«يوم ولادة طفلي الثالث كنت ممددة على الأريكة وأشعر بالتعب الشديد، وبسبب عدم تمكني من رعاية أطفالي كانت والدتي بجواري، يومها قلت لها؛ أتمنى أن أكون قادرة على الكتابة مجددًا يومًا ما، لترد عليَّ قائلة: أتمنى فقط أن تكوني بصحة جيدة كي تتمكني من رعاية أطفالك الثلاثة»

هذا ما حكته الشاعرة والمحررة الأمريكية، مولي سبنسر، في سياق حديثها عن الأمومة والكتابة؛ كانت سبنسر تصارع كل يوم حتى تكون كاتبة وأمًّا جيدة، على مكتبها الذي شهد الكثير من قصائد الشعر كانت تتراكم الفواتير التي يجب أن تُدفع والمقالات التي يجب أن تُحرر، والحقيقة أن تجربة الكتابة عن الأمومة بقدر ما قد تبدو تجربة ملهمة تُثري الصفحات البيضاء، فإنها ليست سهلة، وذلك بسبب الصراع الذي يختلج داخل كل أم، ثمة تمزق في هويتها بين كونها كاتبة وبين دورها كأم، وفي هذا التقرير نستعرض ثلاثة كتب وروايات تحدثت عن تجربة الأمومة.

كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»

«إذا كان هناك صراع بين ذات الأم وذات طفلها فلن ينتصر أحدهما، سينتصر الإحساس بالذنب»

في كتابها «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها» تتحدث الكاتبة المصرية، إيمان مرسال، عن تجربتها مع الأمومة، وتلقي الضوء على شعور يطغى على أغلب الأمهات، الشعور الدائم بالذنب، وتُعرِّف إيمان هذا الشعور بكونه المسافة الفاصلة التي تقع بين الحلم والواقع، وترى أنه نتاج المسافة بين مثالية الأمومة في المخيال العام وبين إخفاقاتها في الخبرة البشرية.

تتعرض الأمهات لكم هائل من الضغط؛ سواء من أنفسهن أو من المجتمع: لماذا يبدو طفلك مرهقًا؟ ولماذا تودعينه في حضانة بدلًا من أن تهتمي به بنفسك؟ أيهما أهم عملك أم أطفالك؟ أسئلة لا تنتهي وجلد لا يتوقف، لماذا؟ لأن المجتمع ينتظر من الأم أن تقدم الكثير، كيف لا وهي «مثال التضحية الأزلي»، وهذا تحديدًا ما قصدته إيمان بالفجوة بين مثالية التصوُّر المجتمعي وبين إخفاقاتنا اليومية.

غلاف كتاب: «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها» للكاتبة المصرية إيمان مرسال. المصدر: جودريدز

وفي حديثها عن جوهر الأمومة تحكي إيمان عن والدتها بأنها تخيلتها دومًا على صورة طائر الكنفاه، الذي كانت تخيطه بيدها قبل وفاتها، وهنا لا دخل لهذا التشابه بالتذوق الجماليِّ، ولكن لأن والدتها قضت نهارات طويلة وهي تجلس بجانب النافذة تراقب الطائر وخلال هذا الوقت تعرضت للكثير جدًّا من وخز الإبر، والمئات من الجروح على حد قولها، حتى تكتمل صورة الطائر على الكنفاه، وهنا العنصر المشترك بين الأم وصورة الطائر: أن الأم لن تستطيع التوقف في المنتصف، يجب أن تكمل مشوارها للنهاية في سكون، وخلال ذلك المشوار ستتعرض للكثير من وخزات الألم.

تتطرق إيمان في كتابها أيضًا إلى الحديث عن الأمهات الكاتبات؛ إذ استخدمت في كتابها شهادات شاعرات وروائيات ومصورات، مثل تجربة الشاعرة السورية سنية صالح مع الأمومة، وتجربة الكاتبة أدريان ريتش، التي حكت عن إحباطاتها ونوبات الغضب التي كانت تنتابها دومًا لأن طفلها يرفض أن تنشغل أمه عنه، ويترك كل ما في يده ويقفز على الآلة الكاتبة بمجرد جلوس أمه للعمل.

