أحرز علماء جامعة كاليفورنيا تقدمًا كبيرًا فى فهم الطبيعة البيولوجية لمرض الفصام. إذ اكتشف العلماء باستخدام تقنية لتحليل الحمض النووي- تم تطويرها مؤخرًا – العشرات من الجينات، واثنان من المسارات البيولوجية الرئيسة التي من المرجَّح مشاركتها في تطوُّر ذلك الاضطراب، والتي لم تكتشف في الدراسات الجينية السابقة عن الفصام. ذلك العمل يوفر معلومات جديدة هامة حول كيفية نشأة المرض ويمهِّد الطريق إلى دراسات أكثر تفصيلًا، وربما أيضًا علاجات أفضل في المستقبل.

هذه الدراسة، والتي نشرت في مجلة «nature» من المرجح أن يكون لها تأثير أقوى من أبحاث مرض الفصام؛ لأنها تلقى الضوء على آليات إصابة البشر بالأمراض عامة.

انفصام الشخصية مرض عقلي مزمن وتعجيزي تتضمن أعراضه الهلوسة والأوهام والمشاكل الإدراكية. بعبارة أخرى يؤدي المرض إلى التأثير على طريقة تفكير وشعور وتصرف الشخص المصاب به. قد يعاني المريض من صعوبة في التمييز بين ما هو حقيقي وما هو خيالي، قد تضعف استجابته وتزيد عزلته، وقد يجد صعوبة في التعبير عن المشاعر العادية في المواقف الاجتماعية.

يصاب حوالي 1% من البشر بهذا المرض، أي أكثر من 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم.

بالرغم من أن السبب الدقيق للإصابة بالمرض غير معروف، إلا أنه يبدو أن بعض العوامل قد تزيد من فرصة الإصابة أو تسبب بدورها في المرض؛ يتضمن ذلك:

– وجود تاريخ للمرض في العائلة.

– زيادة نشاط الجهاز المناعى جرّاء الالتهابات أو الأمراض المتعلقة بالمناعة ذاتها.

– كِبَر سن الأب.

– بعض المضاعفات أثناء الحمل أو الولادة مثل: سوءالتغذية أو التعرض للفيروسات أو السموم؛ مما قد يؤثر على تطور عقل الجنين.

– تعاطي العقارات المغيبة للعقل في مرحلة المراهقة، وبداية الشباب، والتي لها تأثير نفسي وعقلي.

أيضاً المشاكل في بعض المواد الكيميائية الموجودة طبيعيًا في الدماغ، منها الناقلات العصبية مثل: الدوبامين والجلوتامين قد تشارك في ظهور المرض.

تشير الدراسات المتعلقة بالتصوير الدماغي إلى الاختلافات في البنية الدماغية والجهاز العصبي المركزي للأشخاص الذين يعانون من مرض الفصام. في حين إن العلماء ليسوا متأكدين من المغزى وراء تلك التغيرات، إلا أنها توضح ـ وبدون شك ـ أن المرض عقلي.

ولأن أسباب المرض غير مفهومة؛ فالأدوية الحالية تخفف من حدة الأعراض، لكنها لا تعالج الاضطراب.

نشرت في 2014 دراسة على «جينوم» أشخاص يعانون من مرض الفصام، ربطت الاضطراب باختلافات طفيفة في أكثر من 100 موقع مختلف فى «الجينوم» البشري. مع ذلك، فإن معظم تلك المواقع تقع خارج الجينات الفعلية لذلك كانت أدوراهم في المرض غير واضحة. تحليل دراسة الأمراض الرئيسة الأخرى من ناحية الجينوم أتى ـ أيضًا ـ بمثل تلك النتائج المحيرة.

تنظم التفاعلات ثلاثية الأبعاد داخل الكروموسومات – التعبير الجيني الخاص بالنسيج- مع ذلك، يبدو أن منظومة «الكروموسومات» خلال تطور المخ، ودورها في تنظيم مسارات الجينات، اضطربت في حالات الأمراض العصبية، مثل: التوحد والفصام.

هذا العمل الذى نحن بصدده يوفر إطارًا لفهم تأثير العناصر المنظمة (noncoding regulatory elements) على تطور الدماغ البشرى وتطور الإدراك، ويسلط الضوء على آليات جديدة تكمن وراء الاضطرابات العصبية والنفسية.

تم تعريف المواقع غير المحتواه على جينات في تلك الدراسات «بالمناطق التنظيمية»، وتعمل على زيادة أو قمع نشاط الجينات الواقعة قريبًا منها على «الجينوم». لا يبدو لمعظم تلك المناطق المرتبطة بالمرض هدف جينى واضح قريب على الجينوم.  لذا من المحتمل أن تكون تلك المناطق هى أيضًا مواقع تنظيمية لجينات أخرى تبعدها نسبيًا عن الجينوم. وهى تستطيع فعل ذلك لو اقتربت من تلك الجينات البعيدة، كما يحدث عند التواء والتفاف الحمض النووى عندما يتم تعبئته ككروموسوم، كما لنهايات الحبل من اقتراب من بعضها عندما يكون ملتفًا.

للتحقق من تلك الاحتمالية، قام العالم «جشويند» وفريقه بابتكار تقنية تدعى «القبض على تشكل الكروموسوم»، والتي تتضمن الإشارة الكيميائية للمواقع التي تلامست فيها حلقات الحمض النووى، ومن ثم عمل خرائط لها.

ولأن لكلِّ نوعٍ من الخلايا في الجسم هياكل كروموسومية مختلفة، طبَّق الباحثون تلك التقنية على خلايا المخ الناشئة في القشرة الدماغية- وهى المنطقة الكبيرة التي تتوسط الجزء العلوي من الدماغ وتتعامل مع المهام العقلية الكبرى. يعتقد أن سبب مرض الفصام هو اضطراب في تطور القشرة الدماغية تلك. كشف المسح أن معظم تلك المناطق المرتبطة بمرض الفصام التي تم كشفها في دراسة 2014 تتصل بجينات لها دورٌ في تطوُّر المخ.

معظم تلك الجينات تم ربطها بالمرض في دراسات سابقة ويشتبه تداخل بعضها في الآخر، على سبيل المثال لزيادة نشاط الأخيرة في القشرة الدماغية لمرضى الفصام. الجينات التي اتصلت بالمرض حديثًا بعضها لمستقبلات خلايا الدماغ التي يتم تفعيلها بالموصِّل العصبي «الأستيل كولين»؛ مما يعني أن أي تغير في نشاط تلك المستقبلات قد يؤدي لنشأة المرض.

أضاف «جشويند» أن هناك الكثير من البيانات الإكلينيكية والدوائية تشير إلى أن التغييرات في إشارات «الأستيل كولين» في المخ تزيد أعراض المرض سوءًا، ولكن حتى الآن لا يوجد دليل جيني يدل على قدرتها على إحداث المرض. وأشار التحليل أيضًا لأول مرة إلى العديد من الجينات التي تتدخل في بداية النشأة المبكرة لقشرة الدماغ.

باختصار، حدد الباحثون عدة مئات من الجينات التي يمكن أن يضطرب تنظيمها في مرضى الفصام، ولكن لم يرتبطوا بالمرض من قبل. في مزيد من التحليلات والتجارب لحوالى 24 من تلك الجينات، ووجدوا أدلة إضافية على اضطراب تنظيمهم أثناء المرض.

كلما وضحت الدراسات دور هذه الجينات في مرض الفصام، سيحصل العلماء على صورة أكثر اكتمالًا عن كيفية تطور المرض واستمراره؛ مما سيؤدي لاكتشاف علاجات أكثر فعالية.

أضاف جشويند «على المدى القريب، سنستخدم نتائج هذه الدراسة لفهم أشمل لمرض الفصام، ولكننا نخطط أيضًا لتطبيق نفس الاستراتيجية لتحديد الجينات المسئولة عن تطور مرض التوحد واضطرابات التطور العقلي الأخرى».

جوهر الأمر أن تكنولوجيا رسم خرائط الكروموسوم الثلاثية الأبعاد يمكن استخدامها لفهم بيانات الجينات المتعلقة بأي مرض ينطوي على مخاطر وراثية. نفس النهج يمكن استخدامه لاكتشاف العلاقات بين الجينات والمناطق التنظيمية لها في العمليات البيولوجية العادية.

وكان المؤلف الأول للدراسة زميل ما بعد الدكتوراة«هاى جونج وون» وآخرون، منهم: «لويس دو لاتورابيتا، جيسون شتاين، نيلروب باركشاك، جيرى هوانج، كارلى أوبلاند، مايكل جندال وجيسون إرنست». وتم تأييد البحث من قبل المؤسسات الوطنية للصحة، ومؤسسة العلوم الوطنية ومؤسسة البحوث الوطنية لكوريا وغيرها.

عرض التعليقات
تحميل المزيد