قد تكون جائحة كورونا سببًا محفّزًا، وقد يكون الميل لعالم رأسماليّ ينحاز للفردانيّة سببًا أيضًا، كما لا نستطيع غض الطرف عن إسقاطات التغييرات السياسيّة في عالمنا العربيّ على حياتنا الاجتماعيّة. لكن لا يخفى على أحد أن العالم اليوم ينحاز بشكلٍ كبير للعزلة عوضًا عن الاشتباك الاجتماعيّ. فقد لاحظ الباحثون ارتفاعًا في عدد الأفراد الذين يسكنون وحدهم وتجنّبًا واضحًا للحميميّة الاجتماعيّة.

تُقلق هذه التغييرات الباحثين لكون الأشخاص الذين لا يتمتعون بعلاقات اجتماعيّة متينة يفتقدون مصدرًا مهمًا للدعم في حالات الضيق. إذ تلعب العلاقات الاجتماعية الحميمة دورًا مهمًا في الحفاظ على سلامة الصحّة النفسيّة. لكن وكما يبدو، وعلى الرغم من قلق الباحثين، فإنّ للإنسان القدرة على تعديد مصادره. 

تنص نظرية الترابط على أنّنا «نكوّن رابطًا فريدًا من العلاقات مع بعض الأشخاص لما يمنحوه من شعور الأمان»، ونظرًا لكون هذا الأمر يتطوّر فطريًا، فقد اعتقد المنظرون أنّ البشر وحدهم قادرون على تلبية احتياجاتنا من الأمان.

Embed from Getty Images

لكن، مؤخرًا تناقش الأبحاث الحديثة مدى صحة هذا الاعتقاد، من خلال إثبات أنّ ليس الانسان وحده القادر على منح الأمان، بل يمكن للأماكن والحيوانات الأليفة وحتى مواقع التواصل الاجتماعيّة تلبية هذه الحاجة، وخاصة في الظروف التي قد تشكل تهديدًا محدقًا، أو في ظروف يصعب فيها التواصل مع أشخاص آخرين. وهنا تلعب «الشخصيات غير البشريّة» دور الشخصية الترابطية في العلاقة (Attachment figure).

ما هو الترابط؟ وكيف نفهمه؟

يقترح جون بولبي، والذي تعود إليه أُسس نظرية الترابط التي نعرفها اليوم، في أبحاثه حول العلاقات البشريّة أنّ هنالك حاجة فطريّة للبحث عن العلاقات الداعمة مع الآخرين، ويُرجع بولبي هذه الفطرة لاعتماد الطفل الكليّ في بداية حياته على والديه وللحاجة إلى «آخر» للتطوّر والبقاء.

وهكذا، يخوض البشر خلال تطوّرهم ضغوطًا انتقائيّة للبحث عن الأمان في العلاقات القريبة، وعن مصادر هذا الأمان في لحظات الضيق. بناءً على ذلك، يقترح منظّرو الترابط أنّنا نُحفَّز طوال حياتنا للتأسيس والحفاظ على شعور الأمان في علاقاتنا القريبة والمهمّة. وبالتالي، فإنّ أطراف العلاقات وشركاءنا في علاقاتنا البالغة، كالأصدقاء والأزواج، يتخذون دور الشخصيّة الترابطيّة، تمامًا كما يقوم بهذا الدور الآباء في المرحلة الأولى من حياة الطفل.

توفّر العلاقات القريبة، وفقًا لنظرية الترابط، شكلين من أشكال الأمان: «الملاذ الآمن» و«القاعدة الآمنة»، ويكمن الملاذ الآمن في تقديم الشخصيّة الترابطيّة للمساعدة في الحالات التي تُهدد سلامة الفرد أو بقاءه. فحين يتعثّر الطفل ويقع، نراه تلقائيًا يبحث عن أمه. أما القاعدة الآمنة، فهي شعور الطفل وإيمانه أنّه يمكنه اللجوء لأبويه عند حاجته للدعم والمساعدة الجسديّة والنفسيّة. هذه القاعدة هي معتكفٌ متاحٌ للفرد حتى وإن لم يكن ضروريًّا حاليًّا.

وهنالك تناغم في عمل الملاذ الآمن والقاعدة الآمنة عند الفرد، إذ يوفّر الملاذ الآمن للفرد الحماية والدفاع في حالات الضيق والخطر الوشيك. فالمرض، مثلًا أو مواجهة اعتداء أو الضائقة النفسيّة تدفع الفرد نحو البحث عن القرب من الشخصيّة الترابطيّة القادرة على منحه الأمان الفوريّ. بينما تعمل القاعدة الآمنة في حالات الهدوء النفسيّ والجسديّ، حيث توفّر للفرد الأرضيّة الصلبة للتطوّر الشخصيّ وللانكشاف والاستكشاف، المصاحب لاطمئنانه بأنّ الدعم متاح إن لزم الأمر. 

تكبر حاجة الفرد للأمان وتتغيّر وتتشكل على هيئات جديدة في محطّات حياته المختلفة، كما أنّ الشخصيّة الترابطيّة المركزيّة تتوسع لتصبح شبكة من العلاقات القريبة المهمة القادرة على منحه احتياجاته من الأمان. بالإضافة لذلك، يرى الباحثون أن العمليات النفسيّة الداخليّة المرافقة للترابطيّة لها إسقاطات واسعة على علاقات الإنسان الشخصيّة، بما في ذلك الانجذاب الأوليّ ونمط حلّ المعضلات الذي يتبعه في العلاقات.

للترابط في العلاقات أنواع مختلفة، بيد أنّها كلّها تلعب دورًا مهمًا في تشكيل ونحت سلوك الفرد وأدائه كطرف في العلاقة. لكن هذا التفسير وحده قد يغض الطرف عن الديناميكيات الأكثر تعقيدًا للترابطيّة في عالمنا الحديث الذي يميل للفردانيّة بشكل عام، ولعالمنا العربيّ بشكل خاص لما يمر به الأفراد من تغييرات وتشكيلٍ جديد لمفهوم الذات والعلاقات، وعواقب هذه الديناميكيات على الحياة الاجتماعية اليومية. 

الشخصيّة الترابطيّة غير البشريّة

كي يحظى طرفٌ ما في العلاقة بدور الشخصيّة الترابطيّة عليه بشكل أساسيّ، أن يستوفي أربعة معايير تميّز العلاقة عن مجرد رباطٍ عاديّ ووديّ بين الأشخاص:

  1. توفير الملاذ الآمن.
  2.  القاعدة الآمنة.
  3. صيانة قرب الفرد حينما يكون بحاجته.
  4. أن يُحيي فراقه أثرًا سلبيًا وشوقًا ورغبة في القرب.

بحثت الدراسات الكلاسيكيّة لنظرية الترابط هذه المعايير في علاقات الأفراد مع الشخصيات البشريّة. لكن الأبحاث الحديثة تحث على توسيع مفهوم الشخصيّة الترابطيّة، حيث إن الأفراد قد يشعرون بالأمان السيكولوجي من روابط غير بشريّة مثل التدين والتماهي مع الله، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعيّة، أو حتى حيواناتنا الأليفة، وأخيرًا الأماكن والأغراض الماديّة.

قد تكون هذه الفكرة غريبة لأول وهلة، لكن النظام الترابطي الداخليّ تطوّر ليوفّر للإنسان حاجته للأمان في حالات الضيق، بدءًا بالرباط الأوليّ مع الوالدين (أو الراعيين في الطفولة)، ثم توسّعت الحلقة لتشمل العلاقات والأشخاص المهمين كالأصدقاء والشركاء العاطفيين. فلماذا إذن لا تتوسع الحلقة أكثر، من الاقتصار على الشخصيّات البشريّة ما دمنا نلجأ لشخصيّات غير بشريّة بمقدورها توفير الأمان الذي نحتاجه بأشكاله ومعاييره المختلفة في حالات تعجز بها الشخصيات المعتادة على توفيره؟

Embed from Getty Images

حين لا تفي العلاقات البشرية بالغرض فللأمان مصادر أخرى

1- الدين والإيمان

في مجتمعات يحتل فيها الدين والإيمان مكانة ثقافيّة وروحيّة كبيرة، يلجأ بعض الأفراد للصلاة وللطقوس الدينيّة المختلفة التي تقرّبهم من الله. فيرى باحثو الترابط أنّ رغبة القرب من الإله والسعي للأمان بهذه الطقوس يخدم الفرد بطريقة مماثلة للطريقة نفسها التي تقدمها الشخصيات الترابطيّة البشرية.

وتقترح الأبحاث أنّ مكانة الإله الداخليّة تمنح معايير الأمان الأربعة خاصّةً في حالات يحتاج فيها الفرد للتعويض عن نقصٍ في علاقات ترابطيّة متينة مع الآخرين. فيرى الباحثون في نظريّة الترابط أن علاقة الإنسان المؤمن بالإله هي علاقة ترابطيّة، غير أنّ للذات الإلهية مكانة خاصّة في سلّم الشخصيات الترابطيّة لقدسيّتها. فالإيمان يوفّر للشخص شعور القرب الفريد من الإله، والاستجابة عند الحاجة والسؤال والثقة التامّة بأنّه لن يُترك وحيدًا. 

2- الأليف: صديق الإنسان المفضّل

بعض الدراسات التي بحثت العلاقة الفريدة بين الأفراد وحيواناتهم الأليفة، الكلاب على وجه الخصوص، وجدت أنّ بمقدور الحيوانات الأليفة أيضًا توفير احتياجات الفرد من الأمان، على الرغم من أنّها لا تحتل رتبةً أعلى من العلاقات البشريّة في هرم الشخصيّات الترابطيّة، مما يؤكد على أنّ مصادر الأمان تتوسع حين تعجز العلاقات البشريّة على توفيره.

Embed from Getty Images

ففي بحثٍ أجراه عالم النفس لورانس كورديك عام 2008، اختار أن يبحث العلاقة الفريدة بين الكلاب ومربيها، إذ أنّه في الولايات المتحدة وحدها هناك أكثر 60 مليون كلب يعيشُ في منازل أصحابها بوصفه فردٍ من العائلة، بحث كورديك عن سمات العلاقة الترابطيّة في الرابط ما بين الكلب وصاحبه، ووجد أنّ الكلاب مصدرًا استثنائيًا للأمان الذي يحتاجه الإنسان. 

3- العودة إلى «المنزل»

يميل الأشخاص أيضًا للاتكاء على أماكن معيّنة، مثل البيت، لإعادة شحن مخازن الأمان النفسيّة واسترجاع شعورهم الآمن. بل إنّه يمكن القول إنّ مستوى معيّنًا من الترابطيّة يتجلى في شعور بعض الأفراد لما يُشعرهم بالـ«بيت» أو للثقة والدعم الذين يحصلون عليهم من ثقافة بأكملها.

قد يتساءل البعض هل يُعتبر البيت شخصيّة ترابطيّة لأنّه يجمعنا بالأشخاص القادرين على توفير الأمان عند الحاجة؟ بعض الأبحاث أظهرت أنّ بمقدور الأماكن المجرّدة منح شعور الأمان لتجاربنا الشخصيّة فيها بدون علاقة لوجود شخصيّات بشريّة أخرى. لم يجد العلماء دليلًا لوجود حالات تتفوّق فيها علاقتنا الترابطيّة مع المكان على علاقة بشريّة، بيد أنّهم يرون بالبحث عن البيت بوصفه شخصيّة ترابطية استجابةً على الحاجة للعزلة. 

4- الأغراض الشخصية

مثلما يحتاج الطفل لدميته المفضّلة ليتوقف عن البكاء، قد يلجأ البالغون أيضًا لمقتنياتهم الماديّة الجامدة لاسترجاع شعور الأمان في مواجهة الضيق. فالطفل يمارس السيطرة لأول مرّة على أغراضه الخاصة، مثل ألعابه المفضّلة أو ملاءة يرفض أن ينام دونها. وبواسطة هذه الأغراض يطوّر الطفل قدراته النفسيّة التي تتكئ بشكل كبير على السيطرة الخارجيّة.

الأمان مطمور في جمود الغرض، وتمنحنا الأغراض الماديّة شعور السيطرة لكونها ثابتة وغير مفاجئة مما يمنح مستخدميها استقرارًا في الشعور وقاعدةً آمنة. والبحث عن الأمان في أغراضنا الشخصيّة ليست إستراتيجيّة تخصّ الأطفال وحدهم بل البالغين أيضًا، ولذا نرى مثلًا ميلًا لاستخدام الهواتف النقالة في حالات الضيق، خاصّة عندما لا نجد الدعم المرجو من العلاقات البشريّة. 

علاقات

منذ سنة واحدة
أثر الفراشة: علاقة الطفل الترابطية مع والديه كتيب إرشادات لكل علاقاته

وأخيرًا، يمكن القول بأن العلاقات البشريّة مركّبة وبسيطة في آن. لكن المؤكد، حتى اللحظة، أنّها مثيرة للدهشة وتحتاج دراسة وبحثًا أعمق، خاصّة لما تمرّ به في ظلّ التغييرات السياسيّة والاجتماعيّة التي نشهدها. المؤكد أيضًا، أنّ الأمان هو المحرّك الأول للتغييرات وللعلاقات على حدٍّ سواء. والأمان كذلك هو المحفّز للتحرّك وللابتكار ولخلق الفرص على المستويات أجمع.

المصادر

تحميل المزيد