تخلص إيمان من شهادات الكاتبات إلى نتيجة مفادها أن الأم الكاتبة تعاني صراعًا كبيرًا وبشكل يومي، فحين تنجح الكاتبة في أن تكون أمًّا ليوم ستشعر بالفشل تجاه ما لم تنجزه من قراءة وكتابة، وعندما تقضي يومًا في الكتابة ستتألم من أنانيتها، وبعد ذلك تسرد لنا إيمان تاريخ حضور الأم في الصور الفوتوغرافية وتتساءل ما الذي يجري انتقاؤه وتوثيقه وعرضه عن الأمومة، وما الذي يجري قصه واستبعاده خارج إطار اللقطة المتقنة حتى نؤكد صورة الأمومة المثالية في الخيال الجمعي.

رواية حليب أسود: عن اكتئاب الأمهات بعد الولادة

«هناك سبب يجعل ما لا يُحصى من النساء يقلن إن الأمومة هي أحن ما جرى عليهن في الحياة، وأنا أتفق مع ذلك من أعماق قلبي، غير أن المرأة لا تصير أمًّا بمجرد الإنجاب بل عليها أن تتعلم الأمومة، إنها معرفة، يأخذ استيعابها عند البعض أطول من الآخرين»

تنقل لنا الكاتبة التركية إليف شافاق في روايتها «حليب أسود» معاناة الأمهات بعد الولادة، وترمز إليف إلى تلك المعاناة بالربط بين الحليب والسواد في إشارة إلى شعور الاكتئاب الجامح الذي يلتهم الأمهات محولًا الحليب الأبيض إلى أسود في خيال إليف، وتشير في روايتها إلى حجم الصراع الذي عانته، فمن ناحية الكاتب أناني بطبعه ويحتاج أن يتفرغ لكتابة أعماله في ركن مقدس لا يُمس، أما الأم فهي معطاءة بالفطرة ومتاحة لأبنائها طوال الوقت، فكيف ستحل الأم الكاتبة تلك الإشكالية؟

وفي محاولة لتقريب الصورة تحكي لنا إليف عن معركة بين أصواتها الداخلية التي تحكمت بها بعد الولادة، تعبر هذه الأصوات عن جوانب شخصيتها المختلفة، وأطلقت إليف على كل صوت منهم اسمًا يشبهه؛ فهناك صوت «ماما الرز بالحليب»، وهو يعبر عن جانبها الأمومي ويشجعها هذا الصوت دومًا على رعاية طفلتها والاهتمام بالطبخ، وهناك أيضًا صوت «الآنسة المثقفة الساخرة» التي تهتم بقراءة الكتب ولها موقف سلبي تجاه «ماما الرز بالحليب» لأنها تشغل إليف عن مهمتها الأصلية.

غلاف «حليب أسود» لإليف شافاق. المصدر: جودريدز

لدينا أيضًا صوت «الآنسة العملية القصيرة» وهو الصوت الذي يركز على ضرورة الاهتمام بالمظهر الخارجي لإليف، مثل لباسها، ثم هناك صوت «الدرويشة الصوفية المؤمنة» التي تغذي الجانب الديني في شخصية إليف وتحثها على عشق الله والتوكل عليه دومًا، لأنه وحده القادر على تذليل كل الصعاب والتحديات التي تواجهها، وتتصارع تلك الأصوات فيما بينها ويحاول كل جانب من شخصية المؤلفة أن يسيطر عليها.

