إذا افترضنا أنك وصديقك قد اتفقتما على إقامة مشروع، عبارة عن عربة لبيع الفُشار في الأماكن العامة مثلًا، وكان الاتفاق أن يقوم صديقك بتجهيز مدخلات الإنتاج، كالذرة والزيت وعبوات التعبئة، وتقوم أنت بصنع الفشار، وتقتسمان الأرباح. وبعد فترة من العمل شعرت أن مسؤولياتك أكبر من مسؤوليات صديقك. ومن ثم اتفقتما على كتابة عقد لتقتسما على أساسه المسؤوليات بالضبط، وبعد فترة من العمل تأكد لك أن نجاح المشروع متوقف على الطريقة التي يتم بها صُنع الفشار، وأنك لا تُحسن هذه الطريقة من أجل استمرار المشروع وزيادة مبيعاته. ولكن طريقة عمل الفشار هي من اختصاصك وفقًا للعقد المكتوب بينك وبين صديقك، فكيف لصديقك أن يتدخل في أمر هو من صميم عملك، وبالتالي هو خارج سيطرته. وعلى هذا الأساس ينشأ بينكما نزاع حول بنود العقد، فيما إذا كانت صياغة هذه البنود تسمح لصديقك بالتدخل في عملك حتى لا يتضرر العمل، وأنت تحتج بأن المسؤوليات مقسمة بشكل واضح، وبالتالي لا يحق له التدخل. وهكذا استمر الخلاف بينكما حول اللغة التي كتب بها العقد على وجه الدقة، وكيف يقوم كل منكما بتنفيذ المهام الموكولة له.

بدءًا من عقود عربات الفُشار، إلى عقود المديرين التنفيذيين في كبريات الشركات العالمية، والتي هي بالطبع أكثر تعقيدًا وتشابكًا؛ يلعب العقد دورًا حاسمًا في الاقتصاد الحديث، حيث يحدد من يسمح له بتنفيذ مهام معينة، وكيف ينفذها، وسلطته في إدارة الموظفين من تحته، وكل شيء تقريبًا.

وتأتي هذه الأهمية على مستوى جميع القطاعات، سواء كانت البنوك، أو شركات التأمين، أو شركات التقنية، أو قطاع الأغذية والمشروبات، أو المنتجات البترولية، أو الألعاب الرياضية، وغيرها الكثير.

وغالبًا تكون المصالح متضاربة بين طرفي العقد، فأنت تسعى للحصول على أفضل المزايا وصديقك كذلك، وما بين ذلك وذاك يمكن للمؤسسة أن تُضر. فكيف نصل بالعقد إلى تحقيق مواءمة بين هذه المصالح وتقليل تضاربها؟

نوبل في الاقتصاد 2016

هذا هو الموضوع الذي منحت على أساسه الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم جائزة نوبل في الاقتصاد، يوم الاثنين الماضي 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2016، مناصفةً بين كلّ من أوليفر هارت؛ وهو اقتصادي بريطاني في جامعة هارفارد، وبينغت هولمستروم؛ وهو اقتصادي فنلندي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ لعملهما على تحسين فهمنا لعقود العمل، وكيف يمكن أن يتم هذا العمل بشكل أفضل.

وقالت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، التي أعلنت الجائزة بقيمة ثمانية مليون كرونة سويدية أو 928 ألف دولار، في ملخص أعمال الرجلين؛ إنهما حصلا على الجائزة لاكتشافاتهما حول نظرية العقد التي ترتب آثارًا في العديد من المجالات، مثل حوكمة الشركات، وقانون الإفلاس، والدساتير السياسية.

وقال بيرسترومبيرغ، عضو لجنة الجائزة، والأستاذ في كلية ستوكهولم للاقتصاد: «هذه النظرية مهمة للغاية، ليس فقط للاقتصاد ولكن أيضًا للعلوم الاجتماعية الأخرى».

وتبحث نظرية العقد على سبيل المثال فيما إذا كان ينبغي أن يحصل المديرون على مكافآت أو خيارات الأسهم، وما إذا كان المدرسون أو العاملون في مجال الرعاية الصحية يجب أن يحصلوا على رواتب ثابتة أو وفقًا لمعايير قائمة على الأداء.

أوليفر هارت

هو بريطاني المولد ويحمل الجنسية الأمريكية. حصل على درجة البكالوريوس في الرياضيات من جامعة كامبريدج عام 1969، وعلى درجة الماجستير في الاقتصاد من جامعة وارويك في عام 1972، وعلى شهادة الدكتوراه من جامعة برنستون في عام 1974، وانضم لجامعة هارفارد في عام 1993، وكان رئيسًا لقسم الاقتصاد في الفترة من 2000 إلى 2003، وهو أيضًا أستاذ زائر في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.

بينغت هولمستروم

هو اقتصادي فنلندي. حصل على درجة البكالوريوس في الرياضيات والفيزياء من جامعة هلسنكي في عام 1972، ودرجة الماجستير في بحوث العمليات من جامعة ستانفورد في عام 1975، وعلى شهادة الدكتوراه في مجال الأعمال التجارية أيضًا من جامعة ستانفورد في عام 1978. وانضم إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في عام 1994، وكان رئيس قسم الاقتصاد من عام 2003 إلى 2006.

وقد ساعد هولمستروم أيضًا في تطوير نظرية المخاطر الأخلاقية، كما كان عضوًا في مجلس إدارة شركة نوكيا أويج من عام 1999 إلى 2012.

ولعب الرجلان دورًا بارزًا في وضع أسس نظرية العقد ودورها في صياغة كل شيء، بدءًا من رواتب المسؤولين التنفيذيين، إلى عمليات الخصخصة.

ما الذي تعنيه نظرية العقد «Contract Theory»؟

تقوم الاقتصادات الحديثة على مجموعة من العقود التي لا تعد ولا تحصى، وبسبب تشابك المهام وكثرتها، ينبغي على كل من طرفي العقد أن يعلموا كل شيء عن أدوارهم، وأن يضعوا الاحتمالات للمواقف التي ربما تحدث في المستقبل، فإذا لم يقوموا بذلك فسوف يخسر أحد أطراف العقد لحساب الطرف الآخر.

من هنا كان عمل الرجلين؛ إذ قاموا بتطوير أدوات نظرية جديدة، أتاحت لنا فهمًا أفضل للعقود والمؤسسات، فضلًا عن فهم المخاطر المحتملة في تصميم العقود، فيوجد العديد من العلاقات التعاقدية مثل العقود بين المساهمين في شركة ما ومديريها التنفيذيين، والعقود بين شركات التأمين وأصحاب السيارات، والعقود بين الهيئات والجهات العامة ومورديها، وكذلك كيفية حل المشاكل العملية في مجال الأعمال التجارية حينما يحل الخلاف بين الشركاء.

وحتى نضمن عدم تضارب المصالح بين هذه الأطراف، يجب تصميم العقود بشكل مناسب يضمن اتخاذ قرارات تصب في مصلحة الطرفين، بما يضمن تقدم العمل وازدهاره.

ومن خلال تطوير كل من هارت وهولمستروم لنظرية العقد، تم وضع إطار شامل لتحليل العديد من القضايا المتنوعة في تصميم العقود، مثل تحديد أجور كبار المسؤولين التنفيذيين وفقًا لأدائهم، والخصومات، ودفعات المشاركة في التسديد في شركات التأمين، وخصخصة أنشطة ومؤسسات القطاع العام.

وعن الجائزة قال هارت إنه كان يعتقد أن بحثه يمكن أن يفوز بالجائزة في وقت ما، وعندما علم بفوزه بالجائزة، قام على الفور بالاحتفال مع عائلته، وكتب على حسابه على «تويتر» إنه: «استيقظ الساعة 4:40 صباحًا بتوقيت شرق الولايات المتحدة، وتساءل عما إذا كان الوقت قد تأخر بشدة لحدوثها هذا العام، ولكن لحسن الحظ رن جرس الهاتف».

وأضاف: «في أول رد فعل لي، قمت باحتضان زوجتي وإيقاظ ابني الأصغر، وبعدها اتصلت بزميلي في الجائزة».

وقال هولمستروم إنه كان صديقًا لهارت لعقود، وكان في سعادة غامرة حينما علم بتقاسم الجائزة معه، وأضاف في حوار مع تليفزيون رويترز في منزله في بوسطن عن هارت: «إنه أقرب صديق لي من الناحية الفكرية، وهو صديق شخصي أيضًا».

وقد درس هولمستروم إعداد العقود للعاملين بدءًا من المدرسين إلى رؤساء الشركات، وخلص إلى أن الصناعات ذات المخاطر العالية؛ ينبغي أن تميل إلى نظام للأجور ثابت، أما القطاعات الأكثر استقرارًا، فينبغي أن يكون نظام الأجور فيها أقرب إلى مكافآت تقييم الأداء.

ويرى هولمستورم أن أجور المدرسين يجب ألا تستند إلى درجات اختبار الطلاب، لكنها يجب أن توضع بطريقة من شأنها المكافأة على تدريس مهارات صعبة القياس، مثل الابتكار والتفكير المستقل.

وبحسب الأكاديمية، فإن «نتائج هذا النموذج متعدد المهام غيرت الكيفية التي يفكر بها الاقتصاديون في مخططات الأجور والمكافآت وتصميم الوظائف».

وردًا على سؤال في مؤتمر صحافي، حول ارتفاع المستوى الحالي لرواتب المسؤولين التنفيذيين، قال هولمستروم إن «العرض والطلب يعمل سحره بطريقة ما»، ولكنه قال إنه قلق من حالة توزيع الدخل واستياء العديد من العمال من ركود الأجور.

وكان عمل هولمستروم الأخير مُركزًا على مشاكل السيولة والأسواق المالية، وأكد أن «الجهل هو النعيم» أثناء الأزمات المالية في بعض الأحيان، والسماح للأسواق أن تتعامل بالسيولة مع استمرار البنوك على هذا الأمر مع الشركاء التجاريين لها، على الرغم من المشاكل التي قد تواجه بعضها.

وقالت الأكاديمية السويدية يوم10  أكتوبر (تشرين الأول) إن أعمال هولمستروم في أواخر السبعينيات، ومن بعده هارت؛ قد ساعدت على تأسيس نظرية العقد «حقلًا خصبًا للأبحاث الأساسية».

وكتب بول كروجمان الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2008، على حسابه على تويتر، إنه من الواضح جدًا أنهما يستحقان الجائزة.

وقالت الأكاديمية السويدية: «بسبب هارت وهولمستروم؛ لدينا الآن الأدوات اللازمة ليس فقط لتحليل العقود المالية، ولكن أيضًا للتخصيص التعاقدي لحقوق السيطرة، وحقوق الملكية، وحقوق اتخاذ القرار بين الطرفين».

وجدير بالذكر أنه تم تخصيص جوائز نوبل للإنجازات في مجالات الفيزياء، والكيمياء، والطب، والسلام، والأدب، من قِبل مخترع الديناميت السويدي ألفريد نوبل، الذي توفي في عام 1896، وتم إضافة العلوم الاقتصادية لجوائز نوبل من قبل بنك السويد المركزي بمناسبة الذكرى الـ330 لتأسيسه، وذلك في عام 1968، وتُمول قيمة الجائزة من قبل البنك.

ومن الملاحظ على جوائز نوبل الأخيرة في الاقتصاد؛ أن لجنة الجائزة قد تراجعت عن منح الجائزة لموضوعات النظريات الاقتصادية الكبرى، ولكنها اتجهت إلى مكافأة الاقتصاديين الذين يضعون رؤى دقيقة لمسائل تحل مشاكل عملية يتعرض لها الاقتصاد.

وذهبت جائزة نوبل في الاقتصاد العام الماضي إلى أنجوس ديتون من جامعة برينستون، لتحليله للاستهلاك والفقر والرعاية الاجتماعية. وقد ساعد الفائزون السابقون بجائزة نوبل في الاقتصاد؛ في تقريب النظريات الاقتصادية إلى وضع السياسات. من بين الفائزين بالجائزة في الماضي؛ ميلتون فريدمان، وجيمس توبين، وفريدريك هايك.

وتجدر الإشارة إلى أن الفائزين الـ11 بجوائز نوبل 2016 في الطب، والفيزياء، والكيمياء، والسلام، والاقتصاد، والآداب، يتضمنون خمسة بريطانيين، وفرنسيًّا، وفنلنديًا، وهولنديًا، ويابانيًا، وأمريكيًا، وكولومبيًا. وستة من الفائزين، بما فيهم البريطانيون الخمسة، يعملون في جامعات أمريكية.

 

عرض التعليقات
تحميل المزيد