قبل بداية 2018 كانت معظم التوقعات ترجح انتعاش أسعار النفط، ووصل الأمر بالبعض لتوقع وصول الأسعار إلى 100 دولار للبرميل، وكانت الأسعار في نهاية 2017 تدعم هذه النظرة الإيجابية، إذ كان سعر برميل النفط نحو 62.92 دولارًا في آخر جلسات العام، إلا أن السعر خلال العام مر بثلاث مراحل، الأولى انتهت في 23 أبريل (نيسان) عندما لامس السعر لأول مرة منذ 2015 مستوى 70 دولارًا، وخلال هذه المرحلة كان النفط فوق 60 دولارًا، المرحلة الثانية بدأت مع انتهاء الأولى واستمرت حتى مطلع ديسمبر (كانون الأول) أي نحو سبعة أشهر، حقق فيها النفط مكاسب كبيرة ووصل إلى مستويات لم يحققها منذ 2014.

لكن في المرحلة الثالثة وبالرغم من أنها كانت مدة قصيرة إلا أن الخسائر كانت ضخمة وفقد النفط خلال أقل من 20 يومًا كل مكاسبه في نحو عام ونصف تقريبًا، وأنهى العام على سعر أقل بنحو 22% من السعر الذي بدأ العام به، لكن اتجاه منحنى الأسعار عمومًا يشير إلى هبوط حاد، إذ فقدت أسعار النفط نحو 35% من قيمتها خلال آخر ثلاثة أشهر، إذ أنهى خام برنت جلسة 28 ديسمبر 2018 عند مستوى 52.2 دولارًا للبرميل، وهذا السعر أقل بحوالي 14.7 دولارًا عن المستويات التي أنهى النفط عندها 2017، والبالغة 66.9 دولارًا.

كان هذا فيما يخص العام الماضي لكن ما الذي سيحدث لأسعار النفط خلال 2019؟؛ يمكن القول أن هذا العام يختلف كثيرًا عن الأعوام السابقة وذلك لعدة أسباب سنسردها خلال هذا التقرير، لكن يجب الإشارة إلى أنه مع بداية العام سيبدأ منتجو النفط الرئيسيون باستثناء الولايات المتحدة، في تنفيذ اتفاق جديد لخفض الإنتاج بنحو 1.2 مليون برميل يوميًا، في محاولة لاستعادة استقرار السوق بعد التراجعات المتواصلة.

أزمة مالية متوقعة وسط نفط كثير وطلب قليل

تحدثنا مؤخرًا عن أن العالم يقترب بقوة من أزمة مالية ضخمة، وأهم ملامح الأزمة هو الركود، ومعنى الركود أن العالم لن يكون في حاجة إلى نفط كثير بسبب تراجع الإنتاج بالمصانع عمومًا، وفي ظل زيادة المعروض من النفط لن يكون هناك نمو يذكر للأسعار، وبحسب «بنك الاستثمار الحكومي الأمريكي (جيفريز)» فإن سوق النفط متخم في الوقت الحالي، إذ إن السوق يمر بوقت صعب فيما يتعلق بإيجاد أرضية (للسعر)، وهو الأمر الذي يبرر التذبذب الكبير والهبوط السريع للأسعار؛ وتشير بيانات البنك أيضًا إلى أن «الإنتاج العالمي بدأ يتجاوز الاستهلاك».

العالم والاقتصاد

منذ 4 سنوات
الأرقام لا تكذب عادةً.. 2019 موعد الأزمة المالية الجديدة

وعلى الجانب الآخر، فإن الصين التي كان يعول عليها منتجو النفط باعتبارها المستهلك الأكبر للنفط في ظل النمو الاقتصادي الكبير الذي تتمتع به البلاد على مدار آخر عقدين من الزمن، فإنها ستعيش أزمة ملحوظة في النمو الاقتصادي، وهو ما يعزز تراجع الطلب أكثر في العام الجاري، إذ قال «البنك الدولي» في تقرير حديث إن من المرجح تباطؤ النمو الاقتصادي للصين إلى 6.2% في 2019 من 6.5% متوقعة للعام الحالي، وهو الأضعف خلال 28 عامًا.

