يطلقون الشرارة الأولى للأحداث الثورية الكبرى، يضحون بحياتهم من أجل هدفٍ أسمى وهم يعرفون العواقب، ويخاطرون بمستقبلهم وبراحةِ أسرهم. طالما سمعنا عن هؤلاء على مر التاريخ، لكن هل تساءلت يومًا كيف يستمد هؤلاء الأشخاص قوتهم؟ كيف يدخلون المعارك الأولى دون مؤازرة من الآخرين؟ وهل يشعرون بالخوف مثلنا؟

يبدو الأمر للوهلة الأولى وكأنه يتعلق بقوة الشخصية، أو بعوامل نفسية معينة تدفع هؤلاء الأشخاص لتحمل المخاطر أكثر من الآخرين، إلا أن بعض الدراسات الأخيرة تشير إلى دور «علم الأعصاب» في ذلك أيضًا. فكيف يفسر كل من علم النفس وعلم الأعصاب «قوة التمرد»؟

«الإقدام على المخاطر».. ما الذي يحدث داخل الدماغ؟

في عام 1965، انتهت حياة الناشط الأمريكي من أصل أفريقي، مالكوم إكس، وهو يلقي إحدى خطبه الشهيرة داخل المؤتمر الخاص بمنظمته الجديدة «الوحدة الأفريقية الأمريكية»، ليصبح شهيدًا للعنصرية ضد السود؛ التي قضى حياته كلها في محاولة للقضاءِ عليها.

وهو المصير نفسه الذي لاقاه مارتن لوثر كينج – المناضل الأمريكي من أجل حقوق السود – بعدها بثلاث سنوات، نتيجة للنضالِ في المعركة ذاتها. ويحفل التاريخ بقصصٍ لمناضلين دفعوا حياتهم ثمنًا لما يؤمنون به، وهم مدركون تمامًا عواقب المخاطرة.

تاريخ

منذ سنتين
مالكوم إكس vs مارتن لوثر كينج.. مسيرة نضال السود على دروب متناقضة

يصف علم النفس الإقدام على المخاطر بأنه الاندفاع والانخراط في سلوكيات قد تؤدي إلى عواقب سلبية، سواء على المستوى الجسدي أو المالي أو الشخصي.

المخاطر درجات، بالطبعِ أقصاها هو فقدان الحياة؛ رغم ذلك نجد المناضلين الأوائل، هؤلاء الذي يبدأون المعارك بأنفسهم دون مؤازرة من أحد، يبدون وكأنهم يمتلكون قوى خاصة تمكنهم من المخاطرة، والتغلب على مشاعر الخوف.

يمكن تحليل هذا الأمر وفقًا للعديدِ من العوامل والمتغيرات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية التي تجعل بعض الأفراد أكثر إقدامًا على المخاطر من غيرهم.

رغم ذلك، لا تعد تلك العوامل هي المحددات الوحيدة لامتلاك الشخص القوة للإقدام على المخاطرة. فما الذي يحدث بالضبط داخل الدماغ البشري عندما يقدم الفرد على مخاطرة؟

يشير علماء الأعصاب في دراسة علمية نشرت عام 2014، إلى أن حجم «المادة الرمادية» المتواجدة في «القشرة الجدارية الخلفية» من الدماغ هو ما يحدد قدرة البعض على المجازفة؛ فكلما قلت تلك المادة، تقل الرغبة في المخاطرة، والعكس. لكن هل بإمكان تلك المادة الرمادية أن تحدد من منا سيتمرد على السلطة أو يلقي الضوء على الفساد ومن سيلتزم الصمت؟

في روما عام 1600، حُكم على الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونو بالحرق حيًا بتهمةِ الهرطقة والطعن في المسيحية، وذلك لإيمانه بأن الكون لا نهائي، ويحتوي على أنظمة شمسية أخرى، وهو الأمر الذي كان مخالفًا للمعتقدات السائدة؛ فدفع برونو حياته ثمنًا لآرائه التي رفض التنازل عنها.

يصف علماء النفس تصرف برونو وأمثاله بـ«التمرد الأخلاقي»، ويصفهم بالمتمردين الأخلاقيين. وهم أشخاص يميلون عمومًا للشعورِ بالرضا عن أنفسهم، ويمتلكون قدرًا كبيرًا من الثقة في أنفسهم وأحكامهم.

عادةً، من الصعب تثبيط همة هؤلاء الأخلاقيين، فهم لا يخشون الشعور بالحرج أو الامتثال أمام حشد من الناس، وبالتالي هم الأكثر قدرة على القيام دائمًا بالمجازفة الأولى.

