يتأثر تصورنا للعالم بتوقعاتنا ومعتقداتنا السابقة والتي تلعب دورًا كبيرًا في فهم ما ندركه في الوقت الحاضر بناء على تجاربنا السابقة المماثلة، فنستطيع من خلالها فك شفرات الرسائل المختلفة التي نتلقاها من البيئة المحيطة بنا فتتشكل خبرتنا والتي تؤثر في تكوين أفكارنا المستقبلية وتعاطينا مع مشاعرنا وطريقة حكمنا على الأمور المختلفة.
ووفقًا لعلماء الأعصاب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، في أمريكا، فإن هناك إشارات دماغية معينة في الدماغ تكمن وراء قدراتنا على تفسير المدخلات الحسية بناءً على توقعاتنا وتجاربنا السابقة وتساعدنا على فهم ما ندركه في الحاضر بناءً على تجاربنا السابقة لا شعوريًّا، لكن هل تؤثر هذه الآلية في طريقة فهمنا لوجهات نظر الآخرين وتقبل آرائهم؟
الواقعية الساذجة: إدراكنا هو مرآة للواقع
لكل فرد آراؤه ووجهات نظره وأفكاره المختلفة حول الأحداث ومجريات الأمور من حوله، والتي تلعب دورًا في تقريب وجهات النظر وقبول الآخرين والحفاظ على العلاقات، لكن في كثير من الأحيان يصعب علينا فهم وقبول تعامل الآخرين نحو الأحداث نفسها والقضايا التي نعتقد أن آراءنا نحوها فقط هي الصواب.
يُعزي علماء النفس هذه الظاهرة إلى «الواقعية الساذجة» والتي تُشير وفقًا لموقع «سوسيولوجي جروب» المتخصص في العلوم الاجتماعية إلى «الاعتقاد بأن وجهة نظرنا الخاصة نحو العالم موضوعية وصحيحة وأن إدراكنا يعكس الواقع تمامًا دون أن ندرك أنه يتأثر لا شعوريًّا بعواطفنا أو تجاربنا وخبراتنا السابقة، فنعتقد أن الآخرين أيضًا يفسرون المعلومات بالطريقة نفسها التي نفسرها بها، وإذا اختلفت وجهة نظرهم عن آرائنا فهذا يعني أنهم متحيزون لآرائهم الشخصية»، وتقف هذه التحيزات عائقًا أمام فهمنا وتقبلنا لوجهات نظر الآخرين وقد تؤدي إلى الكثير من الجدال والخلاف.
الحقيقة: إدراكنا هو بناء شخصي للعالم
يُشير الإدراك إلى العملية العقلية المعرفية التي تعطي معنى ودلالة للأشياء المحيطة بنا، ويوضح موقع «أي -ريسيرش» العلمي أنه من خلال الإدراك ينتقي الأشخاص المثيرات المختلفة من بيئتهم ثم ينظموا تلك المثيرات وفقًا لمعتقداتهم وتصوراتهم وخبراتهم النفسية فتتحول الأمور والأحداث الموضوعية إلى أمور ذات خبرة نفسية، أي أن الإدراك هو بناء شخصي للعالم وليس تمثيلًا مباشرًا للواقع الموضوعي وهو الذي يدفع الآخرين لتبني وجهات نظر وآراء مختلفة حول الموضوعات نفسها، ويتنافى تمامًا مع فكرة الواقعية الساذجة.
والسبب معالجة المعلومات من أعلى إلى أسفل
تبدأ عملية إدراك الأشياء المختلفة عندما يلتقط الأشخاص المثيرات المحيطة بهم ثم يتبعها محاولة تفسير هذه المثيرات وتحويلها إلى معلومات، ووفقًا لمدونة دكتور جين كوين أستاذ علم النفس المعرفي بجامعة كولبي كولدج الأمريكية، فإن عملية تفسير المعلومات تتم عن طريق دمج الخبرات والمعرفة السابقة بالمعلومات والمفاهيم الجديدة التي يجري التقاطها من البيئة المحيطة، وتعرف هذه الطريقة «بالمعالجة من أعلى إلى أسفل» وهي الطريقة التي تتكون بها آراؤنا، وتصوراتنا عن العالم»، وتُعد هذه العملية ضرورية لأنها تُساعد على تكوين الاستنتاجات والآراء حول الأحداث المختلفة بطريقة تتميز بالسرعة نسبيًّا، خاصة إذا كانت لدينا تجارب سابقة مماثلة.
إلا أن ردود الفعل السريعة حيال بعض الأمور أحيانًا قد تقودنا إلى التحيز إلى آرائنا بشكل كبير، مما يؤدي إلى بعض الصراعات خاصة مع الآراء المخالفة للآراء التي نتبناها.
الواقعية الساذجة: رؤية العالم من جانب واحد
تكمن مشكلة الواقعية الساذجة في كونها تعوق القدرة على الانفتاح على العالم وتقبل آراء الآخرين؛ إذ تؤدي إلى رؤية الأشخاص للعالم بطريقة أحادية الجانب تركز على إيمانهم بأفكارهم ومعتقداتهم، ورفض الآراء المخالفة لآرائهم وتجاهلها، مما يؤدي لاحقًا إلى ضياع فرص الأشخاص في التعلم والتغيير وتبادل الخبرات والثقافات المختلفة.
وللدماغ دور في ذلك
لوقتٍ طويل كان يُعزي علم النفس الاجتماعي كيفية فهم الناس العالم إلى الواقعية الساذجة إلا أنه لم يجر الكشف عن أجزاء الدماغ المسؤولة عن تطبيق هذه الآلية، مؤخرًا كشف بحث جديد أجراه البروفيسور ماثيو ليبرمان، أستاذ علم النفس بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، الضوء على دور الدماغ في تفسير المعلومات التي يتلقاها الأشخاص عن طريق الواقعية الساذجة وأشار إلى أن هناك جزءًا من الدماغ يعرف باسم «قشرة الجشطالت» ويُعد المسئول عن فهم الأشخاص للمعلومات الغامضة واستبعاد التفسيرات البديلة والتمسك بآرائهم في مقابل آراء الآخرين.
يُشير البحث المنشور على موقع جامعة كاليفورنيا إلى أن هذه المنطقة في الدماغ والتي تقع خلف الأذن بين أجزاء الدماغ المسؤولة عن معالجة الرؤية والصوت واللمس؛ تساعد الأشخاص على بناء واقعهم الخاص؛ إذ ترتبط هذه المنطقة ببنية تسمى «التقاطع الصدغي الجداري» والذي يُعد جوهر التجربة الواعية ويساعد على تنظيم السمات النفسية للمواقف المختلفة ودمجها مما يسهل عملية تفسير الأحداث الاجتماعية الغامضة والمعلومات غير المكتملة وفهمها، خاصة أن معظم المواقف الاجتماعية التي نمر بها مليئة بالكثير من المعلومات غير المكتملة.
فيميل الأفراد إلى استكمال الأحداث غير المكتملة بالافتراضات والمعتقدات والأفكار والاستنتاجات الخاصة بهم أو ما يطلق عليه وفقًا للبحث «التفسيرات الذاتية»، والتي تسهم بشكل كبير في تقييم آراء الآخرين وقبولها أو رفضها. وعلى الرغم من أن هذ العملية تتطلب قدرة من الدماغ لمعالجة عدد كبير من الاستدلالات والاحتمالات، فإنها تتم بلا مجهود مقارنة ببعض العمليات الحسابية البسيطة التي يُجريها المخ والتي تحتاج إلى جهد كبير.
والسبب: مسار عصبي متخصص للعلاقات الاجتماعية!
وفقًا لموقع «ساينس ديلي» العلمي فإن البروفيسور ليبرمان ومجموعة من الباحثين الآخرين قدموا دراسة منفصلة اهتمت بتفسير سهولة التواصل الاجتماعي على الرغم من تعقد الحياة الاجتماعية، إذ أظهرت الدراسة أن لدى البشر مسارًا عصبيًّا معرفيًّا متخصصًا للتفكير الاجتماعي يمتد من الجزء الخلفي من الدماغ إلى الجزء الأمامي وينشط من جهة الأمام عندما يجري التفكير في وجهات نظر وآراء الآخرين.
وتُشير نتائج الدراسة إلى أن هناك أجزاءً في المخ تتعامل مع المعلومات الاجتماعية بشكل سريع مثل «التقاطع الصدغي الجداري»، بينما هناك بعض الأجزاء الأخرى التي تتعامل بشكل أبطأ وبحذر أكبر، خاصة في الأمور التي تحتاج إلى الكثير من التفكير مثل «قشرة الفص الجبهي الظهري».
بعض الإستراتيجيات التي تساعد على تقبل وجهات نظر الآخرين
توضح آلية عمل الدماغ والنظريات النفسية أن البشر متحيزون لأفكارهم، ومع ذلك فإن إيجاد طرق لتقبل وجهات نظر الآخرين قد يساعد إلى حد كبير في الحفاظ على العلاقات الاجتماعية المختلفة، وفيما يلي عرض لبعض الإستراتيجيات التي طرحها موقع «فيري ويل مايند» الطبي، لتقريب وجهات النظر المختلفة:
1- كن مرنًا ولا تتمسك برأيك
المرونة وعدم التمسك بالرأي أحد علامات الذكاء العاطفي والحكمة، لذلك إذا كان لديك وجهة نظر مسبقة حول قضية ما فمن الأفضل أن تترك مساحة للنقاش وتقبل الرأي والرأي الآخر، ولا تهاجم الآراء المخالفة لرأيك.
2- الآخرون قد يكونون على حق
الانفتاح على آراء الآخرين وأفكارهم قد يكون مفيدًا، خاصة إذا كانت آراؤهم أقرب إلى الحقيقة، لذلك امنح نفسك الفرصة لسماع الآخرين وتفهم وجهات نظرهم المختلفة حتى لو اعتقدت أنها غير صحيحة.
3- اعرف الرأي والرأي الآخر
مهاجمة الآخرين لمجرد أنهم يخالفوننا الرأي وعدم الرغبة في سماع آرائهم، يفقدنا جزءًا كبيرًا من الحقيقة، فمعرفة وجهة نظر الآخرين قد تقودنا إلى تصحيح رؤيتنا التي ربما تكون خاطئة، أو قد تمنحنا المزيد من الحجج التي تدعم صحة ما نفكر به.
4- كن مستمعًا جيدًا
الاستماع الجيد لوجهات نظر الآخرين أوقات النقاش والاختلاف ظاهرة صحية تساعدك على ضبط نفسك وعواطفك ويُجنبك تبني آراء انفعالية لمجرد الاختلاف أو إصدار أحكام متحيزة، فتحلى بالصبر واستمع لتناقش لا لتُصدر أحكام.
5- فكر في الأشياء المشتركة بينكم
اجعل شعارك اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، خاصة إذا وجدت نفسك في صدام مع شخص تحبه، حاول أن تهدأ وفكر في الأمور المشتركة بينكما وامنحه فرصة للتعبير عن آرائه دون أن تركز على نقاط الخلاف بينكما.