النصف الأول من 2019 ستهيمن عليه المخاوف المتعلقة بتخمة المعروض

هذا ما خلص إليه مسح أجرته وكالة «رويترز» مؤخرًا؛ شمل 32 اقتصاديًا ومحللًا، وتوقعوا أن يبلغ متوسط سعر خام القياس العالمي برنت 69.13 دولارًا للبرميل في 2019، وهو انخفاض كبير عن التوقعات السابقة، كما أنه انخفاض بأكثر من خمسة دولارات عن توقع الشهر الماضي، لكنه أيضًا يعد توقعًا أفضل بكثير من الأسعار الحالية، وهو أقل من توقعات «بلومبرج» التي ترى أن متوسط مستوى أسعار النفط في 2018 ستصل إلى نحو 70 دولارًا للبرميل.

Embed from Getty Images

ويعاني الاقتصاد العالمي من حالة «تباطؤ تدريجي هش» بحسب وصف «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، التي قالت إن التوترات التجارية ورفع أسعار الفائدة يتسببان في تباطؤ النمو العالمي، في الوقت الذي خفضت المنظمة توقعاتها للعام المقبل، من 3.7% في العام الحالي إلى 3.5% في 2019 و2020، كما أنه من المتوقع أن تؤدي أي حرب تجارية شاملة إلى حالة من الضبابية الاقتصادية قد ينتج عنها خسارة ما يصل إلى 0.8% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2021، وهذه الضبابية لن تساعد أسعار النفط، بل تزيد من الهبوط، خاصة أن الاقتصاد الأمريكي في قلب التوترات الراهنة.

ويأتي هذا في الوقت الذي تتوقع فيه وكالة الطاقة الدولية أن تتجاوز إمدادات النفط العالمية الطلب على مدى 2019، في الوقت الذي ستطغى فيه زيادة بلا هوادة في الإنتاج على نمو الاستهلاك.

مع غروب «أوبك».. تحالفات جديدة قد تظهر في 2019

لم تعد أسواق النفط تتأثر بالأخبار الصادرة عن منظمة «أوبك» وبحسب فيل فلين المحلل في «برايس فيوتشرز جروب» في شيكاغو، فإن السوق لا تعتقد أن «أوبك» سيكون بمقدورها التحرك بسرعة كافية لتعويض التباطؤ المرتقب في الطلب، كما أن قرارات «أوبك» لم تعد محركًا رئيسًيا لأسواق النفط، وهو الأمر الذي ظهر بعد الاتفاق السعودي الروسي على خفض الإنتاج بشكل سري، وهو الأمر الذي اعتبر أنه تحالف بديل لـ«أوبك».

Embed from Getty Images

كما أن أي قرار لـ«أوبك» لن يحرك الأسعار بقوة بسبب الضبابية الكبيرة في السوق بحسب تعبير فاتح بيرول، مدير وكالة «الطاقة الدولية» الذي قال مؤخرًا: «إن أسواق النفط تدخل في فترة غير مسبوقة من الضبابية بسبب عدم الاستقرار الجيوسياسي وهشاشة الاقتصاد العالمي، بالإضافة إلى أنه مع بداية العام ستكون قطر قد انسحبت رسميًا من المنظمة، وهو انسحاب قد يأتي بعده انسحابات أخرى خلال العام».

العالم والاقتصاد

منذ 4 سنوات
4 أسئلة تشرح لك ما تريد معرفته عن انسحاب قطر من «أوبك»

على الجانب الآخر فإن السوق بصدد تحالفات جديدة قد تغير شكل المعادلة؛ خاصة التحالف السعودي الروسي والذي قد تنضم إليه أمريكا بصفة استشارية،  ما ينبئ بنظام جديد، ففي سبتمبر (أيلول) الماضي أبرمت السعودية وروسيا اتفاقًا سريًا بزيادة إنتاج النفط لتهدئة الأسعار التي كانت آخذة بالارتفاع حينها وأخطرتا الولايات المتحدة، هذا التحالف الذي غالبًا سيكون أكبر في 2019، سيغير من ملامح لعبة أسعار النفط، وقد تختلف القرارات كثيرًا عن تلك التي تخرج من أوبك.

