زاد في الأشهر القليلة الماضية الحديث عن نية إسرائيل والمقاومة الفلسطينية مع وجود وسيط عربي أو غربي إجراء مفاوضات لم يحدد مسارها بعد “مباشرة أو غير مباشرة” حول الوضع الراهن في قطاع غزة، بعد أن وضعت الحرب الأخيرة أوزارها.
التحليلات الجارية عن ضرورة إجراء المفاوضات لم تأتِ من فراغ، بل بعد تنكر إسرائيل لتفاهمات اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في مصر في السادس والعشرين من آب أغسطس الماضي، وعدم ملامسة سكان القطاع أيًّا من ملامحه على الأرض حتى الآن.
فما هي حقيقة هذه المفاوضات؟ وهل تقبل المقاومة بأن تكون مباشرة؟ وما طبيعة رؤيتها للتفاوض مع الاحتلال، والأسس التي تبني عليها؟ وهل اقتربت من عقد صفقة “وفاء الأحرار 2″؟ وما مصير إنشاء ميناء بحري ومطار لغزة؟
1- هل تجري مفاوضات بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية الآن؟
في الفترة الماضية، وتحديدًا أبريل الماضي فإن كل الأحاديث حول طبيعة المفاوضات بين إسرائيل والمقاومة كانت تنفيها حركة “حماس”، على لسان نائب رئيس المكتب السياسي في غزة إسماعيل هنية، والذي يرى أن التفاوض مع إسرائيل غير مطروح في هذه المرحلة.
إضافة إلى أن “حماس” لديها الجرأة والشجاعة الكافية لتعلن مواقفها، لذلك من يطلق الاتهامات بإجراء مفاوضات مع إسرائيل هو الذي يجري المفاوضات في الليل والنهار ومن فوق الطاولة وتحت الطاولة.
حديث هنية جاء، كرد على ما سماه “اتهامات” رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أن الحركة تتفاوض بشكل سري ومنفصل مع إسرائيل، لإنشاء دولة في غزة وإقامة حكم ذاتي في الضفة الغربية، من دون القدس، ومن دون حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
إلا أن انفراد صحيفة الدستور الأردنية قبل أيام وكشفها نقلًا عن مصادر دبلوماسية غربية القول إن هناك مفاوضات مباشرة تجرى بين حركة حماس وإسرائيل، في جولات متعددة، وتعقد في إسرائيل وبعض العواصم الأوروبية، أثار جملة من التساؤلات حول جديتها.
ومن أبرز القضايا التي يجري التفاوض عليها حسب زعم الصحيفة الأردنية هي إنشاء ميناء بحري عائم بين قبرص التركية وقطاع غزة، إلى جانب جثة جندي إسرائيلي من يهود الفلاشا مقابل أسرى لحركة حماس في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
وفيما يتعلق بالراعي لهذه المفاوضات كما ترى الصحيفة فإن العاصمة التركية “أنقرة” قد تكون راعية لها، في ظل وجود محاضر مكتوبة توثق كافة المفاوضات بين “حماس” وإسرائيل.
ويشار في السياق نفسه، إلى أنه بعد انتهاء الحرب الأخيرة على قطاع غزة والتي استمرت لواحد وخمسين يومًا، وتمكن المقاومة من أسر جندي إسرائيلي تواترت أقوال مسؤولين في حماس عن قرب إبرام الصفقة مع إسرائيل، دون الكشف عن معلومات تفصيليّة.
حتى إن عضو مكتبها السياسي، موسى أبو مرزوق ألمح مؤخرًا إلى إمكانية حدوث تغيير في وجهة نظر حماس تجاه هذه القضية، والتي قد تضطر إلى خوض مفاوضات مباشرة مع “إسرائيل”، بضغط شعبي حال استمر الوضع في قطاع غزة على ما هو عليه من حصار خانق.
إلا أن الحركة سارعت إلى إصدار بيان لتوضيح موقفها حيال تصريحات “أبو مرزوق”، حيث قالت إن: “المفاوضات المباشرة مع “إسرائيل” ليست ضمن سياسة الحركة، وليست مطروحة في مداولاتها الداخلية، وهذه السياسة المعتمدة في حماس”.
وكانت “حماس” أيضًا قد طلبت إجراء مباحثات صفقة التبادل مع إسرائيل، بمعزل عن مفاوضات تثبيت وقف إطلاق النار، لأنّها ستعيّن وفدًا مستقلًّا عن الوفد الفلسطينيّ الموحّد، بسبب حساسية المعلومات الأمنيّة التي تحيط بمصير الجنود الإسرائيليّين الذين يتم أسرهم.
