هل يمكن لـ«الأعصاب» أن تشكل سلوكنا؟ وإلى أي مدى يمكن لبيولوجيا أجسادنا أن تحدد مواقفنا تجاه الآخرين والأفكار التي علينا التحيز لها؟ إنها أسئلة صعبة، لكن علماء الأعصاب يحاولون جاهدين في السنوات الأخيرة أن يجيبوها، وهو الأمر الذي من أجله نشرت دراسات عديدة لمحاولة فك هذا اللغز.
ويشير مختبر علم الأعصاب الاجتماعي بجامعة نيويورك إلى التقاطع الواضح ما بين علم الأحياء وعلم الاجتماع، والذي يمكن من خلاله تفسير مواقفنا تجاه الآخرين والأشياء؛ مما يؤثر في النهاية على سلوكنا.
في السطور التالية نأخذك في رحلة شيقة نفك بها سويًا لغز التحيز لأمور بعينها، وكيف ساهمت خلايانا في تكوين جزءًا من أفكارنا.
«نحن» و«هم».. التفسير البيولوجي للصراعات الإنسانية
عام 399 ق.م، في قلب أثينا، وقف سقراط بين يد القضاة، يُحاكم بالموت، ويمد يديه لتناول سم «الشوكران»، وهو «مادة عشبية قاتلة استخدمت قديمًا في الإعدام والاغتيالات».
كان سقراط حينها يدفع ثمن مواقفه التي كانت ضد المعتقدات السائدة في المجتمع اليوناني القديم، وكان صادقًا في ذلك؛ إذ رفض فرصته في النجاة بأن يتخلى عما يؤمن به مقابل حياته.
تلك القصة ليست سوى حلقة صغيرة في حلقات الصراع الإنساني الدائم، بين ما نعتقد فيه وننحاز إليه، وما يعتقده المعسكر الثاني، الذي يقف فيه الآخرين المختلفين عنا. وهو أمر له تفسيرات راسخة في علم الاجتماع وتحليلات عميقة، لكن ماذا عن علم الأحياء؟ هل بإمكانه أن يحلل معتقداتنا ومواقفنا؟
يدرك البشر بفطرتهم الطبيعية الاختلافات ما بين أنواع الكائنات الحية، وهو الأمر الذي جعل علماء الأحياء يتساءلون عما إذا كانت الدوائر العصبية تقودنا للراحة بين من يشبهوننا والنفور ممن يختلفون عنا.
في الحقيقة، تشكل تلك الدوائر العصبية ما نسميه بـ«الفطرة السليمة»، وداخلها تحدث معركة دماغية كاملة تتأرجح ما بين عدم الثقة في الآخرين، ونظام المكافأة، والذي يمكن تفسيره بمثال ما نحصل عليه من القبول الاجتماعي بين المحيطين بنا في حالة اتباع أفكارهم ومعتقداتهم.
الأمر ليس مقتصرًا علينا نحن البشر، بل يمتد إلى غيرنا من الكائنات الحية. تستطيع أن تجد في الحيوانات، على سبيل المثال، «الفطرة» ذاتها، فهي تنجذب لمن يشبهها، وتخشى الآخرين وما لا تعرفه.
يتعلق هذا الأمر بمنطقة محددة في الدماغ، تسمى «اللوزة الدماغية» وهي المسؤولة عن تولد شعور الخوف وعدم الثقة. ويشبه ذلك صراعاتنا البدائية الأولى، خوفنا من المجهول، أو أن نفقد في غابة حيث تتواجد الكثير من الحيوانات المفترسة؛ خوف غريزي يسري بعروقنا تجاه الأشياء التي قد تشكل خطرًا.
الأمر الثاني الذي بإمكانه أن يؤثر على مواقفنا وأفكارنا، هي «المتعة» أو النشوة التي يحفزها التأثير على نظام الـ«ميزولمبيك»، وهو مجموعة من الهياكل المتصلة بالجهاز العصبي المركزي.
لا يتوقف الأمر على المتع المادية فقط، كالطعام والشراب وغيرها، بل يصل إلى المتع الاجتماعية مثل الثقة والشعور بالأمان، وهو الشعور الذي يضطرنا للتواجد دائمًا وسط جماعات تؤمن بنفس معتقداتنا.