يشير علم الأعصاب إلى أن قدرة الفرد على المواجهة تخضع للاختلافات التشريحية في الدماغ؛ إذ عادةً ما يظهر على الشخص الأكثر ميلًا للانخراط في فعلٍ «ثوري» زيادة في «المادة الرمادية» بالدماغ، تلك التي تقع تمامًا خلف الحاجبين، والمسؤولة بشكلٍ كامل عن الذكريات والأحداث التي أدت إلى نتائج سيئة، وبالتالي فهي تعمل على إرشادنا نحو «التصرف الصحيح» الذي علينا فعله.

بالنسبةِ إلى المتمردين الأخلاقيين، فإنهم بالفعل مختلفون عن بقية الأفراد على المستوى العصبي؛ إذ تساعدهم اختلافاتهم التشريحية على مواجهة الضغوط الاجتماعية بسهولة أكثر من غيرهم.

Embed from Getty Images

«التمرد الأخلاقي».. يمكن التدرب عليه

طوال الوقت نجد حولنا أشخاصًا طيبين، إلا أنهم رغم ذلك يرفضون اتخاذ المواقف اللازمة في الأوقاتِ الحاسمة، فعلى الرغم من أن تحركهم قد يحدث فارقًا كبيرًا إلا أنه عادةً ما يحتاج إلى قوة وشجاعة، وقدرًا من المخاطرة يفتقدون إليه.

تشير كاثرين ساندرسون، أستاذة علم النفس في كلية أميرست الأمريكية، إلى أن الإجابة عن ذلك تكمن في علم الأعصاب؛ إذ إن الشجاعة الأخلاقية ليست أمرًا «فطريًا»، فهي أمر يمكن إتقانه والتدرب عليه. وهو ما قد يجعل من الشرارة الأولى لأي فعل تمرد بداية لانتفاضة ثورية على سبيل المثال؛ فقد اعتدنا على أن نسير في مجموعات، وسلوك فرد قد يؤثر في سلوك المجموعة، ورؤية شخص يفعل «الشيء الصحيح» قد يلهمك لتفعل المثل.

تقول ساندرسون إن أكثر الأشخاص ترددًا بإمكانهم أن يصبحوا بالتدريب قادرين على «التمرد الأخلاقي»؛ وبحسب دراسة نشرت عام 2016، لجون أودهيرتي أستاذ علم النفس ورئيس مركز تصوير الدماغ «كالتك»، فإن «الإقدام على المخاطر» يمكن أن يصبح أمرًا معديًا؛ تزداد قدرة الفرد للإقدام على المغامرة والمخاطر إن اقترن ذلك بتصرف أحد المعارف أو الأصدقاء، وذلك لأن أدمغتنا مبرمجة على التصرف مثل الأقران.

«تتغير الاستجابات السلوكية والعصبية للفرد من خلال مراقبة سلوك الآخرين».
–– شينسوكي سوزوكي، أخصائي علم الأعصاب.

إن الملاحظة السابقة لسلوك أحد المعارف وهم يقدمون على المخاطرة قد يعمل على تغيير تفضيلاتنا السلوكية فيما يتعلق بالمجازفة؛ وهو ما يسميه دكتور علم الأعصاب، شينسوكي سوزوكي، تأثير العدوى؛ إذ تؤثر الملاحظة على تفضيلاتنا الشخصية سواء بالتجاوب مع المخاطر أو النفور منها.

باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، كشف الباحثون في الدراسة عن مناطق «نشاط الدماغ» التي تحفز عند الملاحظة وتلك التي تنشط عند التحول السلوكي، فتتغير الاستجابات السلوكية والعصبية للفرد من خلال مراقبة سلوك الآخرين.

خلال التجربة، اتضح أن حجم «المادة الرمادية» القابعة بالقشرة الجدارية الخلفية من الدماغ يتحكم فيما إذا كان الشخص أكثر أو أقل عرضة لأن يلتقط سلوكًا فيه مخاطرة من الأقران.

رغم ذلك تشير كاثرين ساندرسون إلى أن طبيعة الفعل السلوكي المحفوف بالمخاطر والقائم على التمرد، ليس بالضرورة أن يكون أخلاقيًا؛ بل على العكس يمكن أن تحفز مادتنا الرمادية لدينا حس المجازفة أيضًا لأمرٍ سيئ وغير أخلاقي.

Embed from Getty Images

الأكثر تعاطفًا.. الأكثر تمردًا

إذا كنت من الأشخاص الذين يعانون من التعاطف الزائد مع الآخرين؛ وإن كنت ممن يساندون الغير، ولديك ميل للدفاع عن الآخرين في حالة تعرضهم إلى الظلمِ أو التنمر أو الضرب؛ فأنت من الشريحة الأكثر عرضة لـ«التمرد الأخلاقي». إذ يشير علم النفس إلى أن التصرفات الأخلاقية لها سمات خاصة بها.

