المثل المصري يقول: “من جاور السعيد يسعد”، في إشارة إلى أن الشراكة والصداقة مع السعداء ستنعكس عليك بالتأكيد، لكن ماذا عمن يجاور ديكتاتوراً؟
هذا بالضبط ما فعله رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس رئيس شركة أوراسكوم للاتصالات، وأورواسكوم للتكنولوجيا. ففي الوقت الذي يرى فيه العالم كله ديكتاتورية النظام الحاكم في كوريا الشمالي وبطشها بمواطنيها وعدم السماح لهم بالانفتاح على العالم بأي شكل مما جعل جميع الشركات العالمية تقريباً تفضل الابتعاد عن هذا المكان الخطر الذي لا يمكن ضمان الاستثمارات به، كان لنجيب ساويرس رأي آخر.
ساويرس رأى أن كوريا الشمالية التي بالكاد تحظى بخدمات الهاتف الأرضي، هي موقع مميز وسوق جيدة لإنشاء أول شبكة للهواتف المحمولة بها، مع توقعات بإقبال كبير من الكوريين على هذه الخدمة التي تسهل لهم الكثير من الأعمال وتوفر لهم طريقة ممتازة للتواصل. كوريا الشمالية كانت في نظر رجل الأعمال المصري قطعة أرض بلا تكنولوجيا، وبالتالي فهي مرشح مناسب جداً للاستثمار فيها.
لكن كيف لرجل أعمال محنك مثل ساويرس أن يأمن غدر شاب ديكتاتور ذي سلطة مطلقة، مثل الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، المعروف بأنه لا يتحدث إلى المخطئين، إلا بلغة الإعدامات حتى ولو كانوا أقرب المقربين له، وبوسائل نقلت بعض التقارير الصحفية مدى بشاعتها.
عندما قامت شركة أوراسكوم بالإعلان عام 2008 عن نيتها إنشاء شبكة الجيل الثالث للهواتف المحمولة في كوريا الشمالية، قوبل هذا الأمر بكثير من الشك والريبة، فمن المعروف عن حكومة كوريا الشمالية أنها تحد بقوة من قدرة مواطنيها على التواصل، وتقوم بسجن وإعدام أي شخص يتحدث ضد النظام، كوريا الشمالية واقعة منذ عدة سنوات تحت طائلة العقوبات الدولية، وتقوم بإطلاق تهديدات دائمة ضد جيرانها بشن الحروب وافتعال الأزمات.
يذكر أن مجموعة أوراسكوم هي أكبر مستثمر أجنبي في كوريا الشمالية، لكنها دائما كانت تتلقى القليل من الشكر أو الأرباح من الحكومة الكورية الشمالية.
(1) البداية: أوراسكوم في كوريا الشمالية
بعد أشهر من المباحثات بين الحكومة الكورية وشركة أوراسكوم، تمكنت الشركة من الحصول على موافقة على إنشاء مشروع مشترك مع وزارة البريد والاتصالات الكورية. الاتفاق أوضح أن أوراسكوم تحصل على حصة تقدر بـ 75% تحت مسمى شركة “cheo”، مقابل 25% لصالح الوزارة. وتم بيع الخدمة تحت الاسم التجاري كوريولينك (koryolink).
في أول أسبوعين من إطلاق الخدمة الأولى من نوعها في كوريا الشمالية وتحديداً في شهر ديسمبر 2008، وقع 6000 مشترك عقود الحصول على خدمة الهواتف المحمولة، قد يبدو الرقم صغير، لكنه ليس بهذا السوء؛ إذا ما علمنا أن الحصول على هاتف محمول في كوريا الشمالية يستلزم الحصول على موافقة من الحكومة، كما أنهم بحاجة للحصول على عملة أجنبية لشراء الدقائق.
بدأت الشركة الجديدة تكبر بمعدل جيد وثابت، لتتوسع في المدن الكورية الكبرى، بالإضافة إلى خطوط السكك الحديدية والمترو، لتغطي الخدمة نسبة 75% من إجمالي السكان، وكعلامة على هذا النمو الرائع قام نجيب ساويرس بمقابلة الزعيم الكوري الشمالي وجهاً لوجه، وهو أمر نادر الحصول، خلال رحلته إلى العاصمة الكورية بيونغ يانغ.
المقابلة التي تمت في شهر يناير 2011 لوحظ فيها الترحيب الكبير من قبل الزعيم الكوري بنجيب ساويرس خلال حفل الغداء الذي دعي له ساويرس، في هذا الوقت كانت وسائل الإعلام الكورية تصيح عالياً بالنجاح الذي حققته هذه الشركة في تحديث أنظمة الاتصالات بالبلاد.
زادت أعداد المشتركين تدريجياً لتصل إلى حوالي 2 مليون مشترك من إجمالي 25 مليون، هم عدد سكان كوريا الشمالية، وبدأت الشركة تضيف خدمات جديدة، مثل: إرسال الصور عبر الرسائل. الزائر للعاصمة الكورية بيونيانغ كان يلاحظ بوضوح الهواتف النقالة في أيدي الكوريين، لتبدأ وسائل إعلام ببث التقارير عن الظاهرة الجديدة.
وتسببت خدمة شبكة الهواتف المحمولة هذه في الكثير من الفوائد، ليس فقط في تواصل الكوريين مع بعضهم البعض، لكن كان لها فائدة بشكل خاص في اقتصاد السوق الكوري الناشئ، إذ يستخدم التجار المعلومات حول الشحنات الواردة من الأرز لضبط الأسعار في الأكشاك في جميع أنحاء البلاد.
