار الصدري على إخماد التظاهرات.
علامات
الاحتجاجات, التظاهرات, التيار الصدري, الصدر, العراق, حزب البعث, رجل الدين الشيعي, سرايا السلام, قم, مظاهرات, مقتدى الصدر