رأى الباحثون من خلال مراقبة سلوك المشاركين في إحدى التجارب النفسية، أن المتمردين الأخلاقيين عادةً ما يضعون أنفسهم في مكان الآخرين ليروا العالم من منظورٍ مختلف، وهو ما يشير إلى أن الأشخاص المتعاطفين هم الأكثر عرضة للتمرد.

يمكن ربط هذا الأمر بالبيئة المحيطة، فعلى سبيل المثال، كان المراهقون من العرق الأبيض الذين سمحت لهم بيئتهم بالاختلاط مع الأعراق الأخرى، هم الأكثر تعاطفًا تجاه القضايا العرقية من غيرهم، وهو ما ينعكس على سلوكهم تجاه الأقليات بطريقة إيجابية.

نتيجة لذلك، يصبح هؤلاء الأشخاص هم الأكثر ميلًا للتبليغ عن حوادث العنف التي يتعرض لها آخرون وتقديم الدعم للضحية، كما يصبحون الأكثر عرضة للتدخل في نزاعات الدفاع عن الآخرين.

وإلى جانب التعاطف، هناك بعض المهارات التي عادةً ما تقترن بـ«المتمردين الأخلاقيين»، مثل القدرة على الجدال واستخدام الحجج المنطقية في الدفاع عن وجهةِ نظرهم، وهو ما يمكنهم من مقاومة الضغوط الاجتماعية والتمسك بقيمهم الشخصية.

يشير علم النفس إلى أن هناك عدة عوامل قد تجعل بعض الأشخاص يمتلكون ميلًا أكبر للتصرف بطريقةٍ أخلاقية عند التعرض لضغوط تنطوي على المخاطرة بالرفض الاجتماعي والذهاب عكس التيار، منها الإحساس القوي بالهوية الأخلاقية، وهو أمر يتحدد بشكلٍ كبير من خلال الظروف البيئية.

وكان لدى علماء النفس الاجتماعيين هذا الجدل الدائر حول التأثيرات التي يخلقها «الوضع المحيط الذي يحدث فيه السلوك» على القرارات الأخلاقية للفرد؛ فعندما يتعرض الفرد مثلًا للضغوط من أجل اتخاذ قرار يناقض هويته الأخلاقية، تشير تجارب الباحثين إلى أن 67% من الأشخاص موضوع البحث، كانوا يفضلون الطاعة على اتخاذ قرار أخلاقي من الممكن أن يعرضهم إلى الرفض الاجتماعي.

كانت هذه التجارب مثيرة للاهتمام؛ إذ أسفرت عن رؤى هامة تتعلق بالسلوك البشري؛ بعد أن كان هناك اعتقاد سائد بأن الأشخاص يميلون عادة لاتخاذ القرارات الأخلاقية عن طاعة أوامر مجحفة، وهو ما ثبت عدم صحته؛ فيشير بعض علماء علم النفس إلى أن سلوك الناس بشكلٍ عام يجري التحكم به من خلال ظروفهم الخارجية، وأن القيم الأخلاقية ليست ذات أهمية حقًا لفهم السلوك البشري. بالنسبة إليهم، كان السلوك أمرًا يجري تحديده من خلال تقييم وضع الفرد والظروف الخارجية التي يتعرض لها، وليس سماته الشخصية وخصائصها.

فنون

منذ 5 سنوات
الدماغ يرسم نفسه.. كيف اجتمع الفن مع علم الأعصاب ليصنعا لوحات جمالية مُبهرة؟

بحسب بعض علماء النفس، مثل ريتشارد يوجين نيسبت، يمكن لأي فرد أن يصبح بطلًا أو شريرًا، والأشخاص الجيدون لا يقدمون بالضرورة على أفعال جيدة، بل من الممكن أن يجنحوا ناحية الفعل السيئ؛ إذا دفعتهم الظروف المحيطة لذلك، وقلة قليلة فقط هم القادرون على التمرد ومقاومة الظروف والضغوط والانتصار لقيمهم وسماتهم الشخصية.

إنهم الأقلية القوية التي استطاعت أن تقول «لا» بعد صراع داخلي ما بين القيم الشخصية وضغوط الظروف المحيطة، وانتصرت في النهاية للتصرف الأخلاقي، إذ كان تصرفهم دليلًا على تدخل القيم الشخصية في عملية صنع القرار. إلا أنهم اختلفوا عن أقرانهم من خلال الاتسام بالسمو والكمال الأخلاقي وانخفاض درجات العدوان تجاه الآخرين والتواضع، والمثير للاهتمام هو أن لديهم نظرة أقل إيجابية عن أنفسهم. على عكس الأشخاص الذين يستسلمون للضغط ولا يولون التصرفات الأخلاقية اهتمامًا كبيرًا؛ إذ كانوا يجنحون لنكران تصرفاتهم غير الأخلاقية.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد