يترقب المصريون مع بداية السنة المالية التي ستبدأ في الأول من يوليو (تموز) القادم موجة تضخم جديدة، هذا الترقب كان المحرك الرئيسي له أسعار المواد البترولية، التي من المتوقع رفع جزء من الدعم عنها، مع بداية العمل بالموازنة الجديدة، لكن الآن لم يعد هذا السبب هو الوحيد الذي سيقود التضخم للارتفاع؛ فمع إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أمس السبت، رفع الحد الأدنى للأجور لجميع العاملين بالدولة، وزيادة معاشات التقاعد بنسبة 15%، ومنح علاوة إضافية استثنائية لجميع العاملين بالدولة بقيمة 150 جنيهًا، بات هناك سبب جديد يجعلنا شبه متأكدين من أن هناك قفزة جديدة في التضخم، الفترة القادمة.

اقتصاد الناس

منذ 4 سنوات
السماء لا تمطر ذهبًا.. من أين ستموّل الحكومة المصرية الزيادة الجديدة في الأجور؟

 

ما هي العلاقة بين التضخم والأجور؟

قد تتساءل: لماذا تتسبب الأجور في زيادة الأسعار؟ وخلال السطور القادمة سنحاول الإجابة عن هذا السؤال بصورة مبسطة. مبدئيًّا يعتبر التضخم أحد أكبر التحديات الاقتصادية التي تواجه الاقتصاديات المتقدمة والنامية، وكما هو معلوم، فالتضخم يعبر عن الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار، وهو ما يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية، وتآكل الأجور والرواتب النقدية، إذ يتسبب في انخفاض الأجر الحقيقي، والذي يعرف بأنه كمية السلع والخدمات التي يمكن شراؤها بالأجر النقدي.

لدينا الآن نوعان من الأجور: الأول هو الأجر النقدي، وهو الذي يمثل كمية النقود التي يحصل عليها العامل، والثاني هو الأجر الحقيقي، الذي يمثل كمية السلع والخدمات التي يستطيع العامل شراءها بالأجر النقدي في ضوء الأسعار السائدة، من هنا تتضح الفكرة؛ فالأسعار مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالأجر الحقيقي، بالطبع تسأل ما علاقة كل هذا بزيادة الحد الأدنى للأجور؟

احتياطي النقد الأجنبي

في الواقع هناك علاقة مباشرة بين التضخم والأجور، إذ يعتقد الاقتصاديون أن التضخم هو ظاهرة نقدية، وأن هناك ارتباطًا قويًّا بين عرض النقود والأسعار، وعرض النقود هنا يتمثل في زيادة الأجور، وبالتالي وبحسب هذا الاعتقاد فإن زيادة الأجور بدون وجود إنتاج إضافي سيؤدي إلى ارتفاع التضخم، وبمعنى آخر، إن ارتفاع الأجور النقدية بدون إنتاج، سيؤدي إلى انخفاض القيمة الحقيقية، أو ما تسمى بالقوة الشرائية للنقود؛ أي كمية السلع والخدمات التي يمكن شراؤها بوحدة النقود أصبحت أقل.

لتوضيح الرؤية أكثر هناك معادلة اقتصادية مشهورة تعد حجر الزاوية بنظرية كمية النقود، وهي المعادلة التي صاغها الاقتصادي الأمريكي، إرفينغ فيشر، وهو الرجل المشهور بنظريته المعروفة في الأوساط الأكاديمية بالنظرية الكمية للنقود، كما تعرف كذلك بـ«معادلة فيشر»، ونصها هو (mv = pt)، أي أن كمية النقود المتداولة (m) مضروبة في سرعة دورانها (v) -وسرعة تعني متوسط عدد المرات التي يتم استعمال وحدة نقدية فيها خلال فترة محددة-، تساوي الحجم الكلي للمبادلات (t) مضروبًا في متوسط الأسعار (p).

وبدون الخوض في تفسير المعادلة، فإن خلاصة ما توصل إليه فيشر هو أن تغير كمية النقود -أبرزها الأجور- يؤدي إلى تغير المستوى العام للأسعار بالنسبة نفسها وفي الاتجاه نفسه، بمعنى أن نمو المعروض النقدي يعني نمو الأسعار؛ أي زيادة التضخم، وذلك لأن كل زيادة في حجم النقود لا بد أن يقابلها زيادة في السلع في السوق، إما بالإنتاج وإما بالاستيراد، وهو ما لا يحدث على أرض الواقع.

رحلة التضخم في مصر خلال آخر 5 أعوام

شهد التضخم في مصر الكثير من التقلبات خلال السنوات القليلة الماضية، ولكن كان أعنفها هو الارتفاع الذي جاء بعد تحرير سعر صرف الجنيه في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، إذ قفز المعدل السنوي –كما توضح بيانات البنك الدولي– من نحو 10% خلال 2015 إلى نحو 30% خلال 2017، وهي قفزة كبيرة في الأسعار ربما الأكبر في تاريخ مصر، إلا أن عام 2018 شهد استقرارًا ملحوظًا.

وكما توضح الأرقام الصادرة عن البنك المركزي المصري حول معدل التضخم الشهري في آخر 12 شهرًا، فإن التضخم بعد أن كان في طريقه للهبوط في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عاود الاتجاه الصعودي مرة أخرى، إذ قفز إلى 14.4% في فبراير (شباط) من 12.7% في يناير (كانون الثاني)، بحسب ما قال الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء، وهي الأرقام التي جاءت أعلى من التوقعات سواء على أساس شهري، أو سنوي.