رواية أرجوك اعتنِ بأمي: عن العاطفة التي تبتلعنا

«إنك تعتبرين أمك أمًّا فقط وأنها ولدت لتصبح أمًّا وحسب، ولم يتبادر إلى ذهنك قط أنها إنسان يضمر المشاعر»

حققت رواية «أرجوك اعتنِ بأمي» للكاتبة الكورية كيونج سوك شين نجاحًا مدويًّا، فبعد صدورها بعشرة أشهر فقط وصلت مبيعاتها إلى أكثر من مليون نسخة، وحظيت باهتمام دولي، وفازت كاتبتها بجائزة مان الآسيوية الأدبية عام 2012، وبخلاف كل الأعمال الأدبية التي تحدثت عن الأمومة كانت هذه الرواية مؤلمة للغاية وصادمة.

تحكي الرواية عن أم لخمسة أبناء ضاعت في محطة سول للأنفاق حين أتت مع زوجها من بلدتهما البعيدة ليحتفلا بيوم ميلادهما مع أبنائهما، ولأن الأم لم ترغب في إرهاق أبنائها بمشقة الطريق قررت أن تأتي هي إلى المدينة، ولكن الأم لم تُولد في يوم الأب نفسه، ولكنها قررت منذ زمن بعيد أن تحتفل بعيد ميلادها مع ميلاده حتى لا تُثقل الأسرة بتكاليف إضافية.

بعد اختفاء الأم يجتمع الأبناء من أجل البحث عنها ولكنهم سرعان ما يتشاجرون ويغلقون على أنفسهم الأبواب، لأن كل واحد منهم يرى أن الآخر هو المسؤول عن ضياع الأم: بعد ذلك تهدأ حدة خلافاتهم ويحكي كل واحد عن ذكرياته مع أمه، كيف اعتنت بهم وضحت بكل شيء من أجلهم، ثم اختفوا جميعًا واحدًا تلو الآخر دون أن يعودوا ليطمئنوا عليها. لا تتحدث الكاتبة هنا عن الاطمئنان الروتيني والسؤال العابر ولكن عن الاهتمام الحقيقي النابع من رغبتهم في أن تكون أمهم جزءًا من حياتهم.

ومع استعراض ذكريات الأبناء توضح الروائية كيف اهتمت الأم بهم، كيف كانت تحضر أصناف الطعام التي يحبونها، وحين لا يستطيعون القدوم للبلدة كانت تذهب إلى المدينة حاملة أطباقهم المفضلة. وتحكي الابنة الكبرى عن التحول الذي حدث لأمها في الفترة الأخيرة: كيف اختفت لمعة عينيها، كيف داهمها الألم وتمكن منها الصداع دون أن يهتم بها أحد من أبنائها، وتتذكر البنت الصغرى كيف كانت مشغولة جدًّا بحياة المدينة وليس بوسعها إلا الاتصال بشكل روتيني بالمنزل، ثم تجرفها الذكريات بعيدًا حين باعت أمها خاتمها الوحيد لدفع الرسوم الدراسية.

غلاف رواية «أرجوك اعتنِ بأمي» للروائية الكورية كيونج سوك شين. المصدر: جودريدز

تقول الكاتبة في روايتها «كلمة ماما مريحة وتنطوي على توسل خفي: من فضلِك اعتني بي، من فضلك اربتي على رأسي بحنان، من فضلك قفي إلى جانبي سواء كنت على صواب أو على خطأ»، وبمرور الصفحات وحين يروي كل منهم ذكرياته مع أمه ندرك نحن القراء أن الأم لن تظهر في الصفحة الأخيرة ولن يعثر عليها أبناؤها لأنها ببساطة تلاشت، لم يعد لها أي وجود، لقد سحقتها كل التضحيات التي بذلتها ولأنها كانت ترى نفسها فقط من خلال أبنائها فهذا هو التطور المنطقي، نسيها أبناؤها فابتلعتها المدينة، ولم يعد لها أي وجود.

تقول ابنتها في الصفحات الأخيرة من الرواية «لو أن الحياة تمنحني بضع ساعات فقط، فسأقول لها إنني أحب كل التضحيات التي بذلتها، وأحب أمي التي استطاعت أن تفعل كل ذلك بنفسها»، لقد أدرك الأبناء قيمتها ولكن في وقت متأخر للغاية.

المصادر

تحميل المزيد