علم الأعصاب يحلل «الفطرة»
ما معنى التحيز؟ وهل هو أمر يحدث بشكلٍ لاواعٍ؟ يجيب علماء الأعصاب بأن التحيز له أشكال عديدة، سواء على أساس العرق، أو الجنس، أو الدين، أو السياسة.
أي انتماء جماعي ينتج عنه تحيز بطريقة أو بأخرى، وهو ما يجعلنا نحن البشر نعتبر عن طريق فطرتنا أن أي شخص غريب عنا، يمثل تهديدًا لوجودنا. تلك هي الطريقة التي تعمل بها أدمغتنا.
إنها الغريزة، محفزات الشعور بالخطر، التي حملناها عبر آلاف السنين من أجل البقاء، حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من اللاوعي. وعلى الرغم من أن حاجتنا لترقب الخطر، التي كانت تشكل وعينا قديمًا لتناسب العيش في الغابات ووسط الحيوانات المفترسة، قد قلت بالتدريج عبر سنوات من الحداثة، إلا أنها لم تختف من أعماقنا، وقد تعمل اليوم على تشكيل آرائنا تجاه الأشياء والآخرين.
في بحث أجري عام 2014 عن «التحيز والقولبة»، يشير ديفيد أموديو، أستاذ مساعد علم النفس والعلوم العصبية بجامعة نيويورك، إلى أن القدرة على التمييز بين «نحن» و«هم» أمر أساسي بالنسبة لطريقة عمل الدماغ البشري، فيقول: «تلك العملية المعقدة برمتها لا تستغرق داخل أدمغتنا سوى جزء من الثانية».
مهّد أموديو داخل بحثه الطريق لتفسير تأثير التحيز الاجتماعي على الصراع بين الأفراد والجماعات. فعلى الرغم من أننا في عصرنا الحالي نسعى بطريقة مثالية لأن ننحي خلافاتنا جانبًا ونحيا جميعًا في عالم مثالي قائم على المساواة، وأننا صرنا نغذي بطريقةٍ واعية سلوكنا نحو عدم إصدار أحكام مسبقة على الأشخاص والجماعات، إلا أن عملية التمييز بين «نحن» و«هم» تحدث داخل أدمغتنا جميعًا حتى ولو بشكل غير واعٍ؛ حتى أصبح من الصعب اكتشافها أو التحكم بها.
مؤخرًا بدأ علماء الأعصاب في استكشاف الأساس العصبي لـ«التحيز والقولبة»، وذلك في محاولة للكشف عن العملية العصبية التي تتشكل من خلالها تلك التحيزات، والتي بإمكانها التأثير على السلوك. كان بحث أموديو يوضح الآليات الأساسية التي يعمل بها دماغنا طبقًا لعلم الاجتماع والأعصاب في الوقت ذاته، وذلك من أجل فهم «التحيز» بطريقة أفضل، خاصةً بين المجموعات طبقًا للسلوك الاجتماعي.
كان العلماء يعملون على ذلك خاصةً من أجل البحث في إمكانية «تنظيم» تحيزاتنا، وقد وجدوا عملية معقدة تدور في شبكة من العُقد أو «الهياكل العصبية» بمناطق متعددة في الدماغ.
واستندت تلك الأبحاث بشكلٍ متكرر على طريقة عمل «اللوزة الدماغية» بالفص الصدغي وما تتلقاه من مستقبلات عبر أعضاء الجسد الحسية، وهو ما يمكننا من الاستجابة الفورية للتهديدات المفاجئة، وهي عملية تحدث في جزء من الثانية قبل المعالجة الأدق تفصيلًا، وهي التي تمكننا من المواجهة والقتال عند التعرض للخطر؛ إلا أن نفس العملية الدماغية المعقدة تحدث بنفس الطريقة مع «التهديدات الاجتماعية»، والتي يليها سلوك يمكن تفسيره بأنه رد فعل دفاعي تجاه «الآخر».
التحيز والسعي إلى المكانة
يشير آلان دو بوتون في كتابه «قلق السعي إلى المكانة»، إلى أن المكانة تمثل موقع المرء من المجتمع، والمكانة العالية بالمجتمع تمثل أثمن المتع الدنيوية، إلا أنها تجعلنا في الوقت ذاته قلقين، وهو ما يولد داخلنا خوفًا من النزول الاجتماعي لدرجة أدنى، قلق خبيث تحدده قيم النجاح التي وضعها المجتمع والخوف من فقدان المكانة، والذي يعني الفشل.