ويجمع المراقبون أن الجناح العسكري لحماس “كتائب القسام” لن تقدم معلومات مجانية لإسرائيل حول عدد من تأسرهم من الجنود أحياءً أو أمواتًا، وهذا ما يعني أن تدفع إسرائيل أثمانًا باهظة إن أرادت معرفة أيّ معلومة عن جنودها، وفقًا لتجارب سابقة كانت آخرها صفقة “جلعاد شاليط”.
2- كيف تنظر «حماس» إلى نهج التفاوض مع إسرائيل؟
لا تنظر “حماس” إلى طريق المفاوضات مع إسرائيل كمخرج لحل الصراع واستعادة الحقوق، بل تعد المقاومة بكافة أشكالها هي من تحقق ذلك، لكنها في الوقت نفسه ليس لديها مشكلة في تدخل طرف آخر كوسيط لتحقيق مرادها في قضايا الأسرى تحديدًا، كما جرى مؤخرًا.
لذلك، فإن إمكانية خوضها مفاوضات مباشرة مع إسرائيل قد يعتبرها البعض نضجًا سياسيًّا، في المقابل قد تهاجم بشدة من آخرين يعتبرون أن المفاوضات هي شأن الرئيس عباس وخيار حركة فتح.
حتى أنه ارتفعت في الأشهر القليلة الماضية الأصوات المنادية بضرورة التفاوض المباشر بين المقاومة والاحتلال، على اعتبار أن المقاومة لها الأولوية بأحقية في طرح مطالبها وقيادة حواراتها مع المحتل بشكل مباشر.
هذه الأصوات استحضرت تجربة الزعيم الليبي عمر المختار مع المحتل الإيطالي, وانعكاسًا لحالة الفوضى السياسية الناتجة عن عدم تطبيق اتفاق المصالحة في نيسان من العام الماضي، وما تبعه من غياب واضح لحكومة التوافق في قطاع غزة، وتقصيرها غير المبرر في ظل العدوان الأخير.
فضلًا عن ثوار فيتنام، والذين فاوضوا الأمريكيين في فرنسا، وأمريكا تمتلك دولة ذات سيادة خارج فيتنام، تتعدد التجارب بين المحتل والمحتلين، إلا أن الحالة الفلسطينية والعربية تمثل نموذجًا غير معهود في العصر الحديث، فإسرائيل قائمة على أرض الفلسطينيين وتحتل القبلة الأولى للمسلمين، وثمة بعد وجودي وعقائدي في التعامل معها في ظل بيئة شعبية تنبذ وجودها.
كما أن هناك قناعة لدى إسرائيل بأن حماس لم تغير من نهجها في التعبئة الجماهيرية ضد إسرائيل، فالمنهج التربوي لحماس لم يطرأ عليه أي اختلاف منذ تأسيسها كما أن شعاراتها بقيت ثابتة، والبعد العقائدي للصراع من أهم مرتكزاتها التربوية.
وبالتالي، على الرغم المرونة السياسية التي تظهرها في بعض الأحيان كطرح الشيخ أحمد ياسين هدنة لعشر سنوات عام 1998، فإن ذلك لم يغير من خطابها المعادي لإسرائيل.
3- ما السر في عدم قبول «حماس» المفاوضات مباشرة مع إسرائيل؟
يرى رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل أن خيار المفاوضات مع إسرائيل في الوقت الحالي “خيار خاطئ”، وأن “حماس رفضت التفاوض بشكل مباشر مع إسرائيل، وعروضًا أخرى بالجلوس مع قيادات رسمية إسرائيلية، وشخصيات محسوبة على معسكر السلام”.
ويعلل مشعل ذلك بأن موازين القوى الحالية لا تخدم القضية، بل تصب في خدمة العدو الذي يرفض الانسحاب من الأرض والاعتراف بالحقوق الفلسطينية” ومن ثم فالتفاوض معه في هذه الحالة “عبث ومقامرة”.
وأشار إلى أن “التفاوض مع العدو امتداد وإدارة للحرب بطريقة أخرى، وأن الوضع على الأرض يحدد نتائج أي تسوية، لأن السلام يصنعه الأقوياء”، لذلك فهو غير مرفوض شرعًا أو عقلًا، لكنه أداة تفرضها تكتيكات إدارة الصراع، ضمن رؤية وقواعد وضوابط تحكم التفاوض مع الأعداء.
ومن أهم الأسباب التي تدفع الحركة لعدم التفاوض مباشرة مع إسرائيل هي:
1- التفاوض المباشر مع الاحتلال يعني الاعتراف بوجوده، فالحالة الفلسطينية مغايرة للتجارب التاريخية التي تذكر في هذا السياق، والمشكلة الأساسية بين حماس والاحتلال هي مشكلة وجود، يبني كل منهما مشروعه الوجودي على إنهاء الآخر.