خاصة أن ترامب وضع نفسه في 2018 أحد المحركات الأساسية لأسعار النفط العالمية، فالرئيس الأمريكي لا يريد أسعار نفط مرتفعة، ويُسخر كل إمكانياته السياسية لخدمة هذا الغرض؛ ويعتقد محللون كثيرون أن السعودية تتعرض لضغط من الولايات المتحدة لمقاومة دعوات من أعضاء آخرين في «أوبك» لخفض إنتاج الخام، بينما مارس ترامب ضغوطًا كبيرة على منتجي «أوبك» لزيادة الإنتاج في وقت سابق ونجح في ذلك، وهذه الضغوط قد تدخل ضمن الاتفاق على وجود تحالف بين الدول الثلاثة المذكورة وإن لم يكن تحالفًا معلنًا فإنه موجود ومؤثر بقوة في السوق.

أمريكا في 2019 تختلف عن السابق

بعيدًا عن الوضع الأمريكي سواءً من ناحية ضغوط ترامب أو الدور الاستشاري مع السعودية وروسيا، فإن أمريكا لها دور آخر محوري في السوق النفطي، ففي 2018 واصل الإنتاج الأمريكي الضغط على أسعار النفط، بتسجيل مستويات قياسية شهرًا تلو الآخر حتى وصل مستوى قياسيًّا عند 11.7 مليون برميل يوميًا في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ومن المتوقع أن تستمر هذه الزيادة.

النفط الأمريكي معروض في كل مكان… إنه يفرض الكثير من الضغوط على الخامات المحلية

كانت تلك كلمات أحد تجار النفط في أبريل (نيسان) الماضي، في إشارة إلى أن النفط الأمريكي يغرق الأسواق، بينما ينافس إنتاج روسيا والسعودية أكبر منتجين في العالم، إذ ترجح وكالة الطاقة الدولية أن تقود أمريكا نمو إنتاج النفط في 2019، إذ تقدر الوكالة إجمالي إمدادات النفط الأمريكية بواقع 1.3 مليون برميل يوميًا في 2019، بينما تتوقع إدارة معلومات الطاقة أن إنتاج الولايات المتحدة من الخام من المتوقع أن يبلغ في المتوسط 12.06 مليون برميل يوميًا في عام 2019، وهو أعلى مستوى على الإطلاق ستصل إليه أمريكا.

Embed from Getty Images

 

ضمنيًا تعتبر أمريكا الآن هي أكبر منتج للنفط في العالم متجاوزة روسيا والسعودية، إلا أن الأرقام لم تصدر بعد، لكن الأزمة لن تكون في الإنتاج ولكن في الصادرات، إذ إن الوضع الأمريكي حاليًا سيضغط بقوة على السوق ويشعل المنافسة على الحصص السوقية، وهو ما قد يجعل المنتجين قد لا يلتزمون باتفاقات الإنتاج سعيًا لإنقاذ حصصهم في السوق، بينما هناك أمر في غاية الأهمية وهو أن الصين قد تلجأ للنفط الأمريكي وتستبدله مكان الروسي والسعودي، من أجل الحفاظ على العلاقات الصينية الأمريكية وخفض حدة الحرب التجارية.

وحاليًا تعتبر الصين أكبر مشتر للخام الأمريكي بقيادة شركة «سينوبك»، بينما الهند وكوريا الجنوبية هما الأكبر بعد الصين، وهي الدول الأولى في الاستهلاك، ومن المتوقع أن تتزايد النسبة في 2019، ما يعني أن الوجود الأمريكي سيجعل حسابات السوق النفط تختلف تمامًا عما كان في السابق، لكن علينا أن ننتظر لنرى كيف ستتعامل الدول المنتجة الأخرى مع هذا التحدي وكيف سيتفاعل السوق من حيث الأسعار.

المصادر

تحميل المزيد