إنها نفس التهديدات الاجتماعية التي قصدها أموديو في بحثه؛ العوامل الخارجية والمستقبلات التي تتحكم بنا عبر جهازنا العصبي بطريقة لا واعية.
يشير علماء الأعصاب إلى أن المكانة المجتمعية تمثل «نظام المكافأة»، وهو نقيض الخوف وما يحفزه داخلنا من أمور تشكل سلوكنا؛ إذ تعتبر المكافأة هي الموازي للنشوة والمتعة، فما نحصل عليه من مكافآت اجتماعية يحفز لدينا إفراز «الدوبامين» المرتبط بتحسين الشعور، وبالتالي الوصول للمتعة أو السعادة، وهو ما نرجوه، وهو نفسه عامل الجذب الأول للمخدرات. يدمن البشر بطبيعتهم الشعور الجيد، وهو الأمر الذي يحدد تفاعلاتنا الاجتماعية وقبولنا للعادات والتقاليد المجتمعية التي نشأنا عليها، عوضًا عن الوجود وسط أقلية.
هل يمكننا التلاعب بعقولنا للتحكم في انحيازاتنا؟
كان الأمر الذي ناقشه بعض علماء الأعصاب أكثر أهمية وخطورة من مجرد تحليل السلوكيات البشرية باستخدام البيولوجيا؛ إذ كانت الدراسات العلمية الأخيرة تهدف إلى البحث عن طرق للتلاعب بتلك الدوائر العصبية، وهو ما قد يمكنهم في النهاية من التحكم في الانحيازات البشرية والصراعات الإنسانية.
في الحقيقة، سمح التقدم التكنولوجي الأخير بدراسة الخلايا العصبية، بما في ذلك الجزيئات المكونة لها، بطريقة غير مسبوقة، وهو ما يعد بتقديم الكثير من المعلومات الجديدة حول بنية الدماغ وعلم وظائف الأعضاء الحيوية.
قدمت لنا هذه الدراسات طرقًا جديدة لفهم العلاقة السببية ما بين السلوك الإنساني والدماغ. لكن على الرغم من المخاوف المنتشرة بشأن التلاعب العصبي، لم يصل العلماء بعد إلى المستوى المناسب لتنظيم الدماغ الذي بإمكانه أن يتحكم في سلوكنا، وبالتالي في طريقة حياتنا ككل. كما يمكن لنفس الدوائر العصبية أن تنتج سلوكيات مختلفة.
تعتمد العملية برمتها على شقين أساسيين، ما الذي يقوم به الدماغ، وكيف يولد الدماغ السلوك؛ وباستخدام التكنولوجيا، تمكن العلماء من عمل محاكاة للدماغ البشرية، وذلك من خلال تطبيق بعض العمليات العصبية على جهاز يحاكي الدماغ البشري.
كانت التجربة تهدف للوصول إلى كيفية معالجة وتنظيم بعض الوحدات الافتراضية كي تتحد معًا لتنتج سلوك ما في بيئة معينة. بالرغم من ذلك لم يتمكن المعالج الإلكتروني من التوصل إلى كيفية عمل المعالجة.
يقول العلماء: إن فهم السلوك والعمليات المكونة له يتطلب مستويات محددة من التفاصيل اللازمة لتكوين رؤية عصبية ذات مغزى يمكنها التأثير على السلوكيات الطبيعية التي يؤديها الأفراد، وعلى الرغم من وجود تقنيات جديدة تمكننا من جمع البيانات السلوكية وتطبيق خوارزميات التعلم الآلى، إلا أنها لم تؤدِّ حتى الآن إلى التحليل التفصيلي للسلوك الأخلاقي ومساره وبنيته التطورية. خاصةً وأن السلوك أمرًا تحدده عوامل اجتماعية عديدة، لذا فإن هذه العملية من أجل أن تنجح، يجب أن تخضع لعمل سلوكي دقيقي جنبًا إلى جنب العمل العصبي، من أجل فهم السلوك في حد ذاته، وبالتالي قد يمكننا يومًا ما التلاعب بالسلوك الإنساني.