2- تجربة منظمة التحرير مع الاحتلال، المتدحرجة والمساهمة في حصول إسرائيل على متطلباتها الأمنية وتوسعها الاستيطاني، عززتها وثيقة الاعتراف المتبادل بينهما فاعترفت المنظمة بوجود إسرائيل على 78% من أراضي فلسطين التاريخية، مقابل الاعتراف بمنظمة التحرير دون تحديد حدود وجغرافيا لها.
3- الصورة النمطية والذهنية المرسومة في مخيلة الشعب الفلسطيني والعربي عن عبثية المفاوضات وفقدانه الثقة بالمفاوض الفلسطيني.
4- الخطاب الجماهيري والتعبوي بحرمة المفاوضات وتخوين نتائجها كالتنسيق الأمني، دون التواصل مع القاعدة وشرح السبب وراء هذه الحكم، يحد من قدرة حماس على المناورة السياسية.
4- ما هي أبرز تجارب المقاومة الفلسطينية في التفاوض مع إسرائيل؟
لم يحفل سجل المقاومة الفلسطينية بتجارب عديدة من المفاوضات مع إسرائيل، بل اقتصر على بعض منها، حيث تشكلت في مراحلها الأولى داخل السجون مع قيادات من المقاومة دون وضوح الرؤية، ثم تطورت في الآونة الأخيرة بدخول وسيط كما جرى مع “شاليط”.
لكن المقاومة في كثير من الأحيان اضطرت لعقد محادثات عبر وسطاء عرب وغرب، لإبرام اتفاقيات تتعلق بوقف اعتداءات “إسرائيلية” على قطاع غزة، وأخرى للإفراج عن أسرى فلسطينيين معتقلين في سجون “إسرائيل”.
ومن أبرز هذه التجارب:
أولًا: خلال لقاء عضو المكتب السياسي لحماس محمود الزهار مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت إسحاق رابين ونائبه شيمون بيريز عام 1988م، بناءً على استدعاء منهما وعرض حينها بيريز على الزهار انسحاب “إسرائيل” بشكل كامل من قطاع غزة، ومن ثم الانسحاب على مدار ستة أشهر من الضفة الغربية، باستثناء مدينة القدس، ولكن القيادي بحماس رفض الطرح “الإسرائيلي”.
ثانيًا: كانت داخل المعتقلات فتزامنت مع توقيع اتفاق أوسلو عام 1993م، وجمعت بين إدارة السجون وقيادات من حماس، وهي تتعلق بتوقيع أسرى من حماس على نبذ العنف واحترام اتفاقيات السلام مقابل الخروج من المعتقل.
ثالثًا: بعد نحو 18 عامًا، عادت حماس إلى طاولة المفاوضات مع “إسرائيل”، ولكنها هذه المرة كانت عبر وسطاء، بعد أن أسرت كتائب القسام، مع فصيلين فلسطينيين، الجندي “الإسرائيلي”، جلعاد شاليط في عملية عسكرية نفذوها في موقع كرم أبو سالم العسكري “الإسرائيلي” شرق مدينة رفح جنوبي قطاع غزة في 25 يونيو/ حزيران عام 2006.
وكان هدف المفاوضات غير المباشرة بين “إسرائيل” وحماس التي رعتها مصر، إطلاق سلاح أسرى فلسطينيين مقابل الإفراج عن شاليط.
والجدير ذكره أن هذه المفاوضات مرت بعدة مراحل تواصلت الأولى من 2006 حتى 2009، ولكنها فشلت في التوصل إلى اتفاق بسبب تمسك الطرفين بمطالبهما، وبعد 2009 اتخذت المفاوضات منحى جديدًا حيث تدخلت أطراف دولية وإقليمية فيها ومن بينها ألمانيا وفرنسا وقطر وتركيا.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول عام 2009 سلمت حماس “إسرائيل” عبر الوسيط المصري شريط فيديو مصور يظهر فيه الجندي الأسير “جلعاد شاليط” لمدة دقيقتين مرتديًا الزي العسكري وحاملًا جريدة إخبارية فلسطينية بتاريخ ١٤ سبتمبر/ أيلول ٢٠٠٩.
ومن خلال هذا الشريط نجحت حماس بوساطة ألمانية مصرية في تأمين الإفراج عن 19 أسيرة فلسطينية، حيث كانت “إسرائيل” تطالب بدليل مادي يثبت أن شاليط لا يزال على قيد الحياة.
وشهدت المباحثات تطورات حقيقية في 2011، ليتم إبرام صفقة في 18 أكتوبر/ تشرين أول 2011 تم بموجبها إطلاق سراح شاليط وتم تسليمه من حماس إلى السلطات المصرية مقابل الإفراج عن 1027 أسيرًا وأسيرة من الفلسطينيين.
وخاضت حماس مع عدد من الفصائل الفلسطينية بينها “الجهاد الإسلامي” مفاوضات غير مباشرة مع “إسرائيل” برعاية مصرية عام 2012 من أجل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار متبادل، حيث شنت “إسرائيل” حربًا على القطاع استمرت 8 أيام متواصلة بدأتها في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 ، بعد أن اغتالت نائب القائد العام لكتائب عز الدين القسام أحمد الجعبري بمدينة غزة.
رابعًا: عقب انتهاء الحرب الثانية على القطاع نوفمبر 2012م، والتي استمرت لثمانية أيام، واغتيل فيها رئيس أركان كتائب القسام أحمد الجعبري ومرافقه الشخصي محمد الهمص، نجحت المفاوضات، بتدخل من قطر وتركيا والولايات المتحدة ومصر، في التوصل إلى اتفاق تهدئة.
ونص الاتفاق على وقف الأعمال العدائية بين الجانبين الفلسطيني و”الإسرائيلي”، وفتح معابر قطاع غزة، وإلغاء المنطقة العازلة، وتوسيع مساحة الصيد لتصل إلى 6 أميال بحرية بدلًا من 3 أميال.
خامسًا: بعد أقل من عامين، عادت حماس إلى التفاوض مع “إسرائيل” بوساطة مصرية في محاولة للتوصل لاتفاق هدنة في قطاع غزة بعد أن شنت “إسرائيل” حربًا على القطاع بدأتها في7 يوليو/ تموز 2014 وانتهت بعد 51 يومًا.
حيث خاضت الحركة المفاوضات كجزء من وفد فلسطيني موحد يرأسه عضو اللجنة المركزية لحركة “فتح” عزام الأحمد، ويشارك فيه منظمة التحرير الفلسطينية وحركتا حماس والجهاد الإسلامي.
وجاءت هذه المفاوضات، بعد أن طرحت مصر مبادرة لوقف الحرب في غزة، قبلتها “إسرائيل” في حين رفضتها حركة حماس، لتبدأ في 10 أغسطس/ آب 2014 أولى جلسات التفاوض بين الوفدين الفلسطيني و”الإسرائيلي” في القاهرة لإضافة تعديلات على تلك المبادرة تحقق مطالب الفلسطينيين.
وفي 26 أغسطس/ آب 2014 توصل الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي إلى اتفاق هدنة شاملة نص على وقف إطلاق النار، وفتح معابر القطاع، وإدخال مستلزمات الإعمار، وتوسيع مساحة الصيد البحري إلى 6 أميال بحرية، بالإضافة إلى استئناف المفاوضات لبحث بقية القضايا خلال شهر من توقيع اتفاق الهدنة، والتي لم تنفذ بعد.
5- ما هي سيناريوهات تعامل إسرائيل مع غزة في المرحلة المقبلة؟
وضعت شعبة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية “الإسرائيلية” بالتعاون مع جهاز المخابرات “الشاباك” وجهاز المخابرات الخارجية “الموساد”، أربعة سيناريوهات للتعاطي مع قطاع غزة، وهي:
الأول: مواجهة عسكرية متواصلة مع قطاع غزة دون وجود تفاهمات لوقف النار، في هذا السيناريو ستنجح “إسرائيل” بتدمير الأنفاق بشكل كامل، ويترتب على ذلك أن تعيش “إسرائيل” حالة طوارئ خاصة في المناطق الجنوبية.
الثاني: الحفاظ على حالة الهدوء النسبي الحالية، وهذا الوضع ستستغله حماس لإعادة بناء قوتها العسكرية والاستعداد لجولة القتال المقبلة، و”إسرائيل” ستواجه هذا الوضع بالاستعداد لجولة قتال تحدث بعد عدة سنوات في أحسن تقدير أو ربما بشكل مفاجئ.
الثالث: احتلال غزة بالكامل وبذلك ستكون “إسرائيل” مسوؤلة بشكل كامل عن حياة 1,8 مليون فلسطيني يعيشون في قطاع غزة .
الرابع: حل سياسي وهذه مسألة معقدة حيث سيكون لها تداعيات كبيرة على العلاقة مع مصر، والفلسطينيون ليسوا موحدين لإبرام اتفاق سياسي معهم حاليًا، ومن المستبعد أن يتوصلوا لوحدة موقف حيال ذلك خلال الفترة المنظورة.