وقد أظهرت بعض التقارير مجموعة من الطرائف للشعب الكوري الشمالي، الذي لم يكن يعلم حتى بوجود اختراع اسمه التليفون المحمول، من بينها ما ذكره بعض الصحفيين الكوريين في مقالاتهم عن حاجة الشعب الكوري إلى معرفة “إتيكيت استخدام الهواتف المحمولة”، بعدما لاحظ هؤلاء الصحفيون أن الكوريين لا يعرفون بأنفسهم عند استقبال المكالمات، على عكس ما كانوا يفعلونه عند استقبال المكالمات على الهواتف الأرضيةن أيضاً كتب البعض عن الصوت العالي الذي لازم الكوريين أثناء مكالماتهم.
(2) الأرباح وتفجر المشكلات
هذا النجاح الكبير للشركة جلب معه الكثير من الأرباح، لكن الأرباح جلبت معها المشاكل، فشركة أوراسكوم لم تتمكن من إخراج أرباحها خارج حدود كوريا الشمالية، وباءت كل محاولاتها بالفشل. السبب الأقل يكمن في العقوبات الاقتصادية الموقعة على كوريا الشمالية من قبل مجلس الأمن، لكن السبب الرئيس كان رفض الحكومة الكورية الشمالية أن تترك هذه الأموال تذهب خارج حدودها، فعلى الرغم من الشراكة بين الحكومة والشركة، إلا أن الحكومة رفضت منح الإذن للشركة بنقل الأموال خارج البلاد.
المشكلة تظهر بوضوح إذا ما علمنا أن هذه الأرباح تكون بالعملة الكورية الشمالية “وون”، هذه العملة لا يتم التعامل بها دولياً ويقتصر التعامل بها داخل حدود دولة كوريا الشمالية فقط، وبالتالي فقبل أن تقوم الشركة بنقل الأموال خارج البلاد عليها تحويل هذه الأموال إلى إحدى العملات الدولية، مثل: الدولار أو اليورو أو أية عملة معترف بها دولياً.
الحكومة الكورية الشمالية تفرض أسعار تحويل عالية جداً للتحويل من الوون إلى العملات الأجنبية (100 وون تساوي 1 دولار أمريكي)، من هنا فإن إجمالي أرباح مجموعة أوراسكوم حتى نهاية العام الماضي تبلغ 585 مليون دولار أمريكي.
السوق السوداء في كوريا تمثل السعر المتعامل به فعلياً على أرض الواقع داخل الأراضي الكورية الشمالية، وإذا ما أرادت أوراسكوم أن تحول أرباحها هذه إلى دولارات، فإنها ستحصل فقط على 7,2 مليون دولار فقط.
المشكلة تتضح هنا أن الحكومة الكورية الشمالية لا يمكنها أن تحول الأموال بالسعر الرسمي؛ لأنها ستتضرر، وفي نفس الوقت لا يمكن لشركة أوراسكوم أن تنصاع لضغوط الحكومة، وتقوم بتحويل الأرباح عن طريق السوق السوداء؛ لأنها ستخسر أكثر من 80% من أرباحها دفعة واحدة.
هذا الأمر أدى إلى محادثات سرية مستمرة، لم يعلم أحد عنها شيئاً بين الطرفين؛ في محاولة لإيجاد تسوية ملائمة، لكن دون فائدة.
(3) ضربة كوريا القاضية
ظهرت هذه المشكلة للعلن في شهر يونيو الماضي: عندما أعلنت مجموعة أوراسكوم أن الحكومة الكورية بصدد إنشاء شبكة جيل ثالث جديدة للتنافس مع شبكة كوريولينك. ونتيجة لخيارات الشركة المحدودة، فقد قامت بالدخول في محادثات لدمج كوريولينك مع الشركة الجديدة المزمع إنشاؤها، وعلى الرغم من الموافقة من حيث الأساس للحكومة الكورية، إلا أن شيئاً جديداً لم يحدث حتى الآن.
ومما زاد الطين بله، كان إعلان الحكومة الكورية أنها ستكون شاحبة الحصة الأكبر في أي مشاريع بها شراكة مع أي طرف، في هذه اللحظة تحديداً خرج تصريح رسمي من المجموعة يوم الاثنين الماضي أنها فقدت التحكم في أنشطة شركة كوريولينك.
وعلى الرغم من أن الملياردير المصري لم يزل يملك بعض الأمل، إلا أن المؤشرات لا تدل على وجود أي أمل في الأفق، وكان التصريح الأخير له بشأن هذه الأزمة هو ما صرح به من أن الشركة تملك 3 مليون مستخدم في كوريا الشمالية، وأن لديه أملاً في عودة المباحثات، وحل كل القضايا المعلقة.
صحيفة واشنطن بوست ذكرت عنوانا ساخر عما حدث قائلة: “كوريا الشمالية تخبر الشركة المصرية: شكراً على خدمة الهواتف المحمولة، لكننا سنأخذ الشركة أيضاً”. الصحيفة أوضحت طمع الشركة المصرية في الوصول لكل مكان ممكن ومحاولتها الاستيلاء على حوالي 25 مليون مستخدم محتمل هم عدد سكان كوريا الشمالية.
يذكر أن مشروع خدمة الهواتف المحمولة ليس هو الأول الذي تقيمه مجموعة أوراسكوم القابضة في كوريا الشمالية: مجموعة أوراسكوم قامت بالاستثمار في مصنع للأسمنت عام 2007، وفي أواخر عام 2008، وفي وقت مقارب للوقت الذي تم إطلاق شبكة الجيل الثالث، قامت أوراسكوم بافتتاح بنك محلي، مجموعة أوراسكوم كانت هي المسئولة عن أعمال استكمال وتجديد فندق ريوغيونغ الهرمي الشكل الذي توقف البناء فيه عام 1992، وظل شاغراً حتى ذلك الوقت.