بيانات البنك المركزي المصري

جدير بالذكر أنه في العام الماضي، رفعت الحكومة أسعار المواد البترولية، وتذاكر مترو الأنفاق، والمياه، والكهرباء، وعدد من الخدمات، ومن المتوقع أن تكرر الحكومة مثل هذه الإجراءات خلال العام الجاري، بالرغم من أن المصريين يواجهون صعوبات في تلبية الحاجات الأساسية بعد قفزات متتالية في أسعار الوقود، والدواء، والمواصلات منذ تحرير سعر صرف الجنيه.

سياسة أم اقتصاد.. لماذا تغيرت وجهة نظر الحكومة في رفع الأجور؟

في مارس (آذار) 2017، وتحديدًا قبل عامين من الآن، قال أحمد حسن المدير العام بوزارة المالية حينها: إن أي زيادة في المرتبات سوف يترتب عليها موجة تضخمية جديدة، في إشارة إلى رفض الوزارة هذه السياسة التي تعتبر من الناحية الاقتصادية بمثابة دفع التضخم للارتفاع، وفي الواقع لم تكن تلك الرؤية قاصرة على وزارة المالية فقط، ولكن كثيرًا من الاقتصاديين يرون أن اعتماد الحد الأدنى لأجور موظفي الدولة سيؤدي للتضخم، خاصة في ظل عدم وجود خطط واضحة للحفاظ على قيمة عملتها مقابل تدفق الأموال دون إنتاجية متفائلة في البلاد، لكن ما الذي تغير؟

في الواقع، غير معروف تحديدًا السبب الحقيقي وراء تغيير الحكومة وجهة نظرها -المنطقية- تجاه زيادة الأجور، إلا أن البعض يرجح أن تكون الأسباب سياسية وليست اقتصادية، لكن عمومًا يجب أن نشير إلى أن الكثيرين يرون أن زيادة الحد الأدنى للأجور أحيانًا يكون ضرره أكثر من نفعه، فالحد الأدنى للأجور، هو أقل أجر يتقاضاه العامل في الساعة، أو اليوم، أو الشهر بحكم القانون، فلكل دولة قانون يحدد حجم هذا الأجر، وفي الوقت الذي نجد مطالبات بزيادات الحد الأدنى نجد أيضًا أصوات -أقل- تطالب بترك الأمر للسوق.

ويرى مناهضو هذا الأمر أنه مضر بالاقتصاد من حيث الضغط على القطاع الخاص، ويجبر أصحاب العمل على دفع أجور مرتفعة ربما لا يستحقها البعض، كما أن هناك دراسات تتحدث عن أن الحد الأدنى للأجور كان سببًا في تدمير مئات الآلاف من الوظائف في أمريكا.

كما أن العمالة غير الماهرة تحصل على زيادة بدون مجهود يذكر، وبالتالي أرباب العمل سيتجنبون توظيف عدد أكبر لتجنب التكاليف المرتفعة، ما يجعل نسبة البطالة مع زيادة الحد الأدنى مرشحة للزيادة، وبشكلٍ عام هناك خلاف شهير من حيث الفكر الاقتصادي بين النظرية الكلاسيكية، والكينزية في هذا الأمر، فبالنسبة للمدرسة الكلاسيكية تفترض أن الأجور تهبط عندما يزيد عرض العمل عن الطلب عليه، والأمر نفسه الذي يحدث للأسعار عند زيادة العرض عن الطلب.

ليست زيادة الأجور وحدها.. أسباب أخرى قد تقود التضخم للارتفاع

يرى مصطفى عبد السلام، رئيس قسم الاقتصاد بصحيفة «العربي الجديد»، أن هناك عدة قرارات ستدفع التضخم في مصر للارتفاع خلال الأشهر المقبلة، خاصة في يوليو القادم، منها تأثيرات زيادة الأجور والمعاشات، والبدء في تحرير أسعار الوقود على أن تكون البداية ببنزين 95 بداية أبريل (نيسان)، بالإضافة إلى زيادة أسعار الكهرباء، والرسوم، والمياه، والنقل العام، وكذلك زيادة الطلب على السلع خلال شهر رمضان.

وتابع عبد السلام، خلال حديثه لـ«ساسة بوست»، قائلًا: إن توقعات زيادة أسعار النفط عالميًّا في العام الجاري يمكن أن تدفع نحو زيادة التضخم، خاصة وأن الموازنة الجديدة تقدر سعر البرميل بأقل من 70 دولارًا، وهو ما سيؤثر بالتالي في أسعار الوقود، موضحًا أن كل ذلك سيمثل ضغطًا على التضخم، وربما سوق الصرف الأجنبي، ما قد يدفع البنك المركزي إلى تأجيل قرار خفض سعر الفائدة، واللجوء لخيار التثبيت حتى يُحدث توازنًا بين التضخم، ومعدلات الفائدة في البنوك، ويحد من حدوث زيادة في الطلب على الدولار.

 

ويبدو أن لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي، كانت تدرك هذه التأثيرات؛ مما دفعها لتثبيت سعر الفائدة في آخر اجتماع، إذ أبقى البنك المركزي المصري أسعار الفائدة الرئيسية دون تغيير، يوم الخميس الماضي، ليظل سعر فائدة الإيداع لليلة واحدة عند 15.75%، وسعر فائدة الإقراض لليلة واحدة عند 16.75%، وذلك على عكس توقعات الكثير من الخبراء، إذ قال البنك إن أسعار الفائدة الحالية مناسبة لتحقيق معدل التضخم المستهدف، والبالغ 9% خلال الربع الرابع لعام 2020، واستقرار الأسعار في المدى المتوسط.

المصادر

